موسوعة التفسير

سُورةُ الأعرافِ
الآيات (150-153)

ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ ﭼ ﭽ ﭾ ﭿ ﮀ ﮁ ﮂ ﮃ ﮄ ﮅ ﮆ ﮇ ﮈ ﮉ ﮊ ﮋ ﮌ ﮍ ﮎ ﮏ ﮐ ﮑ ﮒ ﮓ ﮔ ﮕ ﮖ ﮗ ﮘ ﮙ ﮚ ﮛ ﮜ ﮝ ﮞ ﮟ ﮠ ﮡ ﮢ ﮣ ﮤ ﮥ ﮦ ﮧ ﮨ

غريب الكلمات :

أَسِفًا: أي: حزينًا، وقيل: شديدَ الغَضَبِ، يُقالُ: آسَفَني فأَسِفْتُ، أي: أغضبَني فغَضِبْتُ، والأَسَفُ: حزنٌ مَعَ غضَبٍ، وأَصْلُ (أسف): يدُلُّ على الفَوتِ والتَّلَهُّفِ [1737] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 173)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 59)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/103)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 119)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 114). .
فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ: أي: فلا تَسُرَّهم بما أَكْرَهُ؛ فالشَّماتَةُ: السُّرورُ بمكارِه الأَعداءِ، والفَرَحُ بِبَلِيَّةِ مَنْ تُعادِيه ويُعاديكَ [1738] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/460)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 162)، ((المفردات)) للراغب (ص: 463). .
وَذِلَّةٌ: الذِّلَّةُ: الصَّغَارُ والهوانُ، وأَصْلُ الذُّلِّ: الخُضوعُ، والاستِكانةُ، واللِّينُ، وهو ضِدُّ العِزِّ [1739] يُنظر: ((غريب القرآن)) للسجستاني (1/314)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/345)، ((المفردات)) للراغب (1/330)، ((التبيان)) لابن الهائم (1/78). .

مشكل الإعراب :

قولُه تعالى: قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي
ابْنَ أُمَّ: في إعرابِها وجهانِ؛ الأوَّلُ: أنَّه مُنادًى مبنيٌّ على الضَّمِّ المُقدَّرِ، في محلِّ نصْبٍ، ومَنَعَ من ظُهورِ الضَّمِّ على آخِرِه حَركةُ البِناءِ الأصليِّ، وهو فتْحُ الجُزأينِ؛ فهو تركيبٌ أشْبَهَ تركيبَ خَمْسَةَ عَشَرَ. الثَّاني: أنَّ ابْنَ مُنادًى منصوبٌ، وهو مُضافٌ، وأمَّ مُضافٌ إليه مجرورٌ بالكَسرةِ المُقدَّرةِ على الألفِ المحذوفةِ المنقلِبةِ عن الياءِ، وقدْ دَلَّ على الألفِ المحذوفةِ الفتحةُ [1740] يُنظر: ((مشكل إعراب القرآن لمكي)) (1/303)، ((التبيان في إعراب القرآن)) للعكبري (1/595- 596)، ((الدر المصون)) للسمين الحلبي (5/467)، ((إعراب القرآن الكريم)) للدعاس (1/397). .

المعنى الإجمالي :

يُخبِرُ تعالى أنَّه لَمَّا رجَعَ موسى من مُناجاةِ ربِّه جلَّ وعلا إلى قومِه، وهو شديدُ الغضَبِ حزينًا؛ لأنَّ اللهَ قد أخبَرَه أنَّ قومَه عبَدوا العِجْلَ مِنْ بعْدِه، قال لهم: بِئْسَ الخِلافةُ الَّتي خَلَفْتُموني مِنْ بَعْدِي؛ أَسْتَعْجَلْتُمْ مَجيئي إليكم من مُناجاةِ اللهِ قبْلَ الوقتِ الَّذي قدَّرَه اللهُ تعالى لِتَمامِ المَوْعِدِ؟! ورَمَى موسى عليه السَّلامُ الألواحَ، وأَخَذَ يَجُرُّ شَعْرَ أخيه هارونَ بشِدَّةٍ وغَضَبٍ، فقال له هارونُ: يا ابنَ أُمِّي، إنَّ القومَ الَّذينَ عبَدوا العِجْلَ استَضْعَفوني، وأَوْشَكوا أنْ يقتُلوني، فلا تُشْمِتْ بي الأعداءَ عَبَدَةَ العَجلِ بضَرْبي وإهانَتي، ولا تجعَلْني مع القومِ الظَّالمينَ.
قال موسى عليه السَّلام: ربِّ اغفِرْ لي ولأخي ذُنوبَنا، وأدخِلْنا في رحمتِكَ، وأنتَ أرحَمُ الرَّاحمينَ.
ثمَّ أخبَرَ تعالى أنَّ الَّذينَ اتَّخذوا العجلَ سيُصيبُهم غضَبٌ مِنَ اللهِ، وهوانٌ في الحياةِ الدُّنيا، وكذلك يَجزي سُبحانَه المفتَرين، والَّذينَ عمِلوا السَّيِّئاتِ، ثمَّ أنابوا إلى ربِّهم، ونَدِموا وأَقْلَعوا عنها، وآمَنوا، سيَغفِرُ اللهُ لهم مِنْ بَعْدِها ويرحمُهم؛ فإنَّه غَفورٌ رَحيمٌ.

تفسير الآيات :

وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150)
وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا
أي: ولَمَّا رجَعَ موسى من مُناجاةِ اللهِ إلى قومِه بني إسرائيلَ، وهو شديدُ الغضَبِ حزينًا، بعْدَ أنْ أعلَمَه اللهُ بعبادةِ قومِه العِجْلَ، عَقِبَ انصِرافِه عنهم [1741] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/449)، ((تفسير ابن عطية)) (2/456)، ((تفسير ابن كثير)) (3/476)، ((تفسير السعدي)) (ص: 303)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/113). قال الواحديُّ: (اختلَفوا في معنى الأَسِفِ؛ فقيل: الأَسِفُ: الشَّديدُ الغضَبُ، وهو قول أبي الدرداء، و...ابن عباس، واختيار الزجاج، واحتجُّوا بقوله تعالى: فَلَمَّا آسَفُونَا انْتَقَمْنَا مِنْهُمْ [الزخرف: 55] ، أي: أغضبونا، واختاره ابن قُتَيْبَةَ... وقال ابنُ عباس والسُّدِّيُّ والحسن: الآسِفُ: الحزينُ... والقولان مُتقارِبان؛ لأن الغضبَ من الحزن، والحزن من الغضب، فإذا جاءك ما تَكرَه ممَّن هو دونَك غضِبتَ، وإذا جاءك ممَّن هو فوقك حزِنتَ، يُسمَّى أحدُهما: حزنًا، والآخرُ: غضبًا، وأصْلُهما أنْ يُصيبَك ما تكرَه). ((البسيط)) (9/365- 366). ويُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 173)، ((معاني القرآن)) للزجاج (2/378)، ((زاد المسير)) لابن الجوزي (2/156)..
كما قال تعالى: وَمَا أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يَا مُوسَى * قَالَ هُمْ أُولَاءِ عَلَى أَثَرِي وَعَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضَى * قَالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَأَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ * فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا [طه: 83-86] .
قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي
أي: بِئْسَ الحالُ والفِعْلُ الَّذي قُمْتُمُوه مَقامي بعِبادتِكم العجلَ بعْدَ انصِرافي عنكم! وقدْ كنْتُ آمُرُكم بتوحيدِ اللهِ، وأُحَذِّرُكم من الشِّرْكِ [1742] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/450)، ((زاد المسير)) لابن الجوزي (2/156)، ((تفسير أبي حيان)) (5/180)، ((تفسير ابن كثير)) (3/476)، ((تفسير السعدي)) (ص: 303). .
كما قال تعالى: وَجَاوَزْنَا بِبَنِي إِسْرَائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلَى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلَى أَصْنَامٍ لَهُمْ قَالُوا يَا مُوسَى اجْعَلْ لَنَا إِلَهًا كَمَا لَهُمْ آلِهَةٌ قَالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ * إِنَّ هَؤُلَاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ * قَالَ أَغَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلَهًا وَهُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعَالَمِينَ [الأعراف: 138-140] .
وقال سُبحانَه: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجَاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذَابِ وَيُذَبِّحُونَ أَبْنَاءَكُمْ وَيَسْتَحْيُونَ نِسَاءَكُمْ وَفِي ذَلِكُمْ بَلَاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ * وَإِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَلَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذَابِي لَشَدِيدٌ * وَقَالَ مُوسَى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَمَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعًا فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ [إبراهيم: 6- 8] .
أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ
أي: هل استعجلتُم مَجيئي إليكم من مُناجاةِ اللهِ قبْلَ الوقتِ الَّذي قدَّرَه اللهُ تعالى لِتَمامِ هذا الموعِدِ، ولم تَنتظِروني، فعبَدْتُم العِجلَ، ولم تُحافظوا على ما وصَّيْتُكم به من عِبادةِ اللهِ حتَّى أرجِعَ إليكم بالخيرِ الَّذي أتَيْتُكم به مِن عِندِ اللهِ تعالى [1743] يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (1/552)، ((تفسير الزمخشري)) (2/161)، ((تفسير ابن عطية)) (2/457)، ((تفسير ابن جزي)) (1/302)، ((تفسير ابن كثير)) (3/476)، ((تفسير السعدي)) (ص: 303)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/115)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/179- 180)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (2/41). ؟!
كما قال تعالى: فَرَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ يَا قَوْمِ أَلَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْدًا حَسَنًا أَفَطَالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي [طه: 86] .
وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ
أي: ورَمى موسى عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ الألواحَ في الأرضِ؛ غَضَبًا على قومِه حينَ رآهم يَعبُدونَ العِجلَ [1744] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/451، 454)، ((تفسير ابن كثير)) (3/477)، ((تفسير السعدي)) (ص: 303)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/115). قال الرازيُّ: (ليس في القرآن إلَّا أنَّه أَلْقى الألواحَ، فأمَّا أنَّه ألْقاها بحيثُ تَكسَّرَتْ فهذا ليس في القُرآن). ((تفسير الرازي)) (15/372). وقال ابنُ عاشور: (وقَعَ في التَّوراةِ أنَّ الألواحَ تكسَّرَتْ حين ألقاها، وليس في القرآنِ ما يدُلُّ على ذلك سِوى أنَّ التعبيرَ بالإلقاء الذي هو الرَّمْيُ، وما رُوِيَ من أنَّ الألواح كانت من حَجَرٍ، يقتضي أنها اعتراها انكسارٌ، ولكنَّ ذلك الانكسارَ لا يُذهب ما احتوتْ عليه من الكتابة، وأمَّا ما رُوِيَ أنها لمَّا تكسَّرت ذهب سِتَّةُ أسباعِها، أو ذهب تفصيلُها وبَقِيَتْ موعظتُها، فهو مِن وَضْعِ القصَّاصين، والله تعالى يقول: وَلَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْوَاحَ وَفِي نُسْخَتِهَا هُدًى وَرَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ [الأعراف: 154] ). ((تفسير ابن عاشور)) (9/115- 116). وقال الشنقيطيُّ: (وكثيرٌ من المفسِّرين يقولون: إنَّه ألقاها إلقاءً قويًّا حتى تكسَّرت، وأنه رُفِعَ شيءٌ منها مع المكسَّرِ منها. وكلُّ هذا لا دليلَ عليه، ولم يَقُمْ عليه دليلٌ صحيحٌ لا في كتاب ولا من سُنَّةٍ، وظاهرُ القرآنِ أنَّها لم تتكسَّرْ، ولم يَضِعْ منها شيء؛ لأنه قال: وَلَمَّا سَكَتَ عَن مُّوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الأَلْوَاحَ [الأعراف: آية 154]، و(أل) هنا عَهْدِيَّةٌ، وهي الألواح المعهودةُ التي ألقاها). ((العذب النمير)) (4/181- 182)..
عن ابنِ عبَّاسٍ رضِيَ اللهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ليس الخَبَرُ كالمُعايَنَةِ، إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ أخبَرَ موسى بما صَنَعَ قومُه في العِجلِ، فَلَمْ يُلْقِ الألواحَ، فلمَّا عايَنَ ما صَنَعوا أَلْقى الألواحَ )) [1745] أخرجه أحمد (2447)، وعبد الله بن أحمد في ((السنة)) (1114)، وابن حبان في ((الصحيح)) (6213). قال ابنُ حجر في ((موافقة الخبر الخبر)) ( 2/139): له شاهدٌ. وصحَّح إسنادَه أحمد شاكر في ((مسند أحمد)) (4/147). وصحَّح الحديثَ الألبانيُّ في ((صحيح الجامع)) (5374 ). .
وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ
أي: وأَمْسَكَ موسى بشَعْرِ رأسِ أخيه هارونَ، وجعَلَ يَسحَبُه بشِدَّةٍ؛ غَضَبًا عليه [1746] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/457)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/410)، ((تفسير السعدي)) (ص: 303)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/65). قيل: غضِبَ موسى من هارونَ؛ لتَرْكِه اللَّحاقَ به إلى الطُّور، وإقامتِه مع بني إسرائيلَ بعد عبادتِهم العِجلَ. وهذا قول ابن جرير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/457). وقيل: خَشْيَةَ أن يكونَ قد قَصَّرَ في نَهْيِهم. وهذا قولُ ابنِ كثيرٍ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (3/477). وقيل: هذا تأنيبٌ لهارونَ على عدمِ أخْذِه بالشِّدَّةِ على عَبَدَةِ العِجلِ، واقتصارِه على تغييرِ ذلك عليهم بالقول. وهو قولُ ابنِ عاشورٍ. يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/65). .
كما قال تعالى: قَالَ يَاهَارُونُ مَا مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا * أَلَّا تَتَّبِعَنِ أَفَعَصَيْتَ أَمْرِي [طه: 92-93].
قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي
أي: قال هارونُ مُستعطِفًا موسى عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ: يا ابنَ أُمِّي، إنَّ الَّذينَ عبَدوا العِجلَ اعتقدوا أنِّي ضَعيفٌ واحتقَروني؛ فَلَمْ يُطيعوني عندما نَهَيْتُهم عن عِبادتِه [1747] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/460)، ((تفسير ابن عطية)) (2/457)، ((تفسير السعدي)) (ص: 304). .
كما قال الله تعالى: وَلَقَدْ قَالَ لَهُمْ هَارُونُ مِنْ قَبْلُ يَا قَوْمِ إِنَّمَا فُتِنْتُمْ بِهِ وَإِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمَنُ فَاتَّبِعُونِي وَأَطِيعُوا أَمْرِي * قَالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عَاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنَا مُوسَى [طه: 90-91] .
وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي
أي: وقال هارونُ لأخيه موسى عليهما الصَّلاةُ والسَّلامُ مُبَيِّنًا عُذْرًا آخَرَ: وقد أَوْشَكَ بنو إسرائيلَ على قَتْلي حين نَهَيْتُهم عن عبادةِ العِجلِ؛ فلا تَظُنَّ بي تقصيرًا [1748] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/460)، ((تفسير البغوي)) (2/236)، ((تفسير أبي السعود)) (3/274)، ((تفسير السعدي)) (ص: 304). قال الشوكاني: (أي: إني لم أُطِقْ تغييرَ ما فَعَلوه؛ لهذينِ الأمرينِ: استضعافِهم لي، ومقاربتِهم لقتْلي). ((تفسير الشوكاني)) (2/283). ويُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (3/274). .
فَلَا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْدَاءَ
أي: قال هارونُ لموسى ناهيًا له عن استمرارِه في أخْذِه بشَعْرِه: فلا تَسُرَّ أعدائي عَبَدَةَ العِجلِ بضَرْبي وإهانَتي [1749] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/460)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 414)، ((تفسير ابن عطية)) (2/457)، ((تفسير القرطبي)) (7/291)، ((تفسير أبي السعود)) (3/274)، ((تفسير السعدي)) (ص: 304)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/117- 118). .
كما قال تعالى: قَالَ يَبْنَؤُمَّ لَا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَلَا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرَائِيلَ وَلَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي [طه: 94] .
وَلَا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ
أي: ولا تَجعلْني في غضَبِكَ عليَّ، وعُقوبتِكَ لي، مع الَّذينَ عبَدوا العِجلَ، وفي عِدادِهم، والحالُ أنَّني لم أَعْصِ أمْرَكَ كما فعلوا [1750] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/461)، ((تفسير البغوي)) (2/236)، ((تفسير ابن كثير)) (3/477)، ((تفسير الشوكاني)) (2/284)، ((تفسير السعدي)) (ص: 304)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/118). .
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا اعْتَذَرَ هارون إلى موسى عليهما السلام، وتَحَقَّقَ مُوسَى عليه السَّلامُ براءَةَ ساحَتِه، وتبيَّنَ له عُذْرُه، وعَلِمَ أنَّه لم يُفرِّطْ في الواجبِ الَّذي كان عليه- دعا [1751] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/462)، ((تفسير ابن كثير)) (3/477). ، فقال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي؛ لِيُرْضيَ أخاه، ويُظهِرَ لأهلِ الشَّماتَةِ رِضاه عنه؛ فلا يَتِمَّ لهم شَماتتُهم، واستغفَرَ لنفسِه ممَّا فَرَطَ منه إلى أخيه، ولِأخيه أنْ عسَى فَرَّطَ في حِين الخِلافةِ، وطَلَبَ ألَّا يتفرَّقا عن رحمتِه، ولا تَزالَ مُتضمِّنَةً لهما في الدُّنيا والآخرةِ [1752] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (5/184). .
قَالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَلِأَخِي
أي: قال موسى داعيًا ربَّه: ربِّ اغفِرْ لي ذَنْبي فيما فعلْتُ بأخِي، وبَدَرَ منِّي من غضَبٍ وحِدَّةٍ عليه، واغفِرْ لأخِي هارونَ [1753] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/462)، ((تفسير الرازي)) (15/372)، ((تفسير السعدي)) (ص: 304)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/118). قال ابنُ عطية: (استغفَرَ موسى من فِعْلِه مع أخيه، ومن عَجَلَتِه في إلقاءِ الألواحِ، واستغفَرَ لأخيه من فِعْلِه في الصَّبرِ لبني إسرائيلَ، ويُمكِنُ بأنَّ الاستغفارَ كان لغيرِ هذا ممَّا لا نعلمُه، والله أعلم). ((تفسير ابن عطية)) (2/458). وذهب الرازيُّ، وابنُ عاشور إلى أنَّ طلب موسى المغفرةَ لأخيه كان لِمَا عسى أن يكونَ قد ظهَر من هارونَ مِن تَفريطٍ أو تساهُلٍ في ردْعِ عَبَدَةِ العِجلِ عن ذلك. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (15/372)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/118). .
وَأَدْخِلْنَا فِي رَحْمَتِكَ وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ
أي: وارحمْنا برَحمتِكَ الواسِعةِ، واجعَلْها مُحيطَةً بنا من كُلِّ جانِبٍ، وأنتَ أرحَمُ بعبادِكَ من كلِّ راحِمٍ [1754] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/462)، ((تفسير السعدي)) (ص: 304)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/118). .
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152)
إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنَالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ
أي: إنَّ الَّذينَ اتَّخذوا العِجلَ إلهًا سيُصيبُهم غضَبٌ من اللهِ [1755] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/462)، ((شمس العلوم)) لنشوان الحميري (10/6815)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/119). ، فلم يقبلِ اللهُ تعالى لهم توبةً، حتى قتلَ بعضُهم بعضًا [1756] ممَّن اختارَ هذا المعنى: ابنُ جرير، وابنُ كثير. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/462- 463)، ((تفسير ابن كثير)) (3/477). قال الشوكاني: (والأَوْلَى أنْ يُقيَّدَ الغضَبُ والذِّلَّةُ بالدُّنيا؛ لقوله: فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا، وإنَّ ذلك مُخْتَصٌّ بالمُتَّخِذين للعِجلِ إلهًا لا لِمَنْ بعدَهم من ذَرَارِيِّهمْ، ومُجرَّدُ ما أُمِروا به مِن قتْلِ أنفسِهم هو غضَبٌ من الله عليهم، وبه يَصيرون أذِلَّاءَ، وكذلك خروجُهم من دِيارهم هو مِن غضَبِ الله عليهم، وبه يصيرون أذِلَّاءَ). ((تفسير الشوكاني)) (2/284- 285). .
كما قال تعالى: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِقَوْمِهِ يَا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخَاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلَى بَارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بَارِئِكُمْ فَتَابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ [البقرة: 54] .
وقيل: غَضَبُ اللهِ هو عذابُه في الآخرةِ لِمَنْ لم يَتُبْ منهم من عِبادةِ العِجلِ [1757] ممَّن اختار هذا المعنى: الواحدي، والبغوي، يُنظر: ((الوسيط)) للواحدي (2/413)، ((تفسير البغوي)) (2/236). .
وَذِلَّةٌ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا
أي: وسَيَنالُ الَّذينَ عبَدوا العِجلَ هوانٌ في حَياتِهم الدُّنيا، فيَصيرونَ مَغلوبينَ؛ عقوبةً من اللهِ لهم بسببِ كُفْرِهم [1758] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/462- 463)، ((تفسير ابن كثير)) (3/477)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/119)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/184). قال ابنُ عاشور: (الذِّلَّةُ: خضوعٌ في النَّفسِ، واستِكانةٌ مِن جرَّاءِ العَجْزِ عن الدَّفْعِ، فمعنى نَيْلِ الذِّلَّة إيَّاهم: أنَّهم يَصيرون مغلوبين لِمَنْ يغلِبُهم؛ فقد يكون ذلك بتسليط العدُوِّ عليهم، أو بسَلْبِ الشجاعةِ من نُفوسِهم، بحيث يكونون خائفين العدُوَّ، ولو لم يُسَلَّطْ عليهم، أو ذِلَّةُ الاغترابِ؛ إذْ حَرَمَهم اللهُ مُلْكَ الأرضِ المقدَّسةِ؛ فكانوا بلا وَطَنٍ طول حياتِهم حتَّى انقرَضَ ذلك الجيلُ كلُّه، وهذه الذِّلَّةُ عقوبةٌ دُنيويَّةٌ قد لا تمحوها التوبةُ، فإن التوبةَ إنما تقتضي العفوَ عن عقابِ التكليفِ، ولا تَقتضي تَرْكَ المؤاخَذةِ بمصائبِ الدُّنيا؛ لأنَّ العقوباتِ الدُّنيويَّةَ مُسَبَّبَاتٌ تنشأُ عن أسبابِها، فلا يَلْزَمُ أن ترفَعَها التوبةُ إلا بعنايةٍ إلهيَّةٍ خاصَّةٍ). ((تفسير ابن عاشور)) (9/119). وقال الشِّنقيطيُّ: (قال جماعةٌ من العلماء: هذه الآيةُ من سورة الأعرافِ في طائفةٍ من بني إسرائيلَ أُشْرِبَتْ قلوبُهم حُبَّ العِجلِ، ولم يتوبوا فيمَن تاب، بل بَقُوا غيرَ تائبين، وَعَدَهم اللهُ هذا الوعيدَ، وهدَّدَهم هذا التَّهديدَ، وهذا هو الأظْهَرُ؛ لأنَّ المعروفَ أنَّ أكثرَ الإسرائيليِّين تاب من عبادةِ العِجلِ تلك التوبةَ العظيمةَ، حيث قدَّموا أنفُسَهم للقتل تائبين إلى الله، الواحدُ منهم يَجُودُ بنفسِه فيُقتَلُ مرضاةً للهِ، وإنابةً إليه). ((العذب النمير)) (4/184). وذهَب بعضُ المفسِّرين إلى أن المرادَ بالذِّلَّة هاهنا: الجزيةُ، وهذا اختيارُ الواحديِّ. يُنظر: ((التفسير الوسيط)) (2/413). قال ابنُ عطية: (وقال بعض المفسِّرين: الذِّلَّةُ: الجِزْيَةُ، ووَجْهُ هذا القولِ أن الغضَبَ والذِّلَّةَ بَقِيَتْ في عَقِبِ هؤلاء المقصودين بها أوَّلًا، وكأنَّ المرادَ سيَنالُ أعقابَهم). ((تفسير ابن عطية)) (2/458). .
وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ
أي: وكما جَزَيْتُ أولئك الَّذينَ عبَدوا العِجلَ بالغَضَبِ والذِّلَّةِ، نَجزي كُلَّ مَنْ كَذَبَ على اللهِ؛ فعبَدَ غيرَه، وشَرَعَ ما لم يأذَنْ به سُبحانَه [1759] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/463- 464)، ((تفسير السعدي)) (ص: 304)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/118). وممن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلف أبو قلابةَ، وسفيانُ بنُ عيينةَ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/464)، ((زاد المسير)) لابن الجوزي (2/157). .
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(153)
مُناسَبةُ الآيةِ لِمَا قَبْلَها:
لَمَّا ذَكَرَ اللهُ تعالى المُصِرِّينَ على المعصيةِ؛ عَطَفَ عليه التَّائبينَ؛ تَرغيبًا في مِثْلِ حالِهم، فقال تعالى [1760] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/92). :
وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ(153)
أي: والَّذينَ عمِلوا الأعمالَ السَّيِّئةَ من الشِّرْكِ والكُفْرِ والمعاصي، ثمَّ نَدِموا وأَقْلَعوا عن ذلك، وعَزَموا على ألَّا يعودوا إليه، وآمَنوا بما أَوْجَبَ اللهُ تعالى الإيمانَ به، إنَّ ربَّكَ- يا مُحَمَّدُ- مِن بعْدِ ارتكابِهم للسَّيِّئاتِ [1761] وهذا المعنى- وهو عَوْدُ الضَّميرِ في قوله تعالى: مِنْ بَعْدِهَا على السَّيِّئاتِ وفِعْلِها- هو اختيارُ ابنِ جرير، والقرطبيِّ، وابنِ كثيرٍ، وابن عاشورٍ، والشنقيطيِّ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/465)،((تفسير القرطبي)) (7/292)، ((تفسير ابن كثير)) (3/478)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/120)، ((العذب النمير)) للشنقيطي (4/185). وقيل: الضَّميرُ عائدٌ على التَّوبةِ من السَّيِّئاتِ. وهذا اختيارُ الواحديِّ، والسعدي. يُنظر: ((الوجيز)) للواحدي (ص: 415)، ((تفسير السعدي)) (ص: 304). لَساتِرٌ عليهم أعمالَهم السَّيِّئةَ، ومُتَجاوِزٌ عن مؤاخَذتِهم بها، ورَحيمٌ بهم بقَبولِ توبتِهم، وتوفيقِهم للأعمالِ الصَّالحةِ [1762] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/465- 466)، ((تفسير القرطبي)) (7/292)، ((تفسير ابن كثير)) (3/478)، ((تفسير السعدي)) (ص: 304)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/121). وقال الشنقيطيُّ: (لَغَفُورٌ، أي: كثيرُ المغفرةِ والرَّحمةِ لعبادِه). ((العذب النمير)) (4/185). .
كما قال تعالى: وَإِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ صَالِحًا ثُمَّ اهْتَدَى [طه: 82] .
وقال سُبحانَه: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهَالَةٍ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِ ذَلِكَ وَأَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [النحل: 119] .
وقال تبارَك وتعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53] .
وعن أَنَسِ بنِ مالكٍ رضِيَ اللهُ عنه، قال: سمِعْتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: ((قال اللهُ تبارَكَ وتعالى: يا ابنَ آدمَ، إنَّكَ ما دَعَوْتَني ورَجَوْتَني غَفَرْتُ لك على ما كان فيك ولا أُبالي، يا ابنَ آدمَ، لو بَلَغَتْ ذُنوبُكَ عَنانَ [1763] العَنانُ (بفتح العين): السَّحابُ، والواحِدةُ (عَنانةٌ). ينظر: ((غريب الحديث)) للقاسم بن سلام (4/84)، ((مختار الصحاح)) للرازي (ص: 220). السَّماءِ ثمَّ اسْتَغْفَرْتَني غَفَرْتُ لك ولا أُبالي، يا ابنَ آدمَ، إنَّكَ لو أَتَيْتَني بقُرابِ الأرضِ [1764] بقُراب الأرضِ: أي: بما يُقارِبُ مِلأَها. ينظر: ((النهاية)) لابن الأثير (4/34) ((المصباح المنير)) للفيومي (2/496). خَطايا ثمَّ لَقِيتَني لا تُشْرِكُ بي شيئًا لَأَتَيْتُكَ بقُرابِها مَغْفِرَةً )) [1765] أخرجه الترمذي (3540)، والطبراني في ((المعجم الأوسط)) (4305)، وابن شاهين في ((الترغيب في فضائل الأعمال)) (179). صحَّحه ابنُ القيِّم في ((مدارج السالكين)) (2/225 ). وقال ابنُ رجب في ((جامع العلوم)) (2/400): إسنادُه لا بأسَ به، وحسَّنه الألباني في ((السلسلة الصحيحة)) (127). .

الفوائد التربوية :

قولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ فيه دليلٌ على أنَّ السَّيِّئاتِ بِأَسْرِها- صغيرِها وكبيرِها- مشتركةٌ في التَّوبةِ، وأنَّ اللهَ تعالى يَغفِرُها جميعًا بفَضْلِه ورحمتِه، وهذا مِن أعظَمِ ما يُفيدُ البِشارةَ والفَرَحَ للمُذنِبينَ التَّائبينَ [1766] يُنظر: ((تفسيرالشربيني)) (1/520). .
الإيمانُ هو الأساسُ الَّذي لا يُقْبَلُ عمَلٌ لم يُبْنَ عليه، يُبيِّنُ ذلك قولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ [1767] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/92). .

الفوائد العلمية واللطائف :

قولُ اللهِ تعالى: أَعَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ فيه مِن اللَّطائفِ: أنَّه عبر هنا بالعجلةِ، ولم يُعبِّر بالسرعةِ؛ لأنَّه أنسبُ لفِعلِهم؛ فالعَجلةُ: التقدُّمُ بالشيءِ قبلَ وقْتِه، والسُّرعةُ: عملُه في أقلِّ أوقاتِه [1768] يُنظر: ((تفسير الماوردي)) (2/263). .
قولُ اللهِ تعالى: وَأَلْقَى الْأَلْوَاحَ وَأَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ، موسى صلواتُ اللهِ عليه لم يكُنْ ليُلْقيَ ألواحًا كتَبَها اللهُ تعالى، فيها كلامُه مِن على رأسِه إلى الأرضِ اختيارًا منه لذلك، ولا كان فيه مَصلحةٌ لبني إسرائيلَ، وكذلك جَرُّهُ هارونَ بلحيتِه ورأسِه وهو أخوه، وإنَّما حَمَلَه على ذلك الغَضَبُ؛ فعَذَرَه اللهُ سُبحانَه به، ولم يَعْتِبْ عليه بما فَعَلَ؛ إذ كان مصدرُه الغضَبَ الخارجَ عن قُدْرةِ العبْدِ واختيارِه؛ فالمُتَوَلِّدُ عنه غيرُ منسوبٍ إلى اختيارِه ورِضاه به [1769] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (ص: 34). .
كلُّ مُفتَرٍ على اللهِ، كاذبٍ على شَرْعِه، مُتَقَوِّلٍ عليه ما لم يَقُلْ؛ له نَصيبٌ من الغَضَبِ من اللهِ، والذُّلِّ في الحياةِ الدُّنيا، يُبيِّنُ ذلك قولُ اللهِ تعالى: وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ [1770] يُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص:303). .
قولُ اللهِ تعالى: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ، جَمَعَ السَّيِّئَاتِ؛ إعلامًا بأنَّه لا يَتَعاظَمُه ذَنْبٌ، وإنْ عَظُمَ وكَثُرَ [1771] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (8/92). .

بلاغة الآيات:

وَلَمَّا رَجَعَ مُوسَى إِلَى قَوْمِهِ غَضْبَانَ أَسِفًا قَالَ بِئْسَمَا خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي
قوله: أَسِفًا بدون مدٍّ صِيغةُ مبالغةٍ للآسِفِ (بالمدِّ)، الذي هو اسمُ فاعلٍ للذي حلَّ به الأسفُ [1772] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/114). .
وزِيادةُ مِنْ بَعْدِي عَقِب خَلَفْتُمُونِي؛ للتذكيرِ بالبَون الشاسعِ بينَ حال الخَلف وحال المخلوفِ عنه، تصويرًا لفظاعةِ ما خَلَفوه [1773] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/114). .
قوله: قَالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَكَادُوا يَقْتُلُونَنِي
قوله: ابْنَ أُمَّ مُنادًى بحذْفِ حرْف النِّداء، والنداء بهذا الوصفِ للتَّرقيقِ والاستشفاعِ، ولم يقُلْ: يا ابنَ أَبي، وهما لأبٍ واحدٍ وأُمٍّ واحدةٍ؛ استِعطافًا له على نفسِه بِرَحِمِ الأُمِّ، وحُذِفَ حرفُ النِّداءِ؛ لإظهارِ ما صاحَبَ هارونَ مِن الرُّعبِ والاضطرابِ، أو لأنَّ كلامَه هذا وقَع بعدَ كلامٍ سبَقَه فيه حرفُ النِّداء [1774] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (10/460)، ((تفسير ابن عاشور)) (9/116) .
وقوله: إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي فيه تأكيدُ الخبرِ بـ(إنَّ)؛ لتحقيقِه لدَى موسى، لأنَّه بحيثُ يُتردَّدُ فيه قَبْلَ إخبارِ المُخبِر به، والتأكيدُ يَستدعيه قَبولُ الخَبرِ للتردُّدِ مِن قِبَلِ إخبارِ المخبِر به، وإنْ كان المخبِرُ لا يُظَنُّ به الكذبُ، أو لئلَّا يُظنَّ به أنَّه توهَّم ذلك مِن حالِ قومِه، وكانتْ حالُهم دونَ ذلك [1775] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/117). .
قوله: وَأَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ تذييلٌ، والواو للحالِ أو اعتراضيَّة، وفيه مُبالَغةٌ؛ فإنَّ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ هو الأشدُّ رحمةً مِن كلِّ راحمٍ [1776] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/118). .
قوله: وَالَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئَاتِ ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ
قوله: مِنْ بَعْدِهَا تأكيدٌ لمفادِ المُهلة التي أفادَها حرف ثُمَّ في قوله: ثُمَّ تَابُوا، وهذا تعريضٌ للمشرِكينِ بأنَّهم إنْ آمَنوا يُغْفَرْ لهم، ولو طالَ أَمَدُ الشِّرْكِ عليهم [1777] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/121). .
وفي قولِه: ثُمَّ تَابُوا مِنْ بَعْدِهَا وَآمَنُوا عُطِفَ الإيمانُ على التوبةِ- مع أنَّ التوبةَ تَشملُه مِن حيثُ إنَّ الإيمانَ توبةٌ مِن الكُفر-؛ إمَّا للاهتمامِ به؛ لأنَّه أصلُ الاعتدادِ بالأعمالِ الصالحةِ عند الله تعالى، ولِئَلَّا يُظَنَّ أنَّ الإشراكَ لخُطورتِه لا تُنْجي منه التَّوبةُ، وإمَّا أنْ يُرادَ بالإيمانِ إيمانٌ خاصٌّ، وهو الإيمانُ بإخلاصٍ، فيَشمَلُ عمَلَ الواجباتِ [1778] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/121). .
وقولُه: إنَّ رَبَّكَ فيه تعريفُ المسنَدِ إليه (رب) بالإضافةِ؛ للتوسُّلِ إلى تَشريفِ المضافِ إليه بأنَّه مربوبٌ للهِ تعالى، وفي ذِكر وصْفِ الرُّبوبية هنا تمهيدٌ لوصْفِ الرَّحمةِ، وتأكيدُ الخبر بـ(إنَّ) ولامِ التوكيدِ وصِيغَتي المبالغةِ في لَغَفُورٌ رَحِيمٌ؛ لمزيدِ الاهتمامِ به؛ وترغيبًا للعُصاةِ في التوبةِ، وطردًا للقُنوطِ من نفوسِهم، وإنْ عظُمتْ ذُنوبُهم [1779] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/121). .
وضميرُ: مِنْ بَعْدِهَا الثاني في قوله: إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِهَا لَغَفُورٌ رَحِيمٌ مُبالغةٌ في الامتنانِ بقَبولِ تَوبتِهم بعدَ التملِّي من السيِّئاتِ، وحُذِفَ مُتعلِّقُ (غَفُور رَحِيم)؛ لظهورِه من السِّياقِ، والتقديرُ: لغفورٌ رحيمٌ لهم، أو لكلِّ مَن عَمِلَ سيِّئةً وتابَ منها [1780] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (9/121). .