موسوعة التفسير

سورةُ الطُّورِ
الآيات (29-36)

ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ ﯸ ﯹ ﯺ ﯻ ﯼ ﯽ ﯾ ﯿ ﰀ ﰁ ﰂ ﰃ ﰄ ﰅ ﰆ ﰇ ﰈ ﰉ ﰊ ﭑ ﭒ ﭓ ﭔ ﭕ ﭖ ﭗ ﭘ ﭙ ﭚ ﭛ ﭜ ﭝ ﭞ ﭟ ﭠ ﭡ ﭢ ﭣ ﭤ ﭥ ﭦ ﭧ ﭨ ﭩ ﭪ ﭫ ﭬ ﭭ ﭮ ﭯ ﭰ ﭱ ﭲ ﭳ ﭴ ﭵ ﭶ ﭷ ﭸ ﭹ ﭺ ﭻ

غريب الكلمات:

بِكَاهِنٍ: الكاهِنُ: هو الَّذي يُوهِمُ أنَّه يَعلمُ الغيبَ مِن غيرِ وحيٍ، وقيل: هو مَن يدَّعي عِلمَ الغَيبِ في المستقبَلِ. وقيل: هو الَّذي يُخبِرُ بالأخبارِ الماضيةِ الخَفيَّةِ بضَربٍ مِنَ الظَّنِّ [251] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/145)، ((المفردات)) للراغب (ص: 728)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 373)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 773)، ((مجموع فتاوى ورسائل العثيمين)) (10/760). .
نَتَرَبَّصُ: أي: نَنتَظِرُ، وأصل (ربص): يدُلُّ على الانتِظارِ [252] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (11/496)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/477)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 108). .
رَيْبَ الْمَنُونِ: أي: حوادِثَ الدَّهرِ وأوجاعَه ومصائِبَه؛ مِن قَولِهم: رابَه الأمرُ رَيبًا، أي: نابَه وأصابَه، والمَنُونُ: الدَّهرُ، وأصلُه مِنَ المَنِّ بمعنى القَطعِ؛ وذلك أنَّه يَقطَعُ الأعمالَ والأجَلَ، والمَنُونُ كذلك: المَوتُ؛ لأنَّه يَقطَعُ الأجَلَ [253] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 425)، ((تفسير ابن جرير)) (11/137)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 242)، ((البسيط)) للواحدي (20/500)، ((تفسير البغوي)) (7/391). .
أَحْلَامُهُمْ: أي: عُقولُهم، والعَقلُ والحِلمُ مِن بابٍ واحِدٍ مِن حيثُ المعنى؛ لأنَّ العَقلَ يَضبِطُ المرءَ فيَكونُ كالبَعيرِ المَعقولِ، والحِلمُ أيضًا سَبَبُ وَقارِ المَرءِ وثَباتِه، وقيل: الحِلْمُ: ضبْطُ النَّفْسِ والطَّبعِ عن هَيجانِ الغضبِ، ويُفَسَّرُ الحِلمُ بالعقلِ، لِكَونِه مِن مُسبَّباتِ العقلِ، وأصلُ (حلم) هنا: يدُلُّ على تَركِ العَجَلةِ [254] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/93)، ((المفردات)) للراغب (ص: 253)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 373)، ((تفسير الرازي)) (28/213)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 393). .
طَاغُونَ: أي: مُجاوِزونَ الحَدَّ في العِنادِ والكفرِ، وأصلُ (طغى): مُجاوَزةُ الحدِّ [255] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/551، 594)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/412)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 587)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/442). .
تَقَوَّلَهُ: أي: اختَلَقه وافتَعَله وافتَراه، والتَّقَوُّلُ أصلُه تَكَلُّفُ القولِ، ولا يُستعمَلُ إلَّا في الكذِبِ في الغالِبِ، وأصلُ (قول): يدُلُّ على النُّطقِ [256] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/596)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/42)، ((تفسير القرطبي)) (17/73)، ((الكليات)) للكفوي (ص: 321)، ((تفسير الشوكاني)) (5/ 120). .
يُوقِنُونَ: أي: يَعلَمونَ عِلمًا مُتمَكِّنًا في نُفوسِهم لا يَدخُلُه شَكٌّ، وأصلُ اليَقينِ: يدُلُّ على زَوالِ الشَّكِّ [257] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/157)، ((تفسير ابن عطية)) (1/86). .

المعنى الإجمالي:

يقولُ الله تعالَى آمِرًا رَسولَه صلَّى اللَّهِ عليه وسلَّم بأنْ يُبَلِّغَ رِسالَتَه إلى عِبادِه: فذكِّرِ النَّاسَ -يا محمَّدُ- بالقُرآنِ؛ فلَسْتَ بإنعامِ الله عليك بكاهِنٍ تدَّعي عِلمَ الغَيبِ، ولستَ بمَجنونٍ كما يَزعُمونَ!
ثمَّ يُبيِّنُ جانبًا مِن أكاذيبِ المشركينَ، وادِّعاءاتِهم الباطِلةِ في حقِّه صلَّى الله عليه وسلَّم، ويُلقِّنُه الرَّدَّ عليهم، فيقولُ: أم يَقولُ مُشرِكو قُرَيشٍ: مُحمَّدٌ شاعِرٌ ننتَظِرُ به حوادِثَ الدَّهرِ ومَصائِبَه! قُلْ -يا محمَّدُ- لهم: انتَظِروا ما يُصيبُني مِنَ الهَلاكِ؛ فإنِّي أيضًا مِنَ المُنتَظِرينَ ما يُصيبُكم مِن عذابِ اللهِ.
أم أمَرَتْهم عُقولُهم بهذا التَّكذيبِ والبُهتانِ؟! أمْ هم قَومٌ تجاوَزوا حُدودَ اللهِ؟!
أم يَقولُونَ: اختَلَق محمَّدٌ القُرآنَ مِن تِلْقاءِ نَفْسِه، ونَسَبَه إلى اللهِ تعالى كَذِبًا؟! ليس الأمرُ كما يَقولُونَ، بل لا يُؤمِنونَ بالحَقِّ الَّذي جاءَهم مِنَ اللهِ تعالى!
ثمَّ يقولُ تعالى متحدِّيًا لهم: فلْيَأْتوا بمِثْلِ هذا القُرآنِ إن كانوا صادِقينَ.
ثمَّ يقولُ تعالى مستدِلًّا عليهم بأمرٍ لا يمكنُهم فيه إلَّا التَّسليمُ للحقِّ: أم خُلِق أولئك المُشرِكونَ مِن غَيرِ خالِقٍ يَخلُقُهم؟! أم هم الخالِقونَ؟! أم خَلَقوا السَّمَواتِ والأرضَ؟! بل لا يُوقِنونَ!

تفسير الآيات:

فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان ما سَبَق معَ تشويقِه إلى الجنَّةِ والأعمالِ المُوصِلةِ إليها وَعْظًا يُرَقِّقُ القُلوبَ، ويُجَلِّي الكُروبَ؛ سَبَّبَ عنه قَولَه: فَذَكِّرْ أي: جَدِّدِ التَّذكيرَ بمِثلِ هذا لكُلِّ مَن يرجو خَيرَه، ودُمْ على ذلك [258] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/21). .
وأيضًا لَمَّا تَقدَّمَ إقسامُ اللهِ تعالى على وُقوعِ العَذابِ، وذَكَر أشياءَ مِن أحوالِ المعَذَّبينَ والنَّاجِينَ؛ أمَرَه بالتَّذكيرِ إنذارًا للكافِرِ، وتبشيرًا للمؤمِنِ، ودعاءً إلى اللهِ تعالى بنَشرِ رِسالتِه، ثمَّ نفَى عنه ما كان الكُفَّارُ يَنسُبونَه إليه مِن الكِهانةِ والجُنونِ؛ إذ كانا طريقَينِ إلى الإخبارِ ببَعضِ المُغَيَّباتِ، وكان للجِنِّ بهما مُلابَسةٌ للإنْسِ [259] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/573). .
فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ (29).
أي: فذكِّرِ النَّاسَ -يا محمَّدُ- بالقُرآنِ؛ فلَسْتَ -بإنعامِ اللهِ عليك- بكاهِنٍ تدَّعي عِلمَ الغَيبِ، ولستَ بمَجنونٍ فاقدٍ للعَقلِ كما يَزعُمونَ، بلْ ما تَقولُه وَحْيٌ مِنَ اللهِ تعالى [260] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/591)، ((معاني القرآن)) للزجاج (5/64)، ((الوسيط)) للواحدي (4/189)، ((تفسير الزمخشري)) (4/412)، ((تفسير القرطبي)) (17/71)، ((تفسير ابن كثير)) (7/436)، ((تفسير الشوكاني)) (5/119، 120)، ((تفسير السعدي)) (ص: 816)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 190). قال الشوكاني: (فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ أي: اثبُتْ على ما أنت عليه مِن الوعظِ والتَّذكيرِ، والباءُ مُتعلِّقةٌ بمحذوفٍ هو حالٌ، أي: ما أنت مُتلبِّسًا بنعمةِ ربِّك الَّتي أنعَمَ بها عليك مِن رَجاحةِ العقلِ والنُّبوَّةِ بكاهِنٍ ولا مجنونٍ. وقيل: بمحذوفٍ يدُلُّ عليه الكلامُ، أي: ما أنت في حالِ إذكارِك بنعمةِ ربِّك بكاهِنٍ ولا مجنونٍ. وقيل: الباءُ سببيَّةٌ مُتعلِّقةٌ بمَضمونِ الجملةِ المنفيَّةِ، والمعنى: انتفى عنك الكِهانةُ والجنونُ بسببِ نعمةِ الله عليك، كما تقولُ: ما أنا بمُعسِرٍ بحمدِ الله. وقيل: الباءُ للقسَمِ، متوَسِّطةٌ بيْنَ اسمِ «ما» وخبَرِها، والتَّقديرُ: ما أنت ونعمةِ الله بكاهِنٍ ولا مجنونٍ). ((تفسيرالشوكاني)) (5/119). ممَّن اختار أنَّ معنى بِنِعْمَةِ رَبِّكَ أي: بإنعامِه عليك بالنُّبوَّةِ وما أنزَل عليك مِن الوحيِ: ابنُ الجوزي، والنسفي، والبِقاعي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن الجوزي)) (4/179)، ((تفسير النسفي)) (3/385)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/21)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 190). وممَّن اختار في الجملةِ أنَّ المعنى: ما أنت بحمدِ الله وإنعامِه: ابنُ أبي زَمَنين، والزمخشريُّ، والبيضاوي، وابن كثير. يُنظر: ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/300)، ((تفسير الزمخشري)) (4/412)، ((تفسير البيضاوي)) (5/154)، ((تفسير ابن كثير)) (7/436). وممَّن اختار أنَّ المعنى: برحمتِه وعِصمتِه: البغويُّ، والخازنُ. يُنظر: ((تفسير البغوي)) (4/294)، ((تفسير الخازن)) (4/200). .
كما قال تعالى: وَمَا هُوَ بِقَوْلِ شَاعِرٍ قَلِيلًا مَا تُؤْمِنُونَ * وَلَا بِقَوْلِ كَاهِنٍ قَلِيلًا مَا تَذَكَّرُونَ [الحاقة: 41، 42].
وقال سُبحانَه: وَمَا صَاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ [التكوير: 22].
أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30).
أي: أم [261] ممَّن اختار أنَّ «أمْ» هنا للاستِفهامِ: الخليلُ -كما في ((تفسير الشوكاني)) (5/119)- والسَّمعانيُّ، وابن جُزَي، والمعنى: أيَقولون شاعرٌ؟ يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/276)، ((تفسير ابن جزي)) (2/313). قال ابن جُزَي: («أم» في هذا الموضِعِ وفيما بعدَه للاستِفهامِ بمعنى الإنكارِ). ((تفسير ابن جزي)) (2/313). وممَّن اختار أنَّ «أمْ» هي المُنقَطِعةُ: الرَّسْعَنيُّ، والعُلَيمي، والشوكاني، والشنقيطي، وابنُ عثيمين. يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (7/451)، ((تفسير العليمي)) (6/425)، ((تفسير الشوكاني)) (5/119)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/459)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 191). وفي «أم» المُنقطِعةِ خِلافٌ: هل هي مُقَدَّرةٌ بـ (بَلْ) والهمزةِ، أو بـ (بَلْ) وحْدَها؟ ونصَّ الرَّسْعَنيُّ، والعُلَيمي، وابنُ عثيمينَ على أنَّها بمعنى (بل) والهمزةِ، والمعنى: بل أيَقولون. ويُنظر: ((تفسير الشوكاني)) (5/119). قال النسفي: (و«أمْ» في أوائلِ هذه الآيِ مُنقطِعةٌ بمعنى بلْ والهمزةِ). ((تفسير النسفي)) (3/386)، وذكَر الرَّسْعَنيُّ أيضًا أنَّ هذا هو معنى «أم» في هذه الآيةِ والآياتِ التي تَليها. يُنظر: ((تفسير الرسعني)) (7/451). ومذهَبُ البصريِّينَ أنَّ (أم) المنقَطِعةَ بمعنى (بل) والهمزةِ، وذهَب الكِسائيُّ وهشامٌ إلى أنَّها بمعنى (بلْ) فقط، واختار ابنُ مالكٍ أنَّ الأصلَ فيها الإضرابُ (معنى بل)، والأكثَرُ أنَّها تُفيدُ الاستِفهامَ مع الإضرابِ، واختار ابنُ هشامٍ أنَّها قد تأتي بمعنى (بلْ) وحْدَها، وقد تأتي بمعنى (بلْ) والهمزةِ. يُنظر: ((شرح التسهيل)) لابن مالك (3/362)، ((شرح الكافية الشافية)) لابن مالك (3/1219)، ((الجنى الداني في حروف المعاني)) للمرادي (ص: 205)، ((شرح شذور الذهب)) لابن هشام (ص: 580)، ((المساعد على تسهيل الفوائد)) لابن عقيل (2/456). وقال ابن القيم في تفسيرِ أَمْ المُنقطِعةِ: (الحقُّ أن يُقالَ: إنَّها على بابِها وأصلِها الأوَّلِ مِن المُعادَلةِ والاستِفهامِ حيث وقعتْ، وإن لم يكُنْ قبْلَها أداةُ استِفهامٍ في اللَّفظِ، وتقديرُها بـ «بَلْ» والهمزةِ خارجٌ عن أُصولِ اللُّغةِ العربيَّةِ). ((بدائع الفوائد)) (1/206، 207). ويُنظر: ((نتائج الفكر في النحو)) للسهيلي (ص: 205، 206). وقال الشوكاني: (قال سيبوَيْهِ: خُوطِبَ العبادُ بما جَرَى في كلامِهم. قال النَّحَّاسُ: يريدُ سيبويهِ أنَّ «أمْ» في كلامِ العربِ للخروجِ مِن حديثٍ إلى حديثٍ). ((تفسير الشوكاني)) (5/119). يَقولُ مُشرِكو قُرَيشٍ: مُحمَّدٌ شاعِرٌ ننتَظِرُ به حوادِثَ الدَّهرِ وقوارِعَه، فيَموتُ ويَهلِكُ كما هَلكَ مَن قَبْلَه مِنَ الشُّعراءِ، ونَستريحُ منه ومِن شَأنِه [262] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/592)، ((تفسير القرطبي)) (17/71)، ((تفسير ابن كثير)) (7/436)، ((تفسير السعدي)) (ص: 816)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/459)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 191). قال ابنُ عثيمين: (قيل: إنَّ المَنُونَ: هو الدَّهرُ. وقيل: إنَّ المَنُونَ هو الموتُ، وهما مُتلازِمانِ، والمرادُ بذلك حوادِثُ الدَّهرِ المُهلِكةُ المُبيدةُ). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 191). ؟!
قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31).
أي: قُلْ -يا محمَّدُ- لأولئك المُشرِكينَ: انتَظِروا ما يُصيبُني مِنَ الهَلاكِ؛ فإنِّي أيضًا مِنَ المُنتَظِرينَ ما يُصيبُكم مِن عذابِ اللهِ، وسنَعلَمُ لِمَن تكونُ العاقِبةُ الحَسَنةُ [263] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/594)، ((تفسير القرطبي)) (17/73)، ((تفسير ابن كثير)) (7/436)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 191، 192). !
كما قال تعالى: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [التوبة: 52] .
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ (32).
أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا.
أي: هل أمَرَتْهم عُقولُهم بهذا التَّكذيبِ للرَّسولِ، ووَصْفِه بالباطِلِ [264] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/594)، ((تفسير القرطبي)) (17/73)، ((تفسير ابن كثير)) (7/436)، ((تفسير السعدي)) (ص: 816)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 192). ؟!
أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ.
أي: أمْ هم قَومٌ تجاوَزوا حُدودَ اللهِ، فحَمَلَهم طُغيانُهم هذا على تَكذيبِ الرَّسولِ، ورَمْيِه بالباطِلِ [265] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/594)، ((تفسير ابن عطية)) (5/192)، ((تفسير ابن كثير)) (7/436)، ((تفسير السعدي)) (ص: 816)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/64)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 192). ؟!
أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ (33).
أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ.
أي: أم يَقولُونَ: اختَلَق محمَّدٌ القُرآنَ مِن تِلْقاءِ نَفْسِه، ونَسَبَه إلى اللهِ تعالى كَذِبًا [266] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/596)، ((تفسير القرطبي)) (17/73)، ((تفسير ابن كثير)) (7/436)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/65)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 192). ؟!
كما قال تعالَى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [يونس: 38] .
وقال سُبحانَه: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ [السجدة: 3] .
بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ.
أي: ليس الأمرُ كما يَقولُونَ، بل هم غَيرُ مُؤمِنينَ بالحَقِّ الَّذي جاءَهم مِنَ اللهِ تعالى، ولو آمَنوا لَمَا قالوا ما قالوا [267] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/596)، ((تفسير القرطبي)) (17/73)، ((تفسير ابن كثير)) (7/436)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/65). .
قال الله تبارك وتعالى: فَإِنَّهُمْ لَا يُكَذِّبُونَكَ وَلَكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآَيَاتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ [الأنعام: 33] .
ثمَّ ردَّ الله عليهم جميعَ ما زعَموا وتحدَّاهم فى دحضِ ما قالوا، فقال [268] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (27/32). :
فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ (34).
أي: فلْيَأْتِ المُشرِكونَ بمِثْلِ هذا القُرآنِ إن كانوا صادِقينَ في دَعواهم أنَّ مُحمَّدًا افتَراه وتقَوَّلَه مِن عندِ نَفْسِه، فإنْ عَجَزوا عن ذلك فإنَّهم كاذِبونَ [269] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/596)، ((تفسير القرطبي)) (17/73)، ((تفسير ابن كثير)) (7/436)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/65-67). قال ابن عاشور: (يجوزُ أن يكونَ الحديثُ هنا قد أُطلِقَ على الكلامِ... أي: فلْيَأتوا بكلامٍ مِثلِه، أي: في غَرَضٍ مِن الأغراضِ الَّتي يَشتَمِلُ عليها القُرآنُ، لا خُصوصِ الأخبارِ. ويجوزُ أن يكونَ الحَديثُ هنا أُطلِقَ على الأخبارِ، أي: فلْيأتوا بأخبارٍ مِثلِ قَصَصِ القُرآنِ، فيَكونَ استِنزالًا لهم؛ فإنَّ التَّكَلُّمَ بالأخبارِ أسهَلُ على المتكَلِّمِ مِن ابتكارِ الأغراضِ الَّتي يتكَلَّمُ فيها؛ فإنَّهم كانوا يقولونَ: إنَّ القُرآنَ «أساطيرُ الأوَّلينَ»، أي: أخبارٌ عن الأُمَمِ الماضِينَ، فقِيلَ لهم: فلْيأتوا بأخبارٍ مِثلِ أخبارِه؛ لأنَّ الإتيانَ بمِثلِ ما في القُرآنِ مِن المعارِفِ والشَّرائعِ والدَّلائِلِ لا قِبَلَ لعُقولِهم به، وقُصاراهم أن يَفهَموا ذلك إذا سَمِعوه. ومعنى المِثْليَّةِ في قَولِه: مِثْلِهِ المِثْليَّةُ في فَصاحتِه وبلاغتِه، وهي خُصوصيَّاتٌ يُدرِكونَها إذا سَمِعوها، ولا تحيطُ قرائِحُهم بإيداعِها في كلامِهم). ((تفسير ابن عاشور)) (27/66). .
كما قال تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَأَنْ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ [هود: 13، 14].
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ (35).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كَذَّبوا النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ونَسَبوه إلى الكِهانةِ والجُنونِ والشِّعرِ، وبَرَّأه اللهُ مِن ذلك؛ ذكَرَ الدَّليلَ على صِدقِه إبطالًا لتَكذيبِهم، وبَدَأ بأنفُسِهم، كأنَّه يقولُ: كيف يُكَذِّبونَه وفي أنفُسِهم دَليلُ صِدقِه [270] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/215). ؟!
ما ورد في هذه الآيةِ والآيتَينِ بعدَها:
عن جُبَيرِ بنِ مُطعِمٍ رضيَ الله عنه، قال: ((سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يَقرَأُ في المَغرِبِ بالطُّورِ، فلمَّا بَلَغ هذه الآيةَ: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ * أَمْ عِنْدَهُمْ خَزَائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُسَيْطِرُونَ قال: كاد قَلبي أن يَطيرَ [271] قال الخَطَّابي: (إنَّما كان انزِعاجُه عندَ سَماعِ هذه الآيةِ لحُسنِ تَلَقِّيه معنى الآيةِ، ومَعرفتِه بما تضَمَّنَتْه مِن بليغِ الحُجَّةِ، فاستَدرَكَها واستشَفَّ مَعناها بذَكِيِّ فَهْمِه). ((أعلام الحديث)) (3/1912). وقال ابن عثيمين: («كاد قلبي يطيرُ»؛ لقُوَّةِ هذا الدَّليلِ المُفحِمِ المُقنِعِ حتَّى دخَل الإيمانُ في قَلبِه، ثمَّ اطمأنَّ الإيمانُ في قلبِه بعدَ ذلك؛ لأنَّ هذه الآيةَ دليلٌ واضِحٌ على أنَّ الخَلْقَ حادِثٌ بعدَ أنْ لم يكُنْ، وأنَّ الَّذي أحدَثَه هو الله). ((فتح ذي الجلال والإكرام)) (2/90). !)) [272] أخرجه البخاريُّ (4854) واللَّفظُ له، ومسلمٌ (463) مختصرًا. .
وفي روايةٍ قال: (وذلك أوَّلَ ما وقَرَ [273] وقَر: أي: ثبَت. يُنظر: ((التوضيح لشرح الجامع الصحيح)) لابن الملقن (21/99). الإيمانُ في قلبي [274] قال ابنُ كثيرٍ: (وجُبَيْرُ بنُ مُطْعِمٍ كان قد قَدِم على النَّبيِّ صلَّى الله عليه وسلَّم بعدَ وَقْعةِ بَدْرٍ في فِداءِ الأُسارَى، وكان إذ ذاك مُشرِكًا، وكان سماعُه هذه الآيةَ مِن هذه السُّورةِ مِن جُملةِ ما حَمَله على الدُّخولِ في الإسلامِ بعدَ ذلك). ((تفسير ابن كثير)) (7/437). وقال القَسْطَلَّاني: (وقد كان حِينَئذٍ كافِرًا، ولم يَنطِقْ بالإسلامِ والتزَمَ أحكامَه إلَّا عندَ فَتحِ مكَّةَ). ((إرشاد الساري)) (6/273). [275] أخرجها البخاري (4023). .
أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ.
أي: أم خُلِق أولئك المُشرِكونَ مِن غَيرِ خالِقٍ يَخلُقُهم [276] يُنظر: ((تفسير السمرقندي)) (3/355)، ((تفسير السمعاني)) (5/278)، ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (18/236)، ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (2/493)، ((تفسير ابن كثير)) (7/437)، ((تفسير الشوكاني)) (5/121)، ((تفسير السعدي)) (ص: 816)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 194). وممَّن ذهَب إلى هذا المعنى المذكورِ: السمرقنديُّ، واستظهره السمعانيُّ، وذهب إليه ابنُ تيميَّةَ ونَسَبه إلى الأكثَرينَ، واختاره ابنُ القيِّم، وابنُ كثير، والشوكانيُّ، والسعديُّ، وابنُ عثيمين. يُنظر: المصادر السَّابقة. وممَّن قال بنحوِ هذا القولِ مِن السَّلفِ: ابنُ عبَّاسٍ. يُنظر: ((تفسير الثعلبي)) (9/131)، ((تفسير البغوي)) (4/295). وقيل: المعنى: أخُلِق المُشرِكونَ مِن غَيرِ آباءٍ ولا أمَّهاتٍ، فهم كالجَمادِ لا يَعقِلونَ؟! وممَّن ذهب إليه: ابنُ جرير، ومكِّي. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/596)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7131). وقيل: المعنى: أم خُلِقوا باطِلًا لِغَيرِ شَيءٍ، فهم لا يُؤمَرونَ ولا يُنهَونَ ولا يُحاسَبونَ؟! وممَّن اختار هذا المعنى: الواحديُّ، وأبو القاسمِ النَّيْسابوريُّ، وذكره الزَّجَّاجُ قَولًا في الآيةِ. يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (5/65)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1036)، ((إيجاز البيان)) لأبي القاسم النيسابوري (2/769). وقال ابنُ أبي زَمَنين: (أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أي: لم يُخلَقوا مِن غَيرِ شَيءٍ، خَلَقْناهم مِن نُطفةٍ، وأوَّلُ ذلك مِن ترابٍ). ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/301). ويُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/216). قال ابنُ تيميَّةَ: (وقيل: أم خُلِقوا مِن غيرِ مادَّةٍ؟ وهذا ضعيفٌ؛ لِقَولِه بعد ذلك: أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، فدَلَّ ذلك على أنَّ التَّقسيمَ: أم خُلِقوا مِن غيرِ خالِقٍ، أم هم الخالِقون؟ ولو كان المرادُ مِن غيرِ مادَّةٍ، لَقال: أم خُلِقوا مِن غيرِ شَيءٍ أم مِن ماءٍ مَهِينٍ؟ فدَلَّ على أنَّ المرادَ: أنَا خالِقُهم لا مادَّتُهم، ولأنَّ كَونَهم خُلِقوا مِن غيرِ مادَّةٍ ليس فيه تعطيلُ وُجودِ الخالِقِ، فلو ظَنُّوا ذلك لم يَقدَحْ في إيمانِهم بالخالِقِ، بل دَلَّ على جَهْلِهم، ولأنَّهم لم يَظُنُّوا ذلك، ولا يُوسْوِسُ الشَّيطانُ لابنِ آدَمَ بذلك، بل كلُّهم يَعرِفونَ أنَّهم خُلِقوا مِن آبائِهم وأُمَّهاتِهم، ولأنَّ اعتِرافَهم بذلك لا يُوجِبُ إيمانَهم، ولا يَمنَعُ كُفرَهم). ((مجموع الفتاوى)) (18/236). وقال الرازي: (ما المرادُ مِن قولِه تعالى: مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ؟ نقولُ: فيه وُجوهٌ، المنقولُ منها أنَّهم خُلِقوا مِن غيرِ خالقٍ. وقيل: إنَّهم خُلِقوا لا لِشَيءٍ عبَثًا. وقيل: إنَّهم خُلِقوا مِن غيرِ أبٍ وأمٍّ. ويحتمِلُ أن يُقالَ: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ، أي: ألم يُخلَقوا مِن ترابٍ أو مِن ماءٍ؟ ودليلُه قولُه تعالى: أَلَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ مَاءٍ مَهِينٍ [المرسلات: 20]. ويحتملُ أن يُقالَ: الاستِفهامُ الثَّاني ليس بمعنى النَّفيِ، بل هو بمعنى الإثباتِ؛ قال الله تعالى: أَأَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخَالِقُونَ [الواقعة: 59] وأَأَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ [الواقعة: 64] وأَأَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَهَا أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِئُونَ [الواقعة: 72] كلُّ ذلك في الأوَّلِ مَنفيٌّ، وفي الثَّاني مُثبَتٌ، كذلك هاهنا قال الله تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أي: الصَّادقُ هو هذا الثَّاني حينَئذٍ، وهذا كما في قولِه تعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان: 1] ، فإن قيل: كيف يكونُ ذلك الإثبات، والآدميُّ خُلِق مِن تُرابٍ؟ نقولُ: والتُّرابُ خُلِق مِن غيرِ شَيءٍ، فالإنسانُ إذا نظَرْتَ إلى خَلقِه وأسنَدْتَ النَّظرَ إلى ابتِداءِ أمرِه وجَدْتَه خُلِق مِن غيرِ شَيءٍ. أوْ نقول: المرادُ: أمْ خُلِقوا مِن غيرِ شَيءٍ مَذكورٍ أو مُعتبَرٍ، وهو الماءُ المَهِينُ). ((تفسير الرازي)) (28/216). ؟!
أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ.
أي: أم هم الخالِقونَ لأنفُسِهم أو لِغَيرِهم مِنَ المخلوقاتِ [277] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/596)، ((تفسير القرطبي)) (17/74)، ((تفسير ابن كثير)) (7/436)، ((تفسير السعدي)) (ص: 816)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/69)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 194). قال القرطبي: (أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، أي: أَيقولونَ إنَّهم خَلَقوا أنفُسَهم فهم لا يأتَمِرونَ لأمرِ اللهِ، وهم لا يقولونَ ذلك، وإذا أقرُّوا أنَّ ثَمَّ خالِقًا غَيرَهم فما الذي يمنَعُهم مِنَ الإقرارِ له بالعبادةِ دونَ الأصنامِ، ومِنَ الإقرارِ بأنَّه قادِرٌ على البَعثِ؟). ((تفسير القرطبي)) (17/74). ؟!
قال تعالى: أَوَلَا يَذْكُرُ الْإِنْسَانُ أَنَّا خَلَقْنَاهُ مِنْ قَبْلُ وَلَمْ يَكُ شَيْئًا [مريم: 67] .
وقال تبارك وتعالى: هَلْ أَتَى عَلَى الْإِنْسَانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئًا مَذْكُورًا [الإنسان: 1] .
أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ (36).
أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ.
أي: أمْ هم الَّذين خَلَقوا السَّمَواتِ والأرضَ [278] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/596)، ((تفسير القرطبي)) (17/74)، ((تفسير ابن كثير)) (7/437)، ((تفسير السعدي)) (ص: 816)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 196). قال ابنُ القيِّم: (فإنْ قِيلَ: فما مَوقِعُ قَولِه: أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ مِن هذه الحُجَّةِ؟ قيل: أحسَنُ مَوقِعٍ؛ فإنَّه بَيَّن بالقِسمَينِ الأوَّلَينِ أنَّ لهم خالِقًا وفاطِرًا، وأنَّهم مخلوقونَ، وبَيَّن بالقِسمِ الثَّالِثِ أنَّهم بعدَ أنْ وُجِدوا وخُلِقوا فهم عاجِزونَ غَيرُ خالِقينَ؛ فإنَّهم لم يَخلُقوا نُفوسَهم، ولم يخلُقوا السَّمَواتِ والأرضَ؛ وأنَّ الواحِدَ القَهَّارَ الَّذي لا إلهَ غَيرُه ولا رَبَّ سِواه هو الَّذي خلَقَهم وخَلَق السَّمَواتِ والأرضَ؛ فهو المتفَرِّدُ بخَلقِ المَسكَنِ والسَّاكِنِ، بخَلقِ العالَمِ العُلويِّ والسُّفليِّ وما فيه). ((الصواعق المرسلة)) (2/494). وقال ابنُ عاشورٍ: (المعنى: أنَّ الَّذي خَلَق السَّمَواتِ والأرضَ لا يُعجِزُه إعادةُ الأجسادِ بعدَ الموتِ والفَناءِ). ((تفسير ابن عاشور)) (27/69). ؟!
قال تعالى: وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لَا يَعْلَمُونَ [لقمان: 25] .
بَل لَا يُوقِنُونَ.
أي: لم يَخلُقِ المُشرِكونَ ذلك، ولكِنْ عَدَمُ يَقينِهم بالحَقِّ هو الَّذي حمَلَهم على تَرْكِه، والوُقوعِ في الباطِلِ [279] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/596)، ((تفسير الزمخشري)) (4/414)، ((تفسير القرطبي)) (17/74)، ((تفسير ابن كثير)) (7/437)، ((تفسير السعدي)) (ص: 816)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/69، 70)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 196، 197). قال ابن جرير: (لا يُوقِنونَ بوَعيدِ اللهِ وما أعَدَّ لأهلِ الكُفرِ به مِنَ العَذابِ في الآخِرةِ). ((تفسير ابن جرير)) (21/597). وقال الزمخشري: (إذا سُئِلوا مَن خَلَقَكم وخَلَق السَّمَواتِ والأرضَ؟ قالوا: اللهُ، وهم شاكُّونَ فيما يقولونَ، لا يُوقِنونَ). ((تفسير الزمخشري)) (4/414). وقال السعدي: (لَكِنَّ المُكَذِّبينَ لَا يُوقِنُونَ أي: ليس عِندَهم عِلمٌ تامٌّ، ويَقينٌ يُوجِبُ لهم الانتِفاعَ بالأدِلَّةِ الشَّرعيَّةِ والعَقليَّةِ). ((تفسير السعدي)) (ص: 816). وقال ابنُ عثيمين: (ليس عندَهم إيقانٌ في خَلقِ السَّمَواتِ والأرضِ؛ أنَّ الَّذي خلَقَهم هو الله؛ لأنَّه لو كان عندَهم يَقينٌ لَحمَلَهم هذا اليَقينُ على تصديقِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم والإقرارِ برسالتِه). ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 196، 197). .

الفوائد التربوية:

قال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ تأمَّلْ هذا التَّرديدَ والحَصرَ المتضَمِّنَ لإقامةِ الحُجَّةِ بأقرَبِ طَريقٍ، وأفصَحِ عِبارةٍ؛ يقولُ تعالى: هؤلاء مخلوقونَ بعدَ أنْ لم يَكونوا، فهل خُلِقوا مِن غيرِ خالِقٍ خَلَقَهم؟! فهذا مِنَ المُحالِ المُمتَنِعِ عندَ كُلِّ مَن له فَهمٌ وعَقلٌ؛ أن يكونَ مَصنوعٌ مِن غيرِ صانِعٍ، ومخلوقٌ مِن غيرِ خالقٍ. ولو مَرَّ رجُلٌ بأرضٍ قَفرٍ لا بِناءَ فيها، ثمَّ مَرَّ بها فرأى فيها بُنيانًا وقُصورًا وعِماراتٍ مُحكَمةً؛ لم يتخالَجْه شَكٌّ ولا رَيبٌ أنَّ صانِعًا صنَعَها، وبانيًا بناها. ثمَّ قال: أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ، وهذا أيضًا مِن المُستَحيلِ؛ أن يكونَ العَبدُ مُوجِدًا خالِقًا لنَفْسِه؛ فإنَّ مَن لا يَقدِرُ أن يَزيدَ في حياتِه بعدَ وُجودِه وتَعاطِيه أسبابَ الحياةِ ساعةً واحِدةً، ولا إِصْبَعًا ولا ظُفُرًا ولا شَعرةً، كيف يكونُ خالِقًا لنَفْسِه في حالِ عَدَمِه؟!
وإذا بَطَل القِسمانِ تعَيَّنَ أنَّ لهم خالِقًا خلَقَهم، وفاطِرًا فطَرَهم؛ فهو الإلهُ الحَقُّ الَّذي يَستَحِقُّ عليهم العِبادةَ والشُّكرَ، فكيف يُشرِكونَ به إلهًا غَيرَه وهو وَحْدَه الخالِقُ لهم [280] يُنظر: ((الصواعق المرسلة)) لابن القيم (2/493، 494). ؟!

الفوائد العلمية واللطائف:

1- في قَولِه تعالى: فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ قد اكْتُفِيَ في إبطالِ كَونِه كاهنًا أو مَجنونًا بمُجرَّدِ النَّفيِ دونِ استِدلالٍ عليه؛ لأنَّ مُجرَّدَ التَّأمُّلِ في حالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ كافٍ في تَحقُّقِ انتفاءِ ذَينِكَ الوصْفَينِ عنه، فلا يُحتاجُ في إبطالِ اتِّصافِه بهما إلى أكثَرَ مِن الإخبارِ بنَفْيِهما؛ لأنَّ دَليلَه المُشاهَدةُ [281] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/60). .
2- في قَولِه تعالى: فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ إلى قَولِه: يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ [الطور: 45] نَجِدُ آدابًا كثيرةً مِن المناظَرةِ؛ فقد تَدَرَّجَ اللهُ تعالى معهم في الحُجَجِ، فقال: أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ [الطور: 38]؛ إنْ كان الأمرُ كذلك فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ [الطور: 38]، أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ، فإنْ كان الأمرُ كذلك فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ، فاللهُ سُبحانَه وتعالى في ختامِ المناظرةِ يَجعَلُ الخَصمَ مُفحَمًا بتحَدِّيه بما لا يَستطيعُ [282] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة القصص)) (ص: 236). .
3- قال تعالَى: قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ لَمَّا كان انتِفاءُ كَونِه شاعِرًا أمْرًا واضحًا يَكْفي فيه مُجرَّدُ التَّأمُّلِ، لم يَتَصدَّ القرآنُ للاستِدلالِ على إبطالِه، وإنَّما اشتَمَلَت مَقالتُهم على أنَّهم يَتربَّصون أنْ يحُلَّ به ما حَلَّ بالشُّعراءِ الَّذين همْ مِن جُملةِ النَّاسِ، فأمَرَ اللهُ تعالى نبِيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أنْ يُجِيبَهم عن مَقالتِهم هذه بأنْ يقولَ: تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ، وهو جوابٌ مُنصِفٌ؛ لأنَّ تَربُّصَ حُلولِ حَوادثِ الدَّهْرِ بأحدِ الجانبينِ، أو حُلولِ المَنيَّةِ مُشترِكُ الإلزامِ، لا يَدْري أحدُنا ماذا يَحُلُّ بالآخَرِ [283] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/62). .
4- في قَولِه تعالى: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ سؤالٌ عن وَجهِ تعَلُّقِ قَولِهم: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ بقَولِهم: شَاعِرٌ؟
الجوابُ فيه وَجهانِ:
الأوَّلُ: أنَّ العَرَبَ كانت تحتَرِزُ عن إيذاءِ الشُّعَراءِ، وتتَّقي ألسِنَتَهم؛ فإنَّ الشِّعرَ كان عندَهم يُحفَظُ ويُدَوَّنُ، وقالوا: لا نُعارِضُه في الحالِ؛ مخافةَ أن يَغلِبَنا بقُوَّةِ شِعرِه، وإنَّما سَبيلُنا الصَّبرُ وتربُّصُ مَوتِه.
الثَّاني: أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يقولُ: إنَّ الحَقَّ دينُ اللهِ، وإنَّ الشَّرعَ الَّذي أتيتُ به يَبقَى أبَدَ الدَّهرِ، وكتابي يُتلَى إلى قيامِ السَّاعةِ، فقالوا: ليس كذلك، إنَّما هو شاعِرٌ، والَّذي يَذكُرُه في حَقِّ آلهتِنا شِعرٌ، ولا ناصِرَ له، وسيُصيبُه مِن بَعضِ آلهتِنا الهَلاكُ، فنتَرَبَّصُ به ذلك [284] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/212). .
5- كلُّ آيةٍ مِن القُرآنِ فإنَّها مُعجِزةٌ، كما قال اللهُ تعالى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ. حديثٌ: آيةٌ، أو عَشْرُ آياتٍ، أو سورةٌ، أو عَشرُ سُوَرٍ، أو القُرآنُ كُلُّه [285] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين- سورة آل عمران)) (1/574). على خلافٍ في قَدْرِ المُعْجِزِ مِن القرآنِ. يُنظر: ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (4/20). ؛ فتَبيَّنَ بُطلانُ قَولِهم: إنَّه تقَوَّلَه؛ لأنَّ اللهَ تعالى تحَدَّاهم أن يأتُوا بمِثْلِه، إنْ كانوا صادِقينَ في دَعواهم أنَّك تقوَّلْتَه فلْيَأتوا بحديثٍ مِثلِه، ولكِنَّهم عَجَزوا [286] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات- الحديد)) (ص: 193). .
6- في قَولِه تعالى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ لم يُكَلِّفْهم نَفْسَ الإحداثِ، بل طالَبَهم بالإتيانِ بمِثلِه؛ إمَّا إحداثًا، وإمَّا تبليغًا عنِ اللهِ أو عن مَخلوقٍ؛ لِيُظهِرَ عَجزَهم عن جميعِ الجِهاتِ [287] يُنظر: ((النبوات)) لابن تيمية (2/1072). .
7- في قَولِه تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ الاستِدلالُ بدَليلِ «السَّبْرِ والتَّقسيمِ» [288] السَّبرُ والتَّقسيمُ: يُقصَدُ بالتَّقسيمِ عندَ الأصوليِّين: حصْرُ الأوصافِ الَّتي تَحتمِلُ أنْ يُعَلَّلَ بها حُكمُ الأصلِ في عدَدٍ مُعيَّنٍ، والسَّبرُ: هو الاختبارُ لكلِّ الأوصافِ الَّتي قدْ جُمِعَت، فيُستبْعَدُ منها ما لا يَصلُحُ أنْ يكون عِلَّةً يُعلَّلُ بها الحُكمُ، ويُسْتبقَى ما يَصلُحُ أن يكونَ عِلَّةً، مثالُ ذلك أنْ يقولَ المجتهِدُ: تَحريمُ الرِّبا في «البُرِّ» ثبَتَ لعِلَّةٍ، والعِلَّةُ هذه هي إمَّا لِكَونِه مَكيلًا، وإمَّا لكَونِه مَطْعومًا، وإمَّا لكونِه قوتًا مُدَّخرًا، وإمَّا لكونِه مَوْزونًا، وإمَّا لكونِه مالًا. فهذا يُسمَّى «التَّقسيم»، ثمَّ يَختبِرَ هذه العِلَلَ ويَختارَ ما يَراهُ صَحيحًا ويُهمِلَ ما عداهُ، والتَّقسيمُ مُقدَّمٌ على السَّبْرِ في التَّطبيقِ. يُنظَر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (3/127)، ((الإحكام في أصول الأحكام)) للآمدي (3/264)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (3/491، 492)، ((التعريفات الفقهية)) للبركتي (ص: 111). ، وهو مِن أُمَّهاتِ الجَدَلِ العِظامِ؛ فإنَّ قَولَه: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ كأنَّه يقولُ: لا يخلو حالُهم مِن واحِدةٍ مِن ثَلاثِ حالاتٍ: إمَّا أن يكونوا خَلَقوا أنفُسَهم، أو خُلِقوا مِن غَيرِ خالِقٍ، أو خَلَقَهم خالِقٌ، فهذه ثلاثةُ أقسامٍ؛ اثنانِ منها باطِلانِ بلا نِزاعٍ -وهو كَونُهم خَلَقوا أنفُسَهم، أو خُلِقوا مِن غيرِ خالِقٍ-، فتغَلَّب القِسمُ الثَّالِثُ: أنَّ لهم خالِقًا هو رَبُّ السَّمَواتِ والأرضِ، تجِبُ عليهم طاعتُه وعِبادتُه [289] يُنظر: ((العذب النمير)) للشنقيطي (2/350). .
8- في قَولِه تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ أنَّ العِلمَ بأنَّ «المُحدَثَ لا بُدَّ له مِن مُحدِثٍ» عِلمٌ فطريٌّ ضروريٌّ [290] يُنظر: ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (3/202). ، حتَّى للصِّبيانِ؛ فإنَّ الصَّبيَّ لو ضَرَبَه ضاربٌ، وهو غافلٌ لا يُبصِرُه؛ لَقال: مَن ضرَبَني؟ فلو قيلَ له: لم يَضْرِبْك أحَدٌ، لم يَقبَلْ عَقلُه أن تكونَ الضَّربةُ حدَثَت مِن غيرِ مُحدِثٍ، بل يَعلَمُ أنَّه لا بُدَّ للحادثِ مِن مُحدِثٍ، فإذا قيل: فُلانٌ ضَرَبَك، بكى حتَّى يَضرِبَ ضاربَه؛ فكان في فِطرتِه الإقرارُ بالصَّانعِ، وبالشَّرعِ الَّذي مَبناه على العَدلِ؛ ولهذا قال تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ [291] يُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (5/358). .
9- مِن اللَّطائِفِ: أنَّه أعادَ (أَمْ) في هذه السُّورةِ خمْسَ عَشْرةَ مرَّةً، وكلُّها إلزاماتٌ؛ ليس للمُخاطَبينَ بها عنها جوابٌ [292] يُنظر: ((بصائر ذوي التمييز)) للفيروزابادي (1/441). .

بلاغة الآيات:

1- قولُه تعالَى: فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ
- قولُه: فَذَكِّرْ ... تَفريعٌ على ما تَقدَّمَ كلِّه مِن قَولِه: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ [الطور: 7]؛ لأنَّه تَضمَّنَ تَسليةَ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ عن تَكذيبِ المُكذِّبين والافتِراءِ عليه، وعُقِّبَ بهذا؛ لأنَّ مِن النَّاسِ مُؤمنينَ به، مُتيَقِّنينَ أنَّ اللهَ أرْسَلَه مع ما أعدَّ لِكِلا الفريقَينِ، فكان ما تَضمَّنه ذلك يَقْتضي أنَّ في استِمرارِ التَّذكيرِ حِكمةً أرادَها اللهُ، وهي ارعِواءُ بَعضِ المُكذِّبينَ عن تَكذيبِهم، وازديادُ المُصدِّقينَ تَوغُّلًا في إيمانِهم، ففُرِّعَ على ذلك أنْ أمَرَ اللهُ رسولَه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالدَّوامِ على التَّذكيرِ [293] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/58). .
- وهذا الأمْرُ فَذَكِّرْ مُستعمَلٌ في طَلَبِ الدَّوامِ، والمعْنى: فاثبُتْ على ما أنتَ عليه مِن التَّذكيرِ بما أُنزِلَ إليك مِن الآياتِ والذِّكْرِ الحَكيمِ [294] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/412)، ((تفسير البيضاوي)) (5/154)، ((تفسير أبي حيان)) (9/573)، ((تفسير أبي السعود)) (8/150)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/58). .
- ولَمَّا كان أثَرُ التَّذكيرِ أهمَّ بالنِّسبةِ إلى فَريقِ المُكذِّبينَ ليَهتدِيَ مَن شُرِحَ قلْبُه للإيمانِ، رُوعِيَ ما يَزيدُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ثَباتًا على التَّذكيرِ مِن تَبْرئتِه ممَّا يُواجِهونَه مِن قولِهم له: هو كاهنٌ، أو هو مَجنونٌ، فربَطَ اللهُ جأْشَ رَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وأعْلَمَه بأنَّ بَراءتَه مِن ذلك نِعمةٌ أنعَمَ بها عليه ربُّه تعالى، ففُرِّعَ هذا الخبرُ على الأمْرِ بالتَّذكيرِ بقولِه: فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ. ونفْيُ هَذينِ الوَصْفينِ عنه -في خِطابِ أمثالِه ممَّن يَستحِقُّ الوصْفَ بصِفاتِ الكَمالِ- يدُلُّ على أنَّ المُرادَ مِن النَّفيِ غرَضٌ آخَرُ، وهو هنا إبطالُ نِسبةِ مَن نسَبَه إلى ذلك، ولذلك حسُنَ تَعقيبُه بقولِه: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ [الطور: 30] مُصرَّحًا فيه ببَعضِ أقوالِهم، فعُلِمَ أنَّ المَنْفيَّ عنه فيما قبْلَه مَقالةٌ مِن مَقالِهم [295] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/58، 59). .
- وقدِ اشتَمَلَت هاتِه الكلمةُ الطَّيِّبةُ فَذَكِّرْ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ على خَصائصَ تُناسِبُ تَعظيمَ مَن وُجِّهت إليه، وبيانُ ذلك: أنَّها صِيغَت في نَظْمِ الجُملةِ الاسميَّةِ، فقِيلَ فيها: فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ دونَ: (فلسْتَ بكاهنٍ)؛ لتَدُلَّ على ثَباتِ مَضمونِ هذا الخبَرِ. وقُدِّمَ فيها المُسنَدُ إليه، مع أنَّ مُقْتضى الظَّاهِرِ أنْ يُقدَّمَ المُسنَدُ، وهو بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ؛ لأنَّ المَقامَ يَقْتضي الاهتِمامَ بالمُسنَدِ، ولكنَّ الاهتِمامَ بالضَّميرِ المُسنَدِ إليه كان أرجَحَ هنا؛ لِما فيه مِن استِحضارِ مُعادِه المُشعِرِ بأنَّه شَيءٌ عَظيمٌ. وأفادَ مع ذلك أنَّ المَقصودَ أنَّه مُتَّصِفٌ بالخبَرِ، لا نفْسُ الإخبارِ عنه بالخبَرِ، كقَولِنا: الرَّسولُ يأْكُلُ الطَّعامَ ويَتزوَّجُ النِّساءَ. وأفاد أيضًا قصْرًا إضافيًّا [296] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْر الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). بقَرينةِ المَقامِ؛ لقَلْبِ ما يَقولونَه أو يَعتقِدونَه مِن قَولِهم: هو كاهنٌ أو مَجنونٌ. وقُرِنَ الخبَرُ المَنْفيُّ بالباءِ الزَّائدةِ؛ لتَحقيقِ النَّفيِ، فحصَلَ في الكلامِ تَقويتانِ. وجِيءَ بالحالِ قبْلَ الخبَرِ، أو بالجُملةِ المُعترِضةِ بيْنَ المُبتدأِ والخبَرِ؛ لتَعجيلِ المَسرَّةِ، وإظهارِ أنَّ اللهَ أنعَمَ عليه بالبَراءةِ مِن هذَينِ الوَصْفينِ. وعُدِلَ عن استِحضارِ الجَلالةِ بالاسمِ العَلَمِ إلى تَعريفِه بالإضافةِ وبوَصْفِه الرَّبِّ؛ لإفادةِ لُطْفِه تعالى برَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ؛ لأنَّه ربُّه، فهو يَرُبُّه ويُدبِّرُ نفْعَه، ولتُفِيدَ الإضافةُ تَشريفَ المُضافِ إليه [297] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/59). .
2- قولُه تعالَى: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ
- قولُه: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ ... (أَمْ) مُنقطِعةٌ، وهي للإضرابِ عن مَقالتِهم المرْدودةِ بقَولِه: فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ [الطور: 29]؛ للانتِقالِ إلى مَقالةٍ أُخرى، وهي قولُهم: (هو شاعرٌ نتربَّصُ به رَيبَ المَنونِ). وعُدِلَ عن الإتيانِ بحرْفِ (بل) مع أنَّه أشهَرُ في الإضرابِ الانتِقاليِّ؛ لقصْدِ تَضمُّنِ (أَمْ) للاستِفهامِ، والمعْنى: بلْ أيقولونَ: شاعرٌ... إلخ. والاستِفهامُ المُقدَّرُ إنكاريٌّ [298] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/60). .
- وإنْ كانتْ (أَمْ) مُجرَّدةً عن عمَلِ العطْفِ؛ فالجُملةُ مُستأنَفةٌ استِئنافًا ابتدائيًّا، وإلَّا فهي عطْفٌ على جُملةِ فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ [299] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/60). [الطور: 29].
- ومُناسَبةُ هذا الانتقالِ أنَّ أمْرَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ بالدَّوامِ على التَّذكيرِ، يُشِيرُ إلى مَقالاتِهم الَّتي يَرُدُّون بها دَعوتَه، فلمَّا أُشِيرَ إلى بَعضِها بقولِه: فَمَا أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكَاهِنٍ وَلَا مَجْنُونٍ [الطور: 29]، انتُقِلَ إلى إبطالِ صِفةٍ أُخرى يُثَلِّثون بها الصِّفتينِ المذْكورتينِ قبْلَها، وهي صِفةُ شاعرٍ [300] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/60، 61). .
- وجاء يَقُولُونَ مُضارِعًا؛ للدَّلالةِ على تَجدُّدِ ذلك القولِ منهم [301] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/61). .
- قولُه: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ التَّربُّصُ مُبالَغةٌ في الرَّبْصِ، وهو الانتظارُ [302] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/61). . والباءُ في بِهِ يَجوزُ أنْ تكونَ للسَّببِ، أي: بسَببِه، أي: نَتربَّصُ مِن أجْلِه؛ فتكونَ الباءُ مُتعلِّقةً بـ نَتَرَبَّصُ. ويَجوزُ أنْ تكونَ للمُلابَسةِ، وتتعلَّقَ بـ رَيْبَ الْمَنُونِ حالًا منه مُقدَّمةً على صاحبِها، أي: حُلولَ رَيبِ المَنونِ به [303] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/61). .
3- قولُه تعالَى: قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ
- وَرَدتْ جُملةُ قُلْ تَرَبَّصُوا مَفصولةً بدُونِ عطْفٍ؛ لأنَّها وقَعَتْ في مَقامِ المُحاوَرةِ؛ لسَبْقِها بجُملةِ يَقُولُونَ شَاعِرٌ ...  إلخ [الطور: 30]، فإنَّ أمْرَ أحدٍ بأنْ يَقولَ بمَنزلةِ قَولِه، فأُمِرَ بقَولِه [304] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/62). .
- والأمْرُ في تَرَبَّصُوا هو أمْرُ تَهديدٍ [305] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/574). . أو الأمْرُ مُستعمَلٌ في التَّسويةِ، أي: سَواءٌ عِندي تربُّصُكم بي وعَدَمُه [306] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/62). .
- وفُرِّعَ قولُه: فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ على الأمْرِ بالتَّربُّصِ، أي: فإنِّي مُتربِّصٌ بكمْ مِثلَ ما تَتربَّصون بي؛ إذْ لا نَدْري أيُّنا يُصِيبُه رَيبُ المَنونِ قبْلُ [307] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/62). .
- والفاءُ في قولِه: فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ تَعليلٌ للأمْرِ المَقصودِ به التَّهديدُ [308] يُنظر: ((إعراب القرآن)) لدرويش (9/337). ، وفيه عِدَةٌ كريمةٌ بإهلاكِهم [309] يُنظر: ((تفسير أبي السعود)) (8/150). .
- وتأْكيدُ الخبَرِ بـ (إنَّ) في قولِه: فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ لتَنزيلِ المُخاطَبينَ مَنزِلةَ مَن يُنكِرُ أنَّه يَتربَّصُ بهمْ كما يَتربَّصون بهِ؛ لأنَّهم لغُرورِهم اقتَصَروا على أنَّهم يَتربَّصون به لِيَرَوا هَلاكَه، فهذا مِن تَنزيلِ غيرِ المُنكِرِ مَنزِلةَ المُنكِرِ [310] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/62). .
- ولَمَّا كان قولُه: مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ مُقدَّرًا معه (بِكُمْ) -لِمُقابَلةِ قولِهم: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ [الطور: 30]- كان في الكَلامِ تَوجيهٌ بأنَّه يَبْقَى معهم يَتربَّصُ هَلاكَهم حِين تَبْدو بَوادِرُه، إشارةً إلى وَقْعةِ بَدْرٍ؛ إذ أصابَهم مِن الحَدَثانِ القتْلُ والأسْرُ؛ فَتكونُ الآيةُ مُشيرةً إلى صَريحِ قولِه تعالَى: قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنَا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَنَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذَابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينَا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ [311] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/63). [التوبة: 52] .
- وإنَّما قال هنا: مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ؛ ليُشيرَ إلى أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ يَتربَّصُ بهمْ رَيبَ المَنونِ في جُملةِ المُتربِّصينَ مِن المؤمنينَ [312] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/63). .
- وقد صِيغَ نظْمُ الكلامِ في هذه الآيةِ على ما يُناسِبُ الانتِقالَ مِن غرَضٍ إلى غرَضٍ، وذلك بما نُهِّيَ به مِن شِبْهِ التَّذييلِ بقولِه: قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ؛ إذ تمَّتْ به الفاصلةُ [313] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/63). .
4- قولُه تعالَى: أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ
- قولُه: أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلَامُهُمْ بِهَذَا إضرابُ انتقالٍ دَعا إليه ما في الاستِفهامِ الإنكاريِّ المُقدَّرِ بعْدَ (أَمْ) مِن معْنى التَّعجيبِ مِن حالِهِم؛ إذ كيف يَقولونَ مِثلَ ذلك القولِ السَّابِقِ ويَستقِرُّ ذلك في إدْراكِهم، وهمْ يَدَّعُون أنَّهم أهْلُ عُقولٍ، لا تَلتبِسُ عليهم أحوالُ النَّاسِ؟! فهمْ لا يَجهَلون أنَّ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ ليس بحالِ الكُهَّانِ، ولا المجانينِ، ولا الشُّعراءِ [314] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/63). .
- ومعْنى إنكارِ أنْ تأْمُرَهم أحلامُهم بهذا أنَّ الأحلامَ الرَّاجحةَ لا تأْمُرُ بمِثلِه، وفيه تَعريضٌ بأنَّهم أضاعُوا أحلامَهم حِينَ قالُوا ذلك؛ لأنَّ الأحلامَ لا تأْمُرُ بمِثلِه، فهمْ كمَنْ لا أحلامَ لهم [315] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/64). .
- وقولُه: أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ إضرابٌ انتِقاليٌّ أيضًا مُتَّصِلٌ بالَّذي قبْلَه، انتُقِلَ به إلى استِفهامٍ عن اتِّصافِهم بالطُّغيانِ [316] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/64). .
- والاستِفهامُ المُقدَّرُ بعْدَ (أَمْ) مُستعمَلٌ: إمَّا في التَّشكيكِ؛ لِيَكونَ التَّشكيكُ باعثًا على التَّأمُّلِ في حالِهم، فيُومِئَ بأنَّهم طاغُون. وإمَّا مُستعمَلٌ في التَّقريرِ لكلِّ سامعٍ؛ إذْ يَجِدُهم طاغينَ [317] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/64). .
- وذِكرُ كَلِمةِ (قَومٍ) في قولِه: أَمْ هُمْ قَوْمٌ طَاغُونَ يُمهِّدُ لكَونِ الطُّغيانِ مِن مُقوِّماتِ حَقيقةِ القوميَّةِ فيهم، أي: تأصَّلَ فيهم الطُّغيانُ وخالَطَ نُفوسَهم، فدَفَعَهم إلى أمثالِ تلك الأقوالِ [318] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/64). .
- وفي الآيةِ احتِباكٌ [319] الاحتِباك: هو الحذفُ مِن الأوائلِ لدَلالة الأواخِرِ، والحذفُ مِن الأواخرِ لدَلالة الأوائلِ، إذا اجتمَع الحَذفانِ معًا، وله في القرآنِ نظائرُ، وهو مِن إبداعاتِ القرآنِ وعناصِر إعجازِه، وهو مِن ألْطَفِ الأنواعِ. يُنظر: ((الإتقان)) للسيوطي (3/204)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن حَبَنَّكَة الميداني (1/347). ؛ فقد ذَكَر الأحلامَ أوَّلًا دَليلًا على ضِدِّها ثانيًا، والطُّغيانَ ثانيًا دليلًا على ضِدِّه -العَدلِ السَّواءِ- أوَّلًا [320] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (19/24). .
5- قولُه تعالَى: أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ انتِقالٌ مُتَّصِلٌ بقَولِه: أَمْ يَقُولُونَ شَاعِرٌ... [الطور: 30]. وهذا حِكايةٌ لإنكارِهم أنْ يكونَ القُرآنُ وَحْيًا مِن اللهِ، فزَعَموا أنَّه تَقوَّلَه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ على اللهِ، فالاستِفهامُ إنكارٌ لقَولِهم، وهمْ قد أكثَرُوا مِن الطَّعْنِ وتَمالَؤوا عليه؛ ولذلك جِيءَ في حِكايتِه عنْهم بصِيغةِ يَقُولُونَ المُفيدةِ للتَّجدُّدِ [321] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/65). .
- وابتُدِئَ الرَّدُّ عليهم بقَولِه: بَلْ لَا يُؤْمِنُونَ؛ لتَعجيلِ تَكذيبِهم قبْلَ الإدْلاءِ بالحُجَّةِ عليهم، وليَكونَ وُرودُ الاستِدلالِ مُفرَّعًا على قَولِه: لَا يُؤْمِنُونَ بمَنزلةِ دَليلٍ ثانٍ [322] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/65). .
6- قولُه تعالَى: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ لَمَّا كانتْ مَقالتُهم طَعْنًا في القُرآنِ، وهو المُعجِزةُ القائمةُ على صِدْقِ رِسالةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ، وكانتْ دَعْواهم أنَّه تقَوَّلَ على اللهِ مِن تِلْقاءِ نفْسِه قد تَرُوجُ على الدَّهْماءِ؛ تَصدَّى القُرآنُ لبَيانِ إبطالِها بأنْ تَحدَّاهم بأنْ يأْتُوا بمِثلِ هذا القُرآنِ بقولِه: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ، أي: صادِقينَ في أنَّ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ تقوَّلَه مِن تِلْقاءِ نفْسِه، أي: فعَجْزُهم عن أنْ يأْتُوا بمِثلِه دَليلٌ على أنَّهم كاذِبون. ووَجْهُ المُلازَمةِ أنَّ محمَّدًا صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ أحدُ العرَبِ، وهو يَنطِقُ بلِسانِهم، فالمُساواةُ بيْنَه وبيْنَهم في المَقْدرةِ على نظْمِ الكَلامِ ثابتةٌ، فلو كان القرآنُ قد قالَه محمَّدٌ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ لَكانَ بَعضُ خاصَّةِ العرَبِ البُلغاءِ قادِرًا على تأْليفِ مِثلِه، فلمَّا تَحدَّاهم اللهُ بأنْ يأْتوا بمِثلِ القرآنِ وفيهم بُلَغاؤُهم وشُعراؤُهم وكَلِمتُهم، وكلُّهم واحدٌ في الكفْرِ؛ كان عَجْزُهم عن الإتيانِ بمِثلِ القرآنِ دالًّا على عجْزِ البشَرِ عن الإتيانِ بالقرآنِ؛ ولذلك قال تعالَى في سُورةِ (هُودٍ): أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ وَادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّمَا أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ [323] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/65، 66). [هود: 13، 14].
- ولامُ الأمْرِ في فَلْيَأْتُوا مُستعمَلةٌ في أمْرِ التَّعجيزِ [324] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/67). . والإتيانُ بالشَّيءِ: إحضارُه مِن مَكانٍ آخَرَ، واختِيرَ هذا الفِعلُ دونَ نحْوِ: (فلْيَقولوا مِثلَه) ونحْوِه؛ لقصْدِ الإعذارِ لهم بأنْ يُقتنَعَ منهم بجَلْبِ كَلامٍ مِثلِه ولو مِن أحَدٍ غَيرِهم [325] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/66). .
- وقولُه: إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ، أي: في زَعْمِهم أنَّه تقَوَّلَه، أي: فإنْ لم يأْتُوا بكَلامٍ مِثلِه فهمْ كاذِبون، وهذا إلهابٌ لعَزيمتِهم؛ ليَأْتُوا بكَلامٍ مِثلِ القُرآنِ؛ لِيَكونَ عدَمُ إتيانِهم بمِثلِه حُجَّةً على كَذِبِهم [326] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/67). .
- وقد أشعَرَ نَظْمُ الكلامِ في قولِه: فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كَانُوا صَادِقِينَ الواقعِ مَوقِعًا شَبيهًا بالتَّذييلِ والمَختومِ بكَلِمةِ الفاصلةِ؛ أنَّه نِهايةُ غَرَضٍ، وأنَّ ما بعْدَه شُروعٌ في غرَضٍ آخَرَ [327] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/67). .
7- قولُه تعالَى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ إضرابٌ انتِقاليٌّ إلى إبطالِ ضَرْبٍ آخَرَ مِن شُبْهَتِهم في إنكارِهم البعثَ، ومِن أغراضِ هذه السُّورةِ إثباتُ البَعثِ والجَزاءِ، على أنَّ ما جاء بعْدَه مِن وصْفِ يومِ الجَزاءِ وحالِ أهْلِه قدِ اقتَضَتْه مُناسَباتٌ نَشَأتْ عنها تلك التَّفاصيلُ؛ فإذ وُفِّيَ حقُّ ما اقتَضَتْه تلك المُناسباتُ، ثُنِيَ عِنانُ الكلامِ إلى الاستِدلالِ على إمكانِ البَعثِ وإبطالِ شُبهتِهم الَّتي تَعلَّلوا بها، مِن نحْوِ قَولِهم: أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقًا جَدِيدًا [الإسراء: 49]، فكان قولُه تعالى: أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ ... الآياتِ أدلَّةً على أنَّ ما خلَقَه اللهُ مِن بَدْءِ الخلْقِ أعظَمُ مِن إعادةِ خلْقِ الإنسانِ. وهذا مُتَّصِلٌ بقولِه آنفًا: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ [الطور: 7]؛ لأنَّ شُبْهتَهم المَقصودُ رَدُّها بقَولِه: إِنَّ عَذَابَ رَبِّكَ لَوَاقِعٌ هي قَولُهم: أَئِذَا كُنَّا عِظَامًا وَرُفَاتًا أَئِنَّا لَمَبْعُوثُونَ، ونحوُ ذلك [328] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/67). .
- وحرْفُ (مِن) في قَولِه: مِنْ غَيْرِ شَيْءٍ يَجوزُ أنْ يكونَ للابتِداءِ؛ فيكونَ معْنى الاستِفهامِ المُقدَّرِ بعْدَ (أَمْ) تَقريريًّا، والمعْنى: أيُقِرُّون أنَّهم خُلِقوا بعْدَ أنْ كانوا عدَمًا، فكَما خُلِقوا مِن عدَمٍ في نَشأتِهم الأُولى، يُنْشَؤونَ مِن عدَمٍ في النَّشأةِ الآخِرةِ، وذلك إثباتٌ لإمكانِ البَعثِ، ومعْنى (شَيءٍ) على هذا الوجْهِ: الموجودُ، فغَيرُ شَيءٍ: المَعدومُ، والمعْنى: أَخُلِقوا مِن عدَمٍ؟! وذلك على قولٍ في التَّفسيرِ. ويَجوزُ أنْ تكونَ (مِن) للتَّعليلِ؛ فيكونَ الاستِفهامُ المُقدَّرُ بعْدَ (أَمْ) إنكاريًّا، ويكونَ اسمُ (شَيءٍ) صادِقًا على ما يَصلُحُ لِمَعْنى التَّعليلِ المُستفادِ مِن حَرْفِ (مِن) التَّعليليَّةِ، والمعْنى: إنكارُ أنْ يكونَ خلْقُهم بغَيرِ حِكمةٍ، وهذا إثباتُ أنَّ البَعثَ واقعٌ مِن أجْلِ الجَزاءِ على الأعمالِ، بأنَّ الجَزاءَ مُقْتَضى الحِكمةِ الَّتي لا يَخْلو عنها فِعلُ أحكَمِ الحُكماءِ. ولِحَرْفِ (مِن) في هذا الكلامِ الوقْعُ البَديعُ؛ إذ كانت -على احتِمالِ مَعنيَيْها- دَليلًا على إمكانِ البَعثِ، وعلى وُقوعِه، وعلى وُجوبِ وُقوعِه وُجوبًا تَقْتضيهِ الحِكمةُ الإلهيَّةُ العُلْيا [329] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/67). .
- ولعلَّ العُدولَ عن صَوغِ الكلامِ بالصِّيغةِ الغالِبةِ في الاستِفهامِ التَّقريريِّ -وهي صيغةُ النَّفيِ- بأنْ يُقالَ: أَمَا خُلِقوا مِن غَيرِ شَيءٍ، والعُدولَ عن تَعْيينِ ما أُضِيفَ إليه (غَير) إلى الإتيانِ بلَفظٍ مُبْهَمٍ، وهو لَفظُ (شَيء)؛ رُوعِيَ فيه الصَّلاحيةُ لاحتِمالِ المَعنيَينِ، وذلك مِن مُنتَهى البَلاغةِ [330] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/67، 68). .
- وإذ كان فرْضُ أنَّهم خُلِقوا مِن غَيرِ شَيءٍ واضِحَ البُطلانِ، لم يُحْتَجْ إلى استِدلالٍ على إبطالِه إلَّا بقولِه: أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ * أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ، وهو إضرابُ انتقالٍ أيضًا، والاستفهامُ المُقدَّرُ بعْدَ (أَمْ) إنكاريٌّ، أي: ما همُ الخالِقون، وإذ كانوا لمْ يَدَّعُوا ذلك، فالإنكارُ مُرتَّبٌ على تَنزيلِهم مَنزِلةَ مَن يَزعُمون أنَّهم خالِقون [331] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/68). .
- وصِيغَتِ الجُملةُ في صِيغةِ الحصْرِ الَّذي طَريقُه تَعريفُ الجُزْأينِ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ قصْرًا إضافيًّا [332] القَصرُ أو الحَصرُ هو: تَخصيصُ شَيءٍ بشَيءٍ وحصْرُه فيه، ويُسمَّى الأمرُ الأوَّلُ: مَقصورًا، والثَّاني: مقصورًا عليه؛ مِثلُ: إنَّما زَيدٌ قائمٌ، و: ما ضرَبتُ إلَّا زيدًا. وينقسِمُ إلى قَصْرٍ حقيقيٍّ، وقصرٍ إضافيٍّ، وادِّعائيٍّ، وقصرِ قَلْبٍ؛ فالحقيقيُّ هو: أن يختصَّ المقصورُ بالمقصورِ عليه بحسَبِ الحقيقةِ والواقِعِ، بألَّا يتعدَّاه إلى غيرِه أصلًا، مِثلُ: لا إلهَ إلَّا اللهُ، حيثُ قُصِر وصْفُ الإلَهيَّةِ الحقِّ على مَوصوفٍ هو اللهُ وحْدَه، وهذا مِن قصرِ الصِّفةِ على المَوصوفِ، وهو قصرٌ حقيقيٌّ. والقصرُ الإضافيُّ: أن يكونَ المقصورُ عنه شيئًا خاصًّا، يُرادُ بالقصرِ بيانُ عدَمِ صحَّةِ ما تصوَّره بشأنِه أو ادَّعاه المقصودُ بالكلامِ، أو إزالةُ شكِّه وترَدُّدِه، إذا كان الكلامُ كلُّه منحصرًا في دائرةٍ خاصَّةٍ؛ فليس قصرًا حقيقيًّا عامًّا، وإنَّما هو قصرٌ بالإضافةِ إلى موضوعٍ خاصٍّ، يَدورُ حوْلَ احتمالَينِ أو أكثرَ مِن احتمالاتٍ محصورةٍ بعددٍ خاصٍّ، ويُستدَلُّ عليها بالقرائنِ. مِثلُ قولِه تعالى: وَمَا مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ [آل عمران: 144] . والقصرُ الادِّعائيُّ: ما كان القصرُ الحقيقيُّ فيه مبنيًّا على الادِّعاءِ والمبالَغةِ؛ بتنزيلِ غيرِ المذكور منزِلةَ العدَمِ، وقصْر الشَّيءِ على المذكورِ وحْدَه. وقصْرُ القَلبِ: أن يَقلِبَ المتكلِّمُ فيه حُكمَ السَّامعِ؛ كقولِك: ما شاعرٌ إلَّا زيدٌ، لِمَن يَعتقِدُ أنَّ شاعرًا في قبيلةٍ معيَّنةٍ أو طرَفٍ مُعَيَّنٍ، لكنَّه يقولُ: ما زيدٌ هناك بشاعِرٍ. وللقَصرِ طُرُقٌ كثيرةٌ؛ منها: القصرُ بالنَّفيِ والاستثناءِ، والقصرُ بـ (إنَّما)، والقصرُ بتقديمِ ما حَقُّه التأخيرُ، وغيرُ ذلك. يُنظر: ((مفتاح العلوم)) للسَّكَّاكي (ص: 288)، ((الإيضاح في علوم البلاغة)) للقزويني (1/118) و(3/6)، ((التعريفات)) للجُرْجاني (1/175، 176)، ((الإتقان)) للسيوطي (3/167)، ((جواهر البلاغة)) للهاشمي (ص: 167، 168)، ((موجز البلاغة)) لابن عاشور (ص: 19 - 22)، ((البلاغة العربية)) لعبد الرحمن بن حسن حَبَنَّكَة الميداني (1/525). ؛ للرَّدِّ عليهم بتَنزيلِهم مَنزلةَ مَن يَزعُمُ أنَّهم الخالِقون لا اللهُ؛ لأنَّهم عَدُّوا مِن المُحالِ ما هو خارجٌ عن قُدْرتِهم، فجَعَلوه خارجًا عن قُدْرةِ اللهِ، فالتَّقديرُ: أمْ همُ الخالِقون لا نحنُ، والمعْنى: نحنُ الخالِقون لا همْ [333] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/68، 69). .
- وحُذِفَ مَفعولُ الْخَالِقُونَ؛ لقَصْدِ العُمومِ، أي: الخالِقون للمَخلوقاتِ [334] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/69). .
8- قولُه تعالَى: أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَل لَا يُوقِنُونَ
- قولُه: أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ بَدَلٌ مِن جُملةِ أَمْ هُمُ الْخَالِقُونَ بدَلَ مُفصَّلٍ مِن مُجمَلٍ إنْ كان مَفعولُ الْخَالِقُونَ المَحذوفُ مُرادًا به العُمومُ، وكان المُرادُ بالسَّماءِ والأرضِ ذاتَيْهما مع مَن فِيهما، أو بدَلُ بَعضٍ مِن كلٍّ إنْ كانَ المُرادُ ذاتَيِ السَّمواتِ والأرضِ؛ فيَكونُ تَخصيصُ السَّمواتِ والأرضِ بالذِّكْرِ لعِظَمِ خلْقِهما. وإعادةُ حرْفِ (أمْ) للتَّأْكيدِ، كما يُعادُ عامِلُ المُبدَلِ منه في البَدَلِ، والمعْنى: أمْ همُ الخالِقون للسَّمواتِ والأرضِ [335] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/69). .
- والاستِفهامُ أَمْ خَلَقُوا السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضَ إنكاريٌّ، والكَلامُ كِنايةٌ عن إثباتِ أنَّ اللهَ خالِقُ السَّمواتِ والأرضِ، والمعْنى: أنَّ الَّذي خلَقَ السَّمواتِ والأرضَ لا يُعجِزُه إعادةُ الأجسادِ بعْدَ المَوتِ والفَناءِ [336] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/155)، ((تفسير ابن عاشور)) (27/69). .
- وقوله: بَل لَا يُوقِنُونَ إضْرابُ إبطالٍ على مَضمونِ الجُملتَينِ اللَّتَينِ قبْلَه، أي: لمْ يُخلَقوا مِن غَيرِ شَيءٍ، ولا خَلَقوا السَّمواتِ والأرضَ؛ فإنَّ ذلك بيِّنٌ لهم، فما إنكارُهم البعثَ إلَّا ناشِئٌ عن عَدَمِ إيقانِهم في مَظانِّ الإيقانِ، وهي الدَّلائلُ الدَّالَّةُ على إمكانِ البَعثِ، وأنَّه ليس أغرَبَ مِن إيجادِ المَخلوقاتِ العَظيمةِ، فما كان إنكارُهم إيَّاهُ إلَّا عن مُكابَرةٍ وتَصميمٍ على الكفْرِ [337] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (27/69، 70). .