موسوعة التفسير

سورةُ الذَّارِياتِ
الآيات (1-6)

ﯤ ﯥ ﯦ ﯧ ﯨ ﯩ ﯪ ﯫ ﯬ ﯭ ﯮ ﯯ ﯰ ﯱ ﯲ ﯳ ﯴ ﯵ ﯶ ﯷ

غريب الكلمات:

وَالذَّارِيَاتِ: أي: الرِّياحِ التي تُفَرِّقُ التُّرابَ وهَشيمَ النَّبتِ، وأصلُ (ذرو): يدُلُّ على تَساقُطِ الشَّيءِ مُتفَرِّقًا [5] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 420)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 301)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/352)، ((البسيط)) للواحدي (20/425)، ((المفردات)) للراغب (ص: 327)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 369). .
فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا: أي: السَّحابِ الَّذي يَحمِلُ ثِقلًا مِنَ الماءِ، وأصلُ (حمل): يدُلُّ على إقلالِ الشَّيءِ، وأصلُ (وقر): يدُلُّ على ثِقلٍ في الشَّيءِ [6] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 420)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 302)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/106) و (6/132)، ((المفردات)) للراغب (ص: 258)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 369)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 390). .
فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا: أي: السُّفُنِ الَّتي تجري في الماءِ مُيَسَّرةً جَريًا سَهلًا، وأصلُ (جري): يدُلُّ على انسياحِ شَيءٍ [7] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 420)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 302)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (1/448)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 369)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 390). .
فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا: أي: الملائِكةِ الَّتي تُقَسِّمُ أمرَ اللهِ في خَلْقِه، وأصلُ (قسم): يدُلُّ على تجزئةِ شَيءٍ [8] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 420)، ((تفسير ابن جرير)) (21/482)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 302)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (5/86)، ((المفردات)) للراغب (ص: 776)، ((التبيان)) لابن الهائم (ص: 390). .
الدِّينَ: أي: الجزاءَ بالأعمالِ والقِصاصَ، ومنه يُقالُ: دِنْتُه بما صنَعَ، وأصلُ (دين): جنسٌ مِن الانقيادِ والذُّلِّ [9] يُنظر: ((غريب القرآن)) لابن قتيبة (ص: 420)، ((غريب القرآن)) للسجستاني (ص: 226)، ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (2/319، 320)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/ 7072)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1027)، ((تذكرة الأريب)) لابن الجوزي (ص: 369). .
لَوَاقِعٌ: أي: لَكائنٌ لا مَحالةَ، وأصلُ (وقع): يدُلُّ على سقوطِ شَيءٍ [10] يُنظر: ((مقاييس اللغة)) لابن فارس (6/133، 134)، ((الهداية إلى بلوغ النهاية)) لمكي (11/7072)، ((الوجيز)) للواحدي (ص: 1027)، ((تفسير ابن كثير)) (7/414). .

المعنى الإجمالي:

يُقسِمُ الله تعالى بالرِّياحِ الَّتي تُفَرِّقُ التُّرابَ والنَّباتَ اليابِسَ وغيرَ ذلك، وبالسَّحابِ الَّذي يَحمِلُ ثِقلًا مِن الماءِ، وبالسُّفُنِ الَّتي تجري في البِحارِ بسُهولةٍ ويُسرٍ، وبالملائِكةِ الَّتي تُقَسِّمُ أمْرَ اللهِ تعالى في خَلْقِه؛ على أنَّ وَعْدَه تعالى وَعدٌ صادِقٌ لا كَذِبَ فيه، وأنَّ حِسابَه تعالى لعِبادِه واقِعٌ لا مَحالةَ.

تفسير الآيات:

وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا (1).
أي: أُقسِمُ بالرِّياحِ الَّتي تُفَرِّقُ التُّرابَ أو المطَرَ، أو النَّباتَ اليابِسَ، أو غيرَ ذلك مِمَّا تُفَرِّقُه الرِّيحُ وتَنشُرُه [11] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/479)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 278)، ((تفسير السعدي)) (ص: 808)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/434)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 115). وقد نقل الزَّجَّاجُ وابنُ عطيَّةَ إجماعَ المفَسِّرينَ على أنَّ المرادَ بالذَّارياتِ: الرِّياحُ. يُنظر: ((معاني القرآن)) للزجاج (5/51)، ((تفسير ابن عطية)) (5/171). .
كما قال تعالى: فَأَصْبَحَ هَشِيمًا تَذْرُوهُ الرِّيَاحُ [الكهف: 45] .
وقال سُبحانَه: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّيَاحَ فَتُثِيرُ سَحَابًا فَيَبْسُطُهُ فِي السَّمَاءِ كَيْفَ يَشَاءُ وَيَجْعَلُهُ كِسَفًا [الروم: 48] .
فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا (2).
أي: فالسَّحابِ الَّذي يَحمِلُ ثِقلًا مِن ماءٍ كثيرٍ [12] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/482)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 278)، ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/446)، ((تفسير السعدي)) (ص: 808)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 115). وممَّن قال بأنَّ الحامِلاتِ هي السَّحابُ: ابنُ جرير، وابن القيِّم، والبِقاعي، والسعدي، وابن عثيمين. يُنظر: المصادر السَّابقة. ونسَبَ الزَّجَّاجُ هذا القولَ إلى المفسِّرينَ جميعًا، ونسَبه السَّمْعانيُّ والشِّنقيطيُّ إلى أكثَرِ المفسِّرينَ. يُنظر: ((معاني القرآن وإعرابه)) للزجاج (5/51)، ((تفسير السمعاني)) (5/250)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/434). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وابنُ عبَّاسٍ، ومجاهِدٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/483)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/614). وقيل: هي صِفةٌ للرِّياحِ. وممَّن اختار هذا القَولَ: الرَّازيُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/161)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/337، 338). وقال ابن عطيَّة: (و«الحامِلاتُ وِقرًا» قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ رَضِيَ الله عنه: هي السَّحابُ المُوقَرةُ بالماءِ. وقال ابنُ عبَّاسٍ وغَيرُه: هي السُّفُنُ المُوقَرةُ بالنَّاسِ وأمتاعِهم. وقال جماعةٌ مِنَ العُلَماءِ: هي أيضًا مع هذا جميعُ الحَيوانِ الحامِلِ. وفي جميعِ ذلك مُعتبَرٌ). ((تفسير ابن عطية)) (5/171). ويُنظر: ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/434، 435). .
كما قال تعالى: حَتَّى إِذَا أَقَلَّتْ سَحَابًا ثِقَالًا سُقْنَاهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنَا بِهِ الْمَاءَ [الأعراف: 57] .
وقال سُبحانَه: وَيُنْشِئُ السَّحَابَ الثِّقَالَ [الرعد: 12] .
فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا (3).
أي: فالسُّفُنِ الَّتي تجري في البِحارِ بسُهولةٍ ويُسرٍ [13] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/482)، ((البسيط)) للواحدي (20/425)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/435)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 116). وممَّن قال بأنَّ الجارياتِ هي السُّفُنُ: ابنُ جرير، وابنُ أبي زَمَنين، والواحديُّ، والبغوي، والزمخشري، والرَّسْعَني، وابنُ جُزَي، والعُلَيمي، والشوكاني، والشنقيطي، وابن عثيمين. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/482)، ((تفسير ابن أبي زمنين)) (4/282)، ((البسيط)) للواحدي (20/425)، ((تفسير البغوي)) (4/280)، ((تفسير الزمخشري)) (4/394)، ((تفسير الرسعني)) (7/405)، ((تفسير ابن جزي)) (2/306)، ((تفسير العليمي)) (6/398)، ((تفسير الشوكاني)) (5/98)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/435)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 116). وذكر ابنُ كثيرٍ أنَّه القَولُ المشهورُ عن الجُمهورِ، ونسَبَه الشِّنقيطيُّ إلى أكثَرِ أهلِ العِلمِ. يُنظر: ((تفسير ابن كثير)) (7/414)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/435). وممَّن قال بهذا القولِ مِن السَّلفِ: عليُّ بنُ أبي طالبٍ، وابنُ عبَّاسٍ، ومجاهدٌ. يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/482)، ((الدر المنثور)) للسيوطي (7/614). قال الشنقيطي: (ويدُلُّ لهذا القولِ كثرةُ إطلاقِ الوصفِ بالجَريِ على السُّفنِ؛ كقولِه تعالى: وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ [الشورى: 32] ، وقولِه: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْمَاءُ حَمَلْنَاكُمْ فِي الْجَارِيَةِ [الحاقة: 11] ، وقولِه تعالى: وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ [الحج: 65] ، وقولِه تعالى: اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ [الجاثية: 12] ، إلى غيرِ ذلك مِن الآياتِ). ((أضواء البيان)) (7/435). وقيل: المرادُ بالجارياتِ: الكواكِبُ والنُّجومُ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: ابنُ تيميَّةَ، والسعديُّ. يُنظر: ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (5/208)، ((تفسير السعدي)) (ص: 808). قال ابنُ تيميَّة: (... الأنسَبُ أن تكونَ هي الكواكِبَ المذكورةَ في قَولِه: فَلَا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ * الْجَوَارِ الْكُنَّسِ [التكوير: 15، 16]، فسَمَّاها جَواريَ). ((الجواب الصحيح)) (5/208). قيل: إنَّه أحسَنُ في التَّرتيبِ؛ ليكونَ ذلك ترقيًا مِن الأدنَى إلى الأعلَى، إلى ما هو أعلَى منه؛ فإنَّه بدَأ بالرِّياحِ، وفَوقَها السَّحابُ، وفَوقَه النُّجومُ، وفَوقَها الملائِكةُ المقَسِّماتُ أمرَ اللهِ الَّذي أُمِرَت به بيْنَ خَلْقِه. يُنظر: ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (5/208)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 279)، ((تفسير ابن كثير)) (7/414). وقيل: الجارياتُ هي الرِّياحُ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: السَّمعانيُّ، والرَّازيُّ. يُنظر: ((تفسير السمعاني)) (5/250)، ((تفسير الرازي)) (28/161). وقيل: هي السَّحابُ والسُّفُنُ. وممَّن ذهب إلى ذلك: البِقاعي. يُنظر: ((نظم الدرر)) (18/446، 447). قال ابنُ عطيَّة: («الجارياتُ يُسرًا» قال عليُّ بنُ أبي طالبٍ وغيرُه: هي السُّفُنُ في البَحرِ، وقال آخَرونَ: هي السَّحابُ بالرِّيحِ، وقال آخَرونَ: هي الجَواري مِنَ الكواكِبِ. واللَّفظُ يَقتضي جميعَ هذا). ((تفسير ابن عطية)) (5/171). وقال القاسمي: (فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا أي: السُّفُنِ الجاريةِ في البَحرِ سَهلًا، أو الرِّياحِ الجاريةِ في مَهابِّها، أو الكواكِبِ الَّتي تجري في مَنازِلِها... واللَّفظُ مُتَّسِعٌ بجَوهرِه للكُلِّ. واللهُ أعلمُ). ((تفسير القاسمي)) (9/34). وقال الألوسي: (إذا حُمِلَت هذه الصِّفاتُ على أمورٍ مُختَلِفةٍ مُتغايِرةٍ بالذَّاتِ كما في المُعَوَّلِ عليه، فالفاءُ للتَّرتيبِ في الأقسامِ ذِكرًا ورُتبةً، باعتِبارِ تَفاوُتِ مَراتِبِها في الدَّلالةِ على كَمالِ قُدرتهِ عزَّ وجَلَّ، وهذا التَّفاوُتُ إمَّا على التَّرقِّي أو التَّنَزُّلِ؛ لِما في كُلٍّ منها مِن الصِّفاتِ الَّتي تجعَلُها أعلى مِن وَجهٍ وأدنى مِن آخَرَ إذا نَظَر لها ذو نظَرٍ صَحيحٍ. وقيل: التَّرتيبُ بالنَّظَرِ إلى الأقرَبِ فالأقرَبِ مِنَّا، وإن حُمِلَت على واحدٍ -وهو الرِّياحُ- فهي لترتيبِ الأفعالِ والصِّفاتِ؛ إذ الرِّيحُ تَذْرو الأبخِرةَ إلى الجَوِّ أوَّلًا حتَّى تنعَقِدَ سَحابًا، فتَحمِلُه ثانيًا، وتجري به ثالثًا ناشِرةً وسائِقةً له إلى حيثُ أمَرَها اللهُ تعالى، ثمَّ تُقَسِّمُ أمطارَه). ((تفسير الألوسي)) (14/4). .
كما قال تعالى: وَالْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ [الحج: 65] .
وقال سُبحانَه: وَمِنْ آَيَاتِهِ الْجَوَارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلَامِ [الشورى: 32] .
فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا (4).
أي: فالملائِكةِ الَّتي تُقَسِّمُ أمْرَ اللهِ تعالى في خَلْقِه بإذْنِه ووَفْقَ ما أمَرَها به، كالأرزاقِ [14] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/482)، ((الوسيط)) للواحدي (4/173)، ((تفسير ابن عطية)) (5/171)، ((تفسير ابن الجوزي)) (4/167)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 279)، ((تفسير ابن كثير)) (7/414)، ((تفسير السعدي)) (ص: 808)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/435)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 116). نقَل ابنُ تيميَّةَ اتِّفاقَ السَّلَفِ وغَيرِهم مِن عُلماءِ المسلمينَ على أنَّ المُقسِّماتِ أمرًا: هم الملائِكةُ. يُنظر: ((الرد على المنطقيين)) (ص: 471). قال ابن القيِّم: (ما يُشاهَدُ مِن تدبيرِ العالَمِ العُلويِّ والسُّفليِّ وما لا يُشاهَدُ إنَّما هو على أيدي الملائكةِ؛ فالرَّبُّ تعالى يُدبِّرُ بهم أمرَ العالَمِ، وقد وكَّل بكُلِّ عَمَلٍ مِن الأعمالِ طائِفةً منهم؛ فوكَّل بالشَّمسِ والقَمَرِ والنُّجومِ والأفلاكِ طائِفةً منهم، ووكَّل بالقَطْرِ والسَّحابِ طائِفةً، ووكَّل بالنَّباتِ طائِفةً، ووكَّل بالأجِنَّةِ والحَيوانِ طائِفةً، ووكَّل بالموتِ طائفةً، وبحِفظِ بني آدَمَ طائِفةً، وبإحصاءِ أعمالِهم وكتابتِها طائفةً، وبالوَحيِ طائفةً، وبالجِبالِ طائفةً، وبكُلِّ شأنٍ مِن شُؤونِ العالَمِ طائفةً). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 284، 285). ويُنظر: ((تفسير السعدي)) (ص: 808). وقيل: المُقَسِّماتُ: هي الرِّياحُ الَّتي تُفَرِّقُ الأمطارَ على الأقطارِ. وممَّن ذهب إلى هذا المعنى: الرَّازيُّ، وابنُ عاشور. يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/161)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/337). قال ابن عاشور: (مِنَ المفَسِّرينَ مَن جَعَل هذه الصِّفاتِ الأربَعَ وَصفًا للرِّياحِ، قاله في «الكشَّاف»، ونَقَل بَعضَه عن الحَسَنِ، واستحسَنه الفَخرُ، وهو الأنسَبُ؛ لعطفِ الصِّفاتِ بالفاءِ). ((تفسير ابن عاشور)) (26/337). ويُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/395)، ((تفسير الرازي)) (28/161). وقال البِقاعي: (فَالْمُقَسِّمَاتِ أي: مِنَ السُّحُبِ بما تُصَرِّفُها فيه الملائكةُ عليهم السَّلامُ، وكذا السُّفُنُ بما يُصَرِّفُها اللهُ به مِن الرِّياحِ اللَّيِّنةِ أو العاصِفةِ مِن سلامةٍ وعَطَبٍ، وسُرعةٍ وإبطاءٍ، وكذا غيرُهما مِن كُلِّ أمرٍ تُصَرِّفُه الملائكةُ بيْنَ العبادِ وتُقَسِّمُه، ولَمَّا كان المحمولُ مُختلِفًا -كما تقَدَّمَ- قال جامِعًا لذلك: أَمْرًا أي: مِن الرَّحمةِ أو العذابِ). ((نظم الدرر)) (18/447). .
كما قال الله تعالى: فِيهَا يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ * أَمْرًا مِنْ عِنْدِنَا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ [الدخان: 4، 5].
وقال سُبحانَه: فَالْفَارِقَاتِ فَرْقًا * فَالْمُلْقِيَاتِ ذِكْرًا [المرسلات: 4، 5].
وقال عزَّ وجلَّ: فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا [النازعات: 5].
وقال جَلَّ شأنُه: تَنَزَّلُ الْمَلَائِكَةُ وَالرُّوحُ فِيهَا بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ [القدر: 4] .
وعن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: حَدَّثَنا رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو الصَّادِقُ المَصدوقُ، قال: ((إنَّ أحَدَكم يُجمَعُ خَلْقُه في بَطنِ أُمِّه أربَعينَ يَومًا، ثمَّ يكونُ في ذلك عَلَقةً مِثلَ ذلك، ثمَّ يكونُ في ذلك مُضغةً مِثلَ ذلك، ثمَّ يُرسَلُ الملَكُ فيَنفُخُ فيه الرُّوحَ، ويُؤمَرُ بأربَعِ كَلِماتٍ: بكَتْبِ رِزْقِه، وأجَلِه، وعَمَلِه، وشَقيٌّ أو سعيدٌ )) [15] أخرجه البخاريُّ (3208)، ومسلمٌ (2643) واللَّفظُ له. .
وعن حُذَيْفةَ بنِ أَسِيدٍ الغِفاريِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: سَمِعتُ رَسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((إذا مَرَّ بالنُّطفةِ ثِنتانِ وأربعونَ لَيلةً بَعَث اللهُ إليها مَلَكًا، فصَوَّرها، وخَلَق سَمْعَها وبَصَرَها، وجِلْدَها ولَحْمَها وعِظامَها، ثمَّ قال: يا رَبِّ، أذَكَرٌ أم أُنثى؟ فيَقضي ربُّك ما شاء، ويَكتُبُ الملَكُ، ثمَّ يقولُ: يا رَبِّ، أجَلُه؟ فيقولُ رَبُّك ما شاء، ويَكتُبُ المَلَكُ، ثمَّ يقولُ: يا رَبِّ، رِزقُه؟ فيَقضي رَبُّك ما شاء، ويَكتُبُ المَلَكُ، ثمَّ يَخرُجُ المَلَكُ بالصَّحيفةِ في يَدِه، فلا يَزيدُ على ما أُمِرَ ولا يَنقُصُ )) [16] أخرجه مسلم (2645). .
وعن عائِشةَ رَضِيَ اللهُ عنها، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في قِصَّةِ ذَهابِه إلى الطَّائِفِ: ((قال جِبريلُ: إنَّ اللهَ عزَّ وجلَّ قد سَمِعَ قَولَ قَومِك لك، وما رَدُّوا عليك، وقد بَعَث إليك مَلَكَ الجِبالِ؛ لِتَأمُرَه بما شِئتَ فيهم، فناداني مَلَكُ الجِبالِ وسلَّمَ علَيَّ، ثمَّ قال: يا محمَّدُ، إنَّ اللهَ قد سَمِعَ قَولَ قَومِك لك، وأنا ملَكُ الجِبالِ، وقد بَعثَني ربُّك إليك؛ لِتَأمُرَني بأمْرِك )) [17] أخرجه البخاري (3231)، ومسلم (1795) واللَّفظُ له. .
إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ (5).
أي: إنَّ الَّذي يَعِدُكم اللهُ به -أيُّها النَّاسُ- وَعدٌ صادِقٌ لا كَذِبَ فيه مُطلَقًا [18] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/484)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 285)، ((تفسير ابن كثير)) (7/414)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/340)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 116، 117). قال ابنُ القيِّم في قولِه تعالى: إِنَّمَا: (يجوزُ أن تكونَ «ما» مَوصولةً، والعائِدُ مَحذوفٌ، والمعنى: الَّذي تُوعَدونَه لَصادِقٌ، أي: كائِنٌ وثابِتٌ، وأن تكونَ مَصدريَّةً، أي: إنَّ وَعْدَكم لَحَقٌّ وصِدقٌ). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 285). وقال ابنُ عطيَّة: (تُوعَدُونَ يحتَمِلُ أن يكونَ مِنَ الإيعادِ، ويحتَمِلُ أن يكونَ مِنَ الوَعدِ، وأيَّها كان فالوَصفُ له بالصِّدقِ صَحيحٌ). ((تفسير ابن عطية)) (5/172). ويُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/339، 340). .
كما قال تعالى: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَوَاقِعٌ [المرسلات: 7] .
وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6).
مُناسَبةُ الآيةِ لِما قَبْلَها:
لَمَّا كان أجَلُ وَعيدِهم وما يَتعَلَّقُ بالجَزاءِ: يومَ القيامةِ، وكانوا يُنكِرونَه؛ قال [19] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/448). :
وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ (6).
أي: وإنَّ حِسابَ اللهِ لعِبادِه ومُجازاتَهم لَشَيءٌ كائِنٌ وواقِعٌ لا مَحالةَ [20] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/485)، ((تفسير القرطبي)) (17/30)، ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 285)، ((تفسير ابن كثير)) (7/414)، ((تفسير السعدي)) (ص: 808)، ((أضواء البيان)) للشنقيطي (7/436)، ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 117). .

الفوائد العلمية واللطائف:

1- قيل: في جميعِ السُّوَرِ الَّتي أقسَمَ اللهُ في ابتِدائِها بغيرِ الحُروفِ المُقطَّعةِ، كان القَسَمُ لإثباتِ أحَدِ الأُصولِ الثَّلاثةِ، وهي: الوَحدانيَّةُ، والرِّسالةُ، والحَشرُ [21] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/160)، ((تفسير المراغي)) (26/175). .
2- قال اللهُ تعالى: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا أقسَمَ سُبحانَه بهذه الأُمورِ الأربَعةِ؛ لِمَكانِ العِبرةِ والآيةِ، والدَّلالةِ الباهِرةِ على رُبوبيَّتِه ووَحدانيَّتِه وعِظَمِ قُدرتِه؛ ففي الرِّياحِ مِن العِبَرِ: هُبوبُها وسُكونُها، ولِينُها وشِدَّتُها، واختِلافُ طبائعِها وصِفاتِها ومَهابِّها، وتَصريفُها، وتنَوُّعُ مَنافِعِها، وشِدَّةُ الحاجةِ إليها. فلِلمَطَرِ خَمسةُ رِياحٍ: ريحٌ يَنشُرُ سَحابَه، ورِيحٌ يُؤَلِّفُ بَيْنَه، وريحٌ تُلَقِّحُه، وريحٌ تَسوقُه حيثُ يُريدُ اللهُ، ورِيحٌ تَذْرُو ماءَه وتُفَرِّقُه، وللنَّباتِ رِيحٌ، وللسُّفُنِ رِيحٌ، وللرَّحمةِ رِيحٌ، وللعَذابِ رِيحٌ، إلى غَيرِ ذلك مِن أنواعِ الرِّياحِ، وذلك يَقضِي بوجودِ خالِقٍ مُصَرِّفٍ لها، مُدَبِّرٍ لها يُصَرِّفُها كيف يَشاءُ، ويَجعَلُها رُخاءً تارَةً، وعاصِفةً تارةً، ورحمةً تارةً، وعذابًا تارةً؛ فتارةً يُحيي بها الزَّرعَ والثِّمارَ، وتارةً يَقطَعُها بها، وتارةً يُنَجِّي بها السُّفُنَ، وتارةً يُهلِكُها بها، وتارةً تُرَطِّبُ الأبدانَ، وتارةً تُذيبُها، وتارةً عَقيمًا، وتارةً لاقِحةً، وتارةً جَنوبًا، وتارةً دَبورًا، وتارةً صَبًا، وتارةً شَمالًا، وتارَةً حارَّةً، وتارةً بارِدةً، وهي مع غايةِ قُوَّتِها ألطَفُ شَيءٍ، وأقبَلُ المخلوقاتِ لكُلِّ كَيفيَّةٍ، سَريعةُ التَّأثُّرِ والتَّأثيرِ، لطيفةُ المسارِبِ بيْنَ السَّماءِ والأرضِ، إذا قُطِعَ عن الحَيوانِ الَّذي على وَجهِ الأرضِ هَلَك كبَحرِ الماءِ الَّذي إذا فارَقَه حيوانُ الماءِ هَلَك، يَحبِسُها الله سُبحانَه إذا شاء، ويُرسِلُها إذا شاء، تَحمِلُ الأصواتَ إلى الآذانِ، والرَّائِحةَ إلى الأنفِ، والسَّحابَ إلى الأرضِ الجُرُزِ، وهي مِن رَوحِ اللهِ تأتي بالرَّحمةِ، ومِن عُقوبتِه تأتي بالعَذابِ، وهي أقوى خَلْقِ اللهِ. والمقصودُ أنَّ الرِّياحَ مِن أعظَمِ آياتِ الرَّبِّ الدَّالَّةِ على عَظَمتِه ورُبوبيَّتِه وقُدرتِه [22] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 279-281). .
3- سَلِ الجارياتِ يُسْرًا مِنَ السُّفُنِ مَن أمسَكَها على وجهِ الماءِ، وسَخَّر لها البَحرَ؟ ومَن أرسَل لها الرِّياحَ الَّتي تَسوقُها على الماءِ سَوْقَ السَّحابِ على مُتونِ الرِّياحِ؟ ومَن حَفِظَها في مَجْراها ومُرْساها مِن طُغيانِ الماءِ وطُغيانِ الرِّيحِ؟ فمَنِ الَّذي جعَل الرِّيحَ لها بقَدْرٍ لو زاد عليها لَأغرَقَها، ولو نَقَص عنه لَعاقَها؟ ومَن الَّذي عَلَّم الخَلقَ الضَّعيفَ صَنعةَ هذا البَيتِ العَظيمِ الَّذي يمشي على الماءِ، فيَقطَعُ المسافةَ البعيدةَ ويعودُ إلى بَلَدِه يَشُقُّ الماءَ ويَمخَرُه مُقبِلًا ومُدبِرًا برِيحٍ واحِدةٍ تجري في مَوجٍ كالجبالٍ؟
وسَلِ الجارياتِ يُسْرًا مِنَ الكواكِبِ والشَّمسِ والقَمَرِ مَنِ الَّذي خَلَقَها وأحسَنَ خَلْقَها، ورَفَع مَكانَها، وزَيَّن بها قُبَّةَ العالَمِ، وفاوَتَ بيْنَ أشكالِها ومَقاديرِها وألوانِها وحَرَكاتِها وأماكِنِها مِن السَّماءِ؟ وأنت إذا تأمَّلْتَ أحوالَ هذه الكواكِبِ وَجَدْتَها تَدُلُّ على المَعادِ كما تدُلُّ على المبدَأِ، وتدُلُّ على وُجودِ الخالِقِ وصِفاتِ كَمالِه ورُبوبيَّتِه وحِكمتِه ووَحدانيَّتِه أعظَمَ دَلالةٍ، وكُلُّ ما دَلَّ على صِفاتِ جَلالِه ونُعوتِ كَمالِه دَلَّ على صِدقِ رُسُلِه، فكما جَعَل اللهُ النُّجومَ هدايةً في طريقِ البَرِّ والبَحرِ فهي هدايةٌ في طُرُقِ العِلمِ بالخالِقِ سُبحانَه وقُدرتِه، وعِلْمِه وحِكْمَتِه، والمبدأِ والمَعادِ والنُّبُوَّةِ. ودَلالتُها على هذه المطالِبِ لا تَقصُرُ عن دَلالتِها على طُرُقِ البَرِّ والبَحرِ، بل دَلالتُها للعُقولِ على ذلك أظهَرُ مِن دَلالتِها على الطُّرُقِ الحِسِّيَّةِ، فهي هدايةٌ في هذا وهذا [23] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 282-284). . وذلك على أنَّ المرادَ بقَولِه: فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا: الكواكِبُ.
4- قال اللهُ تعالى: فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا أقسَمَ بالسَّحابِ وهو مِن أعظَمِ آياتِ اللهِ في الجَوِّ في غايةِ الخِفَّةِ، ثمَّ يَحمِلُ الماءَ والبَرَدَ، فيَصيرُ أثقَلَ شَيءٍ، فيأمُرُ الرِّياحَ فتَحمِلُه على مُتونِها وتسيرُ به حيث أُمِرَت، فهو مُسَخَّرٌ بيْنَ السَّماءِ والأرضِ، حامِلٌ لأرزاقِ العِبادِ والحيوانِ، فإذا أفرَغَه حيثُ أُمِرَ به اضمَحَلَّ وتلاشى بقُدرةِ اللهِ؛ فإنَّه لو بَقِيَ لأضَرَّ النَّباتَ والحيوانَ، فأنشَأَه سُبحانَه في زَمنٍ يَصلُحُ إنشاؤُه فيه، وحَمَّلَه مِنَ الماءِ ما يَحمِلُه، وساقَه إلى بلَدٍ شَديدِ الحاجةِ إليه. فَسَلِ السَّحابَ مَن أنشَأَه بَعدَ عَدَمِه؟ وحمَّله الماءَ والثَّلجَ والبَرَدَ؟ ومَن حمَلَه على ظُهورِ الرِّياحِ؟ ومَن أمسَكَه بيْنَ السَّماءِ والأرضِ بغيرِ عِمادٍ؟ ومَن أغاث بقَطْرِه العِبادَ، وأحيا به البِلادَ، وصَرَّفه بيْن خَلْقِه كما أراد؟ وأخرَج ذلك القَطْرَ بقَدَرٍ مَعلومٍ، وأنزَلَه منه وأفناه بعدَ الاستِغناءِ عنه، ولو شاء لأدامَه عليهم فلم يَستطيعوا إلى دَفْعِه سَبيلًا، ولو شاء لأمسَكَه عنهم فلا يَجِدونَ إليه وُصولًا؟ فإنْ لم يُجِبْك جَوابًا حِوارًا، أجابك اعِتبارًا. وسَلِ الرِّياحِ مَن أنشأَها بقُدرتِه، وصَرَّفَها بحِكْمَتِه، وسَخَّرَها بمَشيئتِه، وأرسَلَها بُشْرًا بيْنَ يَدَي رَحمتِه، جعَلَها سَببًا لتَمامِ نِعمتِه، وسُلطانًا على مَن شاء بعُقوبتِه؟ ومَن جَعَلَها رُخاءً وذاريةً ولاقِحةً ومُثيرةً ومُؤَلِّفةً، ومُغَذِّيةً لأبدانِ الحَيوانِ والشَّجَرِ والنَّباتِ، وجعَلَها قاصِفًا وعاصِفًا ومُهلِكةً وعاتيةً، إلى غيرِ ذلك مِن صِفاتِها؟ فهل ذلك لها مِن نَفْسِها وذاتِها، أم تَدبيرُ مُدَبِّرٍ شَهِدَت الموجوداتُ برُبوبيَّتِه، وأقرَّت المصنوعاتُ بوَحدانيَّتِه، بيَدِه النَّفعُ والضُّرُّ، وله الخَلقُ والأمرُ. تبارَكَ اللهُ رَبُّ العالَمينَ [24] يُنظر: ((التبيان في أقسام القرآن)) لابن القيم (ص: 281، 282). .
5- قال اللهُ تعالى: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا الارتِباطُ بيْنَ هذه الثَّلاثةِ: أنَّ الرِّياحَ تُثيرُ السَّحابَ، وتُلقِّحُ السَّحابَ بالماءِ، وأنَّ السُّحُبَ تَحمِلُ الأمطارَ، فتَنزِلُ إلى الأرضِ، فيَكونُ الرِّزقُ للمَواشي والآدميِّينَ، والجارياتُ -أي: السُّفُنُ- هي أيضًا تَحمِلُ الأرزاقَ مِن جِهةٍ إلى جِهةٍ، فلا يُمكِنُ أن تَصِلَ الأرزاقُ مِن جِهةٍ إلى جِهةٍ أُخرى بَيْنَها وبيْنَها بَحرٌ إلَّا عن طريقِ السُّفُنِ [25] يُنظر: ((تفسير ابن عثيمين: سورة الحجرات - الحديد)) (ص: 116). .
6- في قَولِه تعالى: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا هذه الأقسامُ جاز أن يُقسِمَ اللهُ تعالى بها، ولا يجوزُ أن يُقسِمَ الخَلقُ إلَّا باللهِ؛ لأنَّ قَسَمَ الخَلقِ استِشهادٌ على صِحَّةِ قَولِهم بمَن يَعلَمُ السِّرَّ والعَلانيةَ، وليس ذلك إلَّا اللهَ؛ وقَسَمَ الخالِقِ إرادةٌ لتأكيدِ الخَبرِ في نُفوسِهم مِمَّا جرت به العادةُ بيْنَهم؛ فيُقسِمُ ببَعضِ خَلْقِه على وَجهٍ يُوجِبُ الاعتِبارَ، وإحضارَ القَلبِ عندَ التَّنبيهِ على عجائِبِ الفِطرةِ، وبدائِعِ القُدرةِ [26] يُنظر: ((باهر البرهان)) لبيان الحق الغزنوي (3/1365). . وقَولُه تعالى: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ جوابُ القَسَمِ، كأنَّه استدَلَّ باقتِدارِه على هذه الأشياءِ العَجيبةِ المُخالِفةِ لِمُقتَضى الطَّبيعةِ، على اقتِدارِه على البَعثِ؛ للجَزاءِ المَوعودِ [27] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/146). .
7- في قَولِه تعالى: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا هذه الأشياءُ كُلُّها دليلٌ على قُدرةِ اللهِ تعالى على الإعادةِ، فإنْ قيلَ: فلِمَ أخرَجَها مُخرَجَ الأيْمانِ؟
الجوابُ: لأنَّ المتكَلِّمَ إذا شَرَع في أوَّلِ كَلامِه يَحلِفُ، يَعلَمُ السَّامِعُ أنَّه يريدُ أن يتكَلَّمَ بكلامٍ عَظيمٍ؛ فإنَّه يُصغي إليه أكثَرَ مِن أن يُصغِيَ إليه حيثُ يَعلَمُ أنَّ الكلامَ ليس بمُعتَبَرٍ؛ فبدأ بالحَلِفِ، وأدرَجَ الدَّليلَ في صُورةِ اليَمينِ، حتَّى أقبَلَ القَومُ على سَماعِه؛ فخَرَج لهم البُرهانُ المُبِينُ والتِّبيانُ المَتينُ في صُورةِ اليَمينِ [28] يُنظر: ((تفسير الرازي)) (28/159). .
8- الملائكةُ هم رُسُلُ اللهِ في تدبيرِ العالَمِ [29] يُنظر: ((الجواب الصحيح)) لابن تيمية (6/25). ، فكلُّ حَركةٍ في السَّمَواتِ والأرضِ مِن حَرَكاتِ الأفلاكِ والنُّجومِ، والشَّمسِ والقَمَرِ، والرِّياحِ والسَّحابِ، والنَّباتِ والحَيوانِ: فهي ناشِئةٌ عنِ الملائِكةِ الموكَّلِينَ بالسَّمَواتِ والأرضِ، كما قال تعالى: فَالْمُدَبِّرَاتِ أَمْرًا [النازعات: 5] ، وقال: فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا [30] يُنظر: ((إغاثة اللهفان)) لابن القيم (2/125). .

بلاغة الآيات:

قولُه تعالَى: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا * إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ * وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ
- قولُه: وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا فيه افتِتاحُ هذه السُّورةِ بالقَسَمِ، والقَسَمُ المُفتتَحُ به مُرادٌ منه تَحقيقُ المُقسَمِ عليه، وتأكيدُ وُقوعِه، وقد أقسَمَ اللهُ بعَظيمٍ مِن مَخلوقاتِه، وهو في المَعنى قسَمٌ بقُدْرتِه وحِكمتِه، ومُتضمِّنٌ تَشريفَ تلك المَخلوقاتِ بما في أحوالِها مِن نِعَمٍ ودَلالةٍ على الهُدَى والصَّلاحِ، وفي ضِمنِ ذلك تَذْكيرٌ بنِعمةِ اللهِ فيما أوجَدَ فيها. والمُقسَمُ بها الصِّفاتُ تَقتضي مَوصوفاتِها، فآلَ إلى القسَمِ بالمَوصوفاتِ مِن أجْلِ تلك الصِّفاتِ العظيمةِ، وفي ذلك إيجازٌ دَقيقٌ، على أنَّ في طَيِّ ذِكرِ المَوصوفاتِ تَوفيرًا لِما تُؤذِنُ به الصِّفاتُ مِن مَوصوفاتٍ صالحةٍ بها؛ لِتَذهَبَ أفهامُ السَّامِعينَ في تَقديرِها كلَّ مَذهبٍ مُمكنٍ [31] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/336). .
- وفي تَخصيصِ الأُمورِ المذْكورةِ بالإقسامِ بها رمْزٌ إلى شَهادتِها بتَحقُّقِ مَضمونِ الجُملةِ المُقسَمِ عليها، منْ حيثُ إنَّها أُمورٌ بَديعةٌ مُخالِفةٌ لمُقتضَى الطَّبيعةِ، فمَنْ قدَرَ عليها فهُو قادرٌ على البَعثِ المَوعودِ [32] يُنظر: ((تفسير البيضاوي)) (5/146)، ((تفسير أبي السعود)) (8/136). .
- والمُناسَبةُ بيْن المُقسَمِ به والمُقسَمِ عليه: أنَّ أحوالَ الرِّياحِ المذكورةَ هنا -على قولٍ في التَّفسيرِ- مَبْدَؤُها: نفْخٌ، فتَكوينٌ، فإحياءٌ، وكذلك البَعثُ مَبْدَؤُه: نفْخٌ في الصُّورِ، فالْتِئامُ أجسادِ النَّاسِ الَّتي كانت مَعدومةً أو مُتفرِّقةً، فبَثُّ الأرْواحِ فيها فإذا هم قِيامٌ يَنظُرون، وقد يكونُ قولُه تعالى: أَمْرًا إشارةً إلى ما يُقابِلُه في المثالِ مِن أسبابِ الحياةِ، وهو الرُّوحُ؛ لقولِه: قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي [33] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/339). [الإسراء: 85] .
- وإنْ حُمِلَت الأوصافُ وَالذَّارِيَاتِ ذَرْوًا * فَالْحَامِلَاتِ وِقْرًا * فَالْجَارِيَاتِ يُسْرًا * فَالْمُقَسِّمَاتِ أَمْرًا على ذَواتٍ مُختلِفةٍ؛ فالفاءُ لتَرتيبِ الإقسامِ بها باعتِبارِ ما بيْنَها مِن التَّفاوُتِ في الدَّلالةِ على كَمالِ القدْرةِ، أو يُرادُ بالكلِّ الرِّياحُ؛ تَنزيلًا لاختِلافِ الصِّفةِ مَنزِلةَ اختِلافِ الذَّاتِ؛ فالفاءُ لتَرتيبِ الأفعالِ؛ إذ الرِّيحُ -مثلًا- تَذْرو الأبخِرةَ إلى الجوِّ حتَّى تَنعقِدَ سَحابًا، فتَحمِلُه فتَجْري به باسِطةً له إلى حيث أُمِرَت به، فتَقسِمُ المطَرَ [34] يُنظر: ((تفسير الزمخشري)) (4/395)، ((تفسير البيضاوي)) (5/146)، ((تفسير أبي حيان)) (9/548)، ((تفسير أبي السعود)) (8/136)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/337). .
- ونُصِبَ ذَرْوًا على المفعولِ المطلَقِ؛ لإرادةِ تَفخيمِه بالتَّنوينِ. ويجوزُ أنْ يكونَ مَصدرًا بمَعنى المفعولِ، أي: المَذْرُوَّ، ويكونَ نصْبُه على المَفعولِ به [35] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/338). .
- قولُه: (الْحَامِلَاتِ وِقْرًا) على القولِ بأنَّ المرادَ الرِّياحُ حينَ تَجمَعُ السَّحابَ وقد ثقُلَ بالماءِ؛ شُبِّهَ جمْعُها إيَّاه بالحِمْلِ؛ لأنَّ شأْنَ الشَّيءِ الثَّقيلِ أنْ يَحمِلَه الحامِلُ [36] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/338). .
- قولُه: يُسْرًا، أي: جَرْيًا ذا يُسْرٍ، أي: سُهولةٍ، فـ يُسْرًا مَصدرٌ وُصِفَ به على تَقديرِ مَحذوفٍ [37] يُنظر: ((تفسير أبي حيان)) (9/548)، ((تفسير أبي السعود)) (8/136)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/338). .
- قولُه: إِنَّمَا تُوعَدُونَ لَصَادِقٌ الصَّادقُ وصْفٌ للواعِدِ، لا لِما يُوعَدُ؛ فوصَفَ ما يُوعَدُ به بالصِّدقِ مُبالَغةً، والمَعْنَى: (لَصِدْقٌ)؛ فوَضَعَ الاسمَ مكانَ المَصْدَرِ. أو هو بمَعنى مَصدوقٍ، كـ عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [الحاقة: 21] ، ومَاءٍ دَافِقٍ [38] يُنظر: ((تفسير ابن جرير)) (21/485)، ((تفسير الزمخشري)) (4/395)، ((تفسير أبي حيان)) (9/549)، ((فتح الرحمن)) للأنصاري (ص: 533، 534)، ((تفسير أبي السعود)) (8/136)، ((تفسير ابن عاشور)) (26/340). قال ابن القيِّم: (وَصفُ الوَعدِ بكَونِه صادِقًا أبلَغُ مِن وَصفِه بكَونِه صِدقًا، ولا حاجةَ إلى تَكَلُّفِ جَعلِه بمعنى «مَصدوقٍ فيه»، بل هو صادِقٌ نَفْسُه، كما يُوصَفُ المتكلِّمُ بأنَّه صادِقٌ في كَلامِه، فيُوصَفُ كلامُه بأنَّه صادِقٌ، وهذا مِثْلُ قَولِهم: سِرٌّ كاتمٌ، وليلٌ قاتمٌ، ونهارٌ صائِمٌ، وماءٌ دافقٌ، ومنه: عِيشَةٍ رَاضِيَةٍ [الحاقة: 21] ، وليس ذلك بمَجازٍ ولا مُخالِفٍ لِمُقتضى التَّركيبِ). ((التبيان في أقسام القرآن)) (ص: 285). [الطارق: 6] . وقيل: لَمَّا كان ما تُوُعِّدوا به -لتحَقُّقِ وُقوعِه وقُربِه- كأنَّه موجودٌ يُخاطِبُهم عن نَفْسِه، عَبَّرَ عن المصدَرِ باسمِ الفاعِلِ؛ فقال: لَصَادِقٌ أي: مُطابِقٌ الإخبارُ به للواقِعِ [39] يُنظر: ((نظم الدرر)) للبقاعي (18/448). .
- قولُه: وَإِنَّ الدِّينَ لَوَاقِعٌ الدِّين: الجزاءُ، ومعنَى لَوَاقِعٌ واقعٌ في المُستقبَلِ، بقرينةِ جعْلِه مُرتَّبًا في الذِّكرِ على ما يُوعَدونَ، وإنَّما يكونُ حُصولُ الموعودِ به في الزَّمنِ المستقبَلِ، وفي ذِكرِ الجزاءِ -زِيادةً على الكِنايةِ به عن إثباتِ البعثِ- تَعريضٌ بالوعيدِ على إنْكارِ البعثِ [40] يُنظر: ((تفسير ابن عاشور)) (26/340). .