موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّالثُ: مُناقَشةُ رأيِ المُعتَزِلةِ في حُكمِ الخُروجِ على السُّلطانِ وقِتالِ المُخالِفِ لهم، معَ بَيانِ رأيِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ


المُعتَزِلةُ يرَونَ وُجوبَ الخُروجِ على السُّلطانِ الجائِرِ وقِتالِ المُخالِفِ لهم في أُصولِهم.
ونقولُ لهم: ما الذي تقصِدونَه بوُجوبِ الخُروجِ على السُّلطانِ؟ هل هو الخُروجُ على السُّلطانِ الكافِرِ والمُرتَدِّ عن الإسلامِ؟ أم الخُروجُ على السُّلطانِ الجائِرِ والمُخالِفِ لكم في أُصولِكم؟
إن كان الأوَّلَ فهذا نتَّفِقُ معَكم فيه؛ فإنَّ مَن ارتدَّ عن الإسلامِ يجِبُ قِتالُه حتَّى يعودَ إلى الإسلامِ، أو يزولَ بموتٍ أو غَيرِه؛ لِما روَت أمُّ سَلَمةَ رضِي اللهُ عنها: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّه يُستعمَلُ عليكم أُمَراءُ، فتَعرِفونَ وتُنكِرونَ، فمَن كَرِه فقد برِئ، ومَن أنكَر فقد سَلِم، ولكنْ مَن رضِيَ وتابَع، قالوا: يا رسولَ اللهِ: ألَا نُقاتِلُهم؟ قال: لا ما صَلَّوا )) [1143] أخرجه مسلم (1854). .
فمفهومُ الحديثِ أنَّهم يُقاتَلونَ إذا ارتدُّوا عن دينِ الإسلامِ، ومِثلُه حديثُ عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رضِي اللهُ عنه؛ حيثُ قال: ((دعانا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فبايَعْناه، فكان فيما أخَذ علينا: أن بايَعَنا على السَّمعِ والطَّاعةِ في مَنشَطِنا ومَكرَهِنا، وعُسرِنا ويُسرِنا، وأَثَرةٍ علينا، وألَّا نُنازِعَ الأمرَ أهلَه، قال: إلَّا أن ترَوا كُفرًا بَواحًا عندَكم مِن اللهِ فيه بُرهانٌ، وفي روايةٍ: وعلى أن نقولَ بالحقِّ أينما كنَّا، لا نخافُ في اللهِ لومةَ لائِمٍ )) [1144] أخرجه البُخاريُّ (7055، 7056)، ومُسلمٌ (1709) واللَّفظُ له. ؛ ففي هذا الحديثِ إشارةٌ إلى أنَّ للرَّعيَّةِ مُنازَعةَ الإمامِ الأمرَ في حالِ كُفرِه.
ويُؤيِّدُ ذلك عَملُ أبي بكرٍ رضِي اللهُ عنه معَ أهلِ الرِّدَّةِ.
وإن كان الثَّانيَ: وهو وُجوبُ الخُروجِ على السُّلطانِ الجائِرِ والمُخالِفِ لكم في أُصولِكم؛ فهذا القولُ مردودٌ؛ لتضافُرِ الأدلَّةِ مِن الكتابِ والسُّنَّةِ بالأمرِ بطاعةِ الأئمَّةِ، حتَّى ولو كانوا جائِرينَ، والنَّهيِ عن قِتالِهم ما لم يكفُروا.
مِن ذلك عُمومُ قولِ اللهِ تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَأَطِيعُوا الرَّسُولَ وَأُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ [النساء: 59] .
ومِن ذلك حديثُ أمِّ سَلَمةَ السَّابِقُ الذِّكرِ، والذي فيه قولُ الصَّحابةِ رضِي اللهُ عنهم للرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((ألَا نُقاتِلُهم؟ قال: لا، ما صَلَّوا )) [1145] أخرجه مسلم (1854). .
ومِن ذلك حديثُ عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ السَّابِقُ الذِّكرِ، وفيه: ((بايَعْنا رسولَ اللهِ على السَّمعِ والطَّاعةِ...، وألَّا نُنازِعَ الأمرَ أهلَه، قال: إلَّا أن ترَوا كُفرًا بَواحًا...)) [1146] أخرجه البُخاريُّ (7055، 7056)، ومُسلمٌ (1709) واللَّفظُ له. .
فقد نهى صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن قِتالِ الأئمَّةِ ولو كانوا جائِرينَ، ما داموا يُقيمونَ الصَّلاةَ، ولم يُظهِروا كُفرًا بَواحًا.
ومِثلُ ذلك أيضًا: حديثُ سَلَمةَ بنِ يَزيدَ الجُعْفيِّ عندَما سأل الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: ((يا نبيَّ اللهِ، أرأَيتَ إن قامت علينا أُمَراءُ يسألونا حقَّهم، ويمنعونا حقَّنا، فما تأمُرُنا؟ فأعرَض عنه، ثُمَّ سأله فأعرَض عنه، ثُمَّ سأله في الثَّانيةِ أو في الثَّالثةِ، فجذَبه الأشعَثُ بنُ قيسٍ، وقال: اسمَعوا وأطيعوا؛ فإنَّما عليهم ما حُمِّلوا، وعليكم ما حُمِّلْتُم )) [1147] أخرجه مسلم (1846). .
ففي هذا الحديثِ أمرٌ بالسَّمعِ والطَّاعةِ للإمامِ، حتَّى ولو كان جائِرًا.
ولأنَّ في الخُروجِ على الأئمَّةِ مِن المفاسِدِ أكثَرَ مِن المصالِحِ التي يُرادُ تحصيلُها؛ إذ إنَّ الخُروجَ عليهم قد يُؤدِّي إلى سَفكِ الدِّماءِ واستِحلالِ الحرامِ، والقاعِدةُ العامَّةُ: أنَّه إذا تعارَضَت المصالِحُ والمفاسِدُ، قُدِّم الرَّاجِحُ [1148] يُنظر: ((شرح الواسطية)) (ص: 622)، ويُنظر: ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لابن تَيميَّة (ص: 20- 21). .
ولأنَّ تَركَهم وما هم عليه مِن جَورٍ أهوَنُ مِن سَفكِ الدِّماءِ؛ لذا كان أَولى.
قال ابنُ تيميَّةَ: (لهذا أمَر صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالصَّبرِ على جَورِ الأئمَّةِ، ونهى عن قِتالِهم ما أقاموا الصَّلاةَ: ((أدُّوا إليهم حُقوقَهم، واسألوا حُقوقَكم)) [1149] أخرجه البُخاريُّ (7052)، ومُسلمٌ (1843) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ مسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ البخاريِّ: ((أدُّوا إليهم حَقَّهم، وسَلُوا اللهَ حَقَّكم)). ، ثُمَّ قال: (إنَّ مِن أُصولِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ لُزومَ الجماعةِ وتَرْكَ قِتالِ الأئمَّةِ، وتَرْكَ القِتالِ في الفِتنةِ) [1150] ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) (ص: 20). .
أمَّا ما سِوى الإمامِ مِن عامَّةِ النَّاسِ، فيُقالُ: إن كانت المُعتَزِلةُ ترى قِتالَهم لِكُفرِهم وارتِدادِهم عن دينِ الإسلامِ؛ فنحن نُوافِقُهم على ذلك؛ بدليلِ عَملِ أبي بكرٍ رضِي اللهُ عنه معَ أهلِ الرِّدَّةِ.
وإن كانوا يرَونَ قِتالَهم؛ لأنَّهم خالَفوا أُصولَهم، أو لأنَّهم ارتَكَبوا الكبائِرَ، فنقولُ: أمَّا مُخالَفتُهم لأُصولِكم فلا يُعتبَرُ كُفرًا يوجِبُ قِتالَهم، بل هو سلامةٌ مِن البِدعةِ ودُخولٌ في السُّنَّةِ!
وأمَّا ارتِكابُ الكبائِرِ فكذلك لا يوجِبُ قِتالَهم، وذلك لأنَّ بعضَ الكبائِرِ لها حُدودٌ، فيُقامُ الحدُّ على مُرتكِبيها إذا بلَغ أمرُهم السُّلطانَ، وثبتَت الكبيرةُ بإقرارٍ أو شُهودٍ، وإذا لم يبلِغِ السُّلطانَ أمرُهم فعلى المُسلِمِ لأخيه المُسلِمِ النَّصيحةُ، ومُحاوَلةُ مَنعِه ارتِكابَ المُحرَّماتِ بيدِه إن استطاع، فإن لم يستطِعْ فبِلِسانِه، فإن لم يستطِعٍ فبقلبِه، ثُمَّ إنَّ مَنعَ المُنكَرِ باليدِ لا يعني القِتالَ بالسَّيفِ، كما تقدَّم عندَ الرَّدِّ على شُبهةِ المُعتَزِلةِ في ترتيبِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ.
ونقولُ لهم أيضًا: لو أوجَبْتُم قِتالَ صاحِبِ الكبيرةِ لناقَضْتُم قولَكم في المنزِلةِ بَينَ المنزِلتَينِ؛ فإنَّكم ترَونَ أنَّ صاحِبَ الكبيرةِ في منزِلةٍ بَينَ المنزِلتَينِ، لا كافِرٌ ولا مُؤمِنٌ، وعلَّلْتُم عَدمَ إطلاقِ الكُفرِ عليه؛ لأنَّه يُعامَلُ مُعامَلةَ المُسلِمِ، ومِن مُعامَلتِه أنَّه لا يُقتَلُ كما يُقتَلُ الكافِرُ [1151] يُنظر: ((الانتصار)) للخياط (ص: 118). .
وعلى ذلك، فصاحِبُ الكبيرةِ لا يُقاتَلُ باتِّفاقٍ منَّا ومنكم.
منَّا: لأنَّه مُؤمِنٌ، وله حُدودٌ.
ومنكم: لأنَّه ليس بكافِرٍ. واللهُ أعلَمُ.

انظر أيضا: