موسوعة الفرق

المَطلَبُ الرَّابعُ: مُناقَشةُ المُعتَزِلةِ في قولِهم: إنَّه لا فَرقَ بَينَ قِتالِ الكافِرِ والفاسِقِ، معَ بيانِ رأيِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ


المُعتَزِلةُ لا يُفرِّقونَ بَينَ قِتالِ الكافِرِ والفاسِقِ؛ لأنَّهم يرَونَ قِتالَ كُلِّ مُخالِفٍ لهم.
فيُقالُ لهم: إنَّ قولَكم: إنَّه لا فرقَ بَينَ قِتالِ الكافِرِ والفاسِقِ على إطلاقِه، مردودٌ؛ لأنَّ الفِسقَ ليس كُلُّه كُفرًا.
قال ابنُ القيِّمِ مُبيِّنًا أنَّ الفُسوقَ منه ما هو كُفرٌ يُخرِجُ عن الإسلامِ، ومنه ما لا يُخرِجُ عن الإسلامِ: (أمَّا الفُسوقُ فهو في كتابِ اللهِ نوعانِ: مُفردٌ مُطلَقٌ، ومقرونٌ بالعِصيانِ، والمُفرَدُ نوعانِ أيضًا: فُسوقُ كُفرٍ يُخرِجُ عن الإسلامِ، وفُسوقٌ لا يُخرِجُ عن الإسلامِ؛ فالمقرونُ كقولِه تعالى: وَاعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَلَكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمَانَ وَزَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَكَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَالْفُسُوقَ وَالْعِصْيَانَ أُولَئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ [الحجرات: 7] ، والمُفرَدُ: الذي هو فُسوقُ كُفرٍ، كقولِه تعالى: يُضِلُّ بِهِ كَثِيرًا وَيَهْدِي بِهِ كَثِيرًا وَمَا يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفَاسِقِينَ [البقرة: 26] ، وقولِه عزَّ وجلَّ: وَلَقَدْ أَنزَلْنَا إِلَيْكَ آيَاتٍ بَيِّنَاتٍ وَمَا يَكْفُرُ بِهَا إِلَّا الْفَاسِقُونَ [البقرة: 99] ، وقولِه تعالى: وَأَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْوَاهُمُ النَّارُ كُلَّمَا أَرَادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْهَا أُعِيدُوا فِيهَا وَقِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذَابَ النَّارِ الَّذِي كُنتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ [السجدة: 20] .
وأمَّا الفُسوقُ الذي لا يُخرِجُ عن الإسلامِ فكقولِه تعالى: وَإِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَاتَّقُوا اللَّهَ وَيُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَاللَّهُ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ [البقرة: 282] ، وكقولِه تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَأٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات: 6] ) [1152] ((مدارج السالكين)) (1/359- 360). .
مِن كلامِ ابنِ القيِّمِ يتَّضِحُ أنَّ مُرتكِبَ الكبيرةِ فاسِقٌ، إلَّا أنَّه ليس بكافِرٍ، وأنتم -مَعشَرَ المُعتَزِلةِ- تقولونَ: إنَّ مُرتكِبَ الكبيرةِ ليس كافِرًا؛ لِما معَه مِن الإيمانِ باللهِ ورسولِه، بل في منزِلةٍ بَينَ منزِلتَينِ، فكيف تجعلونَ قِتالَه مِثلَ قِتالِ الكافِرِ؟!
وهذا يدُلُّ على أنَّ مُرتكِبَ الكبيرةِ لا يُقاتَلُ؛ لأنَّه قد قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ مُحمَّدٌ رسولُ اللهِ، ومَن قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ، لا يحِلُّ قِتالُه؛ لِما رُوِي ((أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعَث بَعْثًا مِن المُسلِمينَ إلى قومٍ مِن المُشرِكينَ، وأنَّهم التقَوا، فكان رجُلٌ مِن المُشرِكينَ إذا شاء أن يقصِدَ إلى رجُلٍ مِن المُسلِمينَ قصَد له فقتَله، وأنَّ رجُلًا مِن المُسلِمينَ قصَد غَفْلتَه -قال: وكنَّا نُحدَّثُ أنَّه أسامةُ بنُ زيدٍ- فلمَّا رفَع عليه السَّيفَ قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ، فقتَله، فجاء البَشيرُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فأخبَره حتَّى أخبَره خَبرَ الرَّجلِ كيف صنَع، فدعاه فسأله، فقال: أقتَلْتَه؟ قال: يا رسولَ اللهِ، أوجَعَ في المُسلِمينَ، وقتَل فلانًا وفلانًا! وسمَّى له نَفرًا، وإنِّي حَملْتُ عليه، فلمَّا رأى السَّيفَ قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ، قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أقتَلْتَه؟ قال: نعَم، قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: فكيف تصنَعُ بـلا إلهَ إلَّا اللهُ إذا جاءت يومَ القيامةِ؟! قال: فجعَل لا يزيدُه على أن يقولَ: كيف تصنَعُ بـلا إلهَ إلَّا اللهُ إذا جاءت يومَ القِيامةِ؟! )) [1153] أخرجه مسلم (97) من حديثِ جُندُبِ بنِ عبدِ اللهِ البَجَليِّ رَضِيَ اللهُ عنه. .
ففي هذا الحديثِ دَلالةٌ على أنَّ مَن قال: "لا إلهَ إلَّا اللهُ" لا يُقاتَلُ، وصاحِبُ الكبيرةِ قد قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ؛ فدلَّ على أنَّه لا يُقاتَلُ. واللهُ أعلَمُ.

انظر أيضا: