موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّاني: مُناقَشةُ رأيِ المُعتَزِلةِ في الوسيلةِ في الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ، معَ بيانِ رأيِ أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ


تعلَّق المُعتَزِلةُ حولَ رأيِهم في الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ بشُبُهاتٍ نُجمِلُها ونُناقِشُها.
ومِن ذلك: شُبهةُ تعلُّقِهم بقولِ اللهِ تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى فَقَاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِيءَ إِلَى أَمْرِ اللَّهِ [الحجرات: 9] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
قال القاضي عبدُ الجبَّارِ: (إنَّ اللهَ تعالى أمَر بإصلاحِ ذاتِ البَينِ أوَّلًا، ثُمَّ بَعدَ ذلك بما يليه، إلى أن انتهى إلى المُقاتَلةِ) [1136] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 144). .
المُناقَشةُ:
يُقالُ لهم: إنَّ التَّرتيبَ الذي ورَد في الآيةِ إنَّما هو بخصوصِ فِئتَينِ مُتقاتِلتَينِ، ولا يُمكِنُ أن يكونَ أمرُهم بالمعروفِ ونَهيُهم عن المُنكَرِ إلَّا بمُحاوَلةِ الصُّلحِ أوَّلًا، ثُمَّ بقِتالِ مَن لم يقبَلْ ذلك ثانيًا؛ لأنَّ الحالَ الذي عليه كُلٌّ مِن الفِئتَينِ يقتضي ذلك.
أمَّا الأمرُ بالمعروفِ والنَّهيُ عن المُنكَرِ عُمومًا فهو مُرتَّبٌ بترتيبِ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهو باليدِ أوَّلًا، وذلك بمُحاولةِ مَنعِ ارتِكابِ المعاصي التي حرَّمها اللهُ، وليس بقِتالِ مَن يرتكِبُها، وإذا لم يستطِعِ المُسلِمُ أن يُغيِّرَ المُنكَرَ بيدِه فليكنْ نهيُه عن المُنكَرِ وأمرُه بالمعروفِ بلِسانِه، فإذا كان فِعلُ اللِّسانِ سيترتَّبُ عليه ضَررٌ لا يستطيعُ معَه الأمرَ والنَّهيَ، فليُنكِرِ المُنكَرَ بقلبِه.
فعن أبي سعيدِ الخُدْريِّ رضِي اللهُ عنه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن رأى منكم مُنكَرًا فليُغيِّرْه بيدِه، فإن لم يستَطِعْ فبِلِسانِه، فإن لم يستطِعْ فبِقلبِه، وذلك أضعَفُ الإيمانِ )) [1137] أخرجه مسلم (49). .
وهذا هو التَّرتيبُ الذي سار عليه السَّلفُ [1138] يُنظر: ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لابن تَيميَّة (ص: 18)، ويُنظر: ((شرح جوهرة التوحيد)) للبَيْجوري (ص: 470). .
وعلى ذلك: فاستِدلالُ المُعتَزِلةِ بالآيةِ على أنَّ التَّرتيبَ في الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ يبدَأُ مِن الأسهَلِ إلى الأصعَبِ؛ باطِلٌ.
مِن هذا العَرْضِ تبيَّن أنَّ المُعتَزِلةَ قد خالَفوا أهلَ السُّنَّةِ في ترتيبِ الأمرِ بالمعروفِ والنَّهيِ عن المُنكَرِ؛ فالمُعتَزِلةُ يبدؤونَ مِن الأسهَلِ إلى الأصعَبِ؛ مِن الحُسنى إلى اليدِ إلى السَّيفِ؛ أمَّا أهلُ السُّنَّةِ فعلى النَّقيضِ مِن ذلك؛ يبدؤونَ باليدِ مِن دونِ قتالٍ، ثُمَّ اللِّسانِ، ثُمَّ القلبِ [1139] يُنظر: ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لابن تَيميَّة (ص: 18)، ويُنظر: ((شرح جوهرة التوحيد)) للبَيْجوري (ص: 470). .
كما أنَّ المُعتَزِلةَ يستعمِلونَ السَّيفَ في الأمرِ بالمعروفِ، بخِلافِ أهلِ السُّنَّةِ، فلا يستعمِلونَه استِنادًا إلى الحديثِ المذكورِ؛ حيثُ قصَر الإنكارَ على اليدِ، ثُمَّ اللِّسانِ، ثُمَّ القلبِ، ولم يُشِرْ إلى السَّيفِ، واستِنادًا إلى الأحاديثِ النَّاهيةِ عن حَملِ السِّلاحِ على المُسلِمينَ والقِتالِ بَينَهم، مِثلُ قولِه: صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((مَن حمَل علينا السِّلاحَ فليس منَّا )) [1140] أخرجه البُخاريُّ (6874)، ومُسلمٌ (98) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما. ، وقولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لا ترجِعوا بعدي كُفَّارًا يضرِبُ بعضُكم رِقابَ بعضٍ )) [1141] أخرجه البُخاريُّ (121)، ومُسلمٌ (65) من حديثِ جريرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه. .
واستِنادًا إلى القاعِدةِ العامَّةِ: إذا تعارَضَت المصالِحُ والمفاسِدُ قُدِّم الرَّاجِحُ، ولأنَّ إنكارَ المُنكِرِ بالسَّيفِ قد يُؤدِّي إلى مَفسَدةٍ أكبَرَ مِن المُنكَرِ الموجودِ؛ لِما فيه مِن إثارةِ الفِتَنِ وسَفكِ الدِّماءِ؛ لذا كان تَركُه أَولى [1142] يُنظر: ((الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر)) لابن تَيميَّة (ص: 20- 21). .

انظر أيضا: