موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّاني: عَرضُ بعضِ شُبُهاتِ المُعتَزِلةِ التي يُؤيِّدونَ بها رأيَهم في الوعدِ معَ المُناقَشةِ


حاوَل المُعتَزِلةُ تأييدَ رأيِهم في الوعدِ بعِدَّةِ شُبُهاتٍ تُبرِّرُ مذهَبَهم الذي اختاروه، وسوف نستعرِضُ أبرَزَها، معَ مُناقَشتِها.
الشُّبهةُ الأولى:
قال اللهُ تعالى: وَمَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهَاجِرًا إِلَى اللَّهِ وَرَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلى اللَّهِ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [النساء: 100] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
قال الزَّمَخشَريُّ: (فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ فقد وجَب ثوابُه عليه؛ إذ إنَّ حقيقةَ الوُجوبِ هو الوُقوعُ والسُّقوطُ؛ قال تعالى: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا [الحج: 36] ، أي: سقَطَت، ويُقالُ: وجبَت الشَّمسُ: سقَط قُرصُها، والمعنى: فقد علِم اللهُ كيف يُثيبُه، وذلك واجِبٌ عليه) [967] ((تفسير الكشاف)) (1 /558). .
وقال الرَّازيُّ: (قالت المُعتَزِلةُ: هذه الآيةُ تدُلُّ على أنَّ العملَ يوجِبُ الثَّوابَ على اللهِ؛ لأنَّه تعالى قال: فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ [النساء: 100] ، ثُمَّ قالوا: وذلك يدُلُّ على قولِنا مِن ثلاثةِ أوجُهٍ.
الأوَّلُ: أنَّه ذكَر لفظَ الوُقوعِ، وحقيقةُ الوُجوبِ هي: الوُقوعُ والسُّقوطُ؛ قال تعالى: فَإِذَا وَجَبَتْ جُنُوبُهَا [الحج: 36] ، أي: سقَطَت.
الثَّاني: ذكَر لفظَ الأجرِ، والأجرُ: عِبارةٌ عن المنفعةِ المُستحقَّةِ، فأمَّا الذي لا يكونُ مُستحقًّا فذلك لا يُسمَّى أجرًا، بل هِبةً.
الثَّالثُ: قولُه: عَلَى اللَّهِ، وكَلِمةُ "على" للوُجوبِ؛ قال تعالى: وَلِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا [آل عمران: 97] ) [968] ((التفسير الكبير)) (11 /16). .
المُناقَشةُ:
لا نُنازِعُ في دَلالةِ الآيةِ على الوُجوبِ، لكن بحُكمِ الوعدِ والتَّفضُّلِ والكَرمِ، لا بحُكمِ الاستِحقاقِ [969] يُنظر: ((فتح القدير)) للشوكاني (1 /550)، ((تفسير المراغي)) (4 /135). ويُنظر: ((التفسير الكبير)) للرازي (11 /16). ؛ وذلك لِما يلي:
1- أنَّ الإنعامَ يوجِبُ على المُنعَمِ عليه الاشتِغالَ بالشُّكرِ والخِدمةِ، ونِعَمُ اللهِ تعالى على عبادِه لا تُحصى، كما قال تعالى: وَإِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لَا تُحْصُوهَا [إبراهيم: 34] ، وإذا كان كذلك فتلك النِّعَمُ السَّالِفةُ توجِبُ على العبدِ الاشتِغالَ بالطَّاعةِ والشُّكرِ، وأداءُ الواجِبِ لا يكونُ سببًا لاستِحقاقِ شيءٍ آخَرَ؛ فوجَب ألَّا يكونَ اشتِغالُ العبدِ بالطَّاعةِ علَّةً لاستِحقاقِ الثَّوابِ على اللهِ.
2- لو كان العَملُ علَّةً لوُجوبِ الثَّوابِ لكان إمَّا أن يمتنِعَ مِن اللهِ تعالى ألَّا يُثيبَ، أو يصِحَّ؛ فإن امتنَع ألَّا يُثيبَ فحينَئذٍ يكونُ الصَّانِعُ علَّةً موجِبةً لذلك الثَّوابِ لا فاعِلًا مُختارًا، وإن صحَّ، فبتقديرِ ألَّا يُثيبَ: إن لم يَصِرْ مُستحِقًّا للذَّمِّ لم يتحقَّقْ معنى الوُجوبِ، وإن صار مُستحِقًّا للذَّمِّ لزِم أن يكونَ ناقِصًا لذاتِه مُستكمِلًا بذلك الفِعلِ الذي يفعَلُه، وذلك مُحالٌ [970] يُنظر: ((الأربعين في أصول الدين)) للرازي (ص: 388، 389). .
3- أنَّ العبدَ لا يدخُلُ الجنَّةَ بعَملِه، وإنَّما يدخُلُها بفضلِ اللهِ ورحمتِه بسببِ عَملِه؛ قال تعالى: الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِنْ فَضْلِهِ [فاطر: 35] .
وعن عائِشةَ رضِي اللهُ عنها: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((سدِّدوا وقارِبوا وأبشِروا؛ فإنَّه لا يُدخِلُ أحدًا الجنَّةَ عَمَلُه، قالوا: ولا أنت يا رسولَ اللهِ؟ قال: ولا أنا، إلَّا أن يتغمَّدَني اللهُ بمغفرةٍ ورحمةٍ )) [971] أخرجه البُخاريُّ (6467) واللَّفظُ له، ومُسلمٌ (2818). .
فإذا كان العبدُ لا يُدخِلُه الجنَّةَ عَمَلُه لم يستحِقَّ بعَملِه على اللهِ شيئًا، ثُمَّ إنَّ كونَ العبدِ لا يستحِقُّ بعَملِه على اللهِ شيئًا لا يتنافى معَ الحقِّ الذي أوجَبه اللهُ على نَفسِه؛ قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: (يا مُعاذُ بنَ جَبلٍ، قُلْتُ: لَبَّيك رسولَ اللهِ وسَعدَيك، قال: هل تدري ما حقُّ اللهِ على عِبادِه؟ قُلْتُ: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، قال: حقُّ اللهِ على عِبادِه أن يَعبُدوه ولا يُشرِكوا به شيئًا، ثُمَّ سار ساعةً، ثُمَّ قال: يا مُعاذُ بنَ جَبلٍ، قُلْتُ: لَبَّيك رسولَ اللهِ وسَعدَيك، قال: هل تدري ما حقُّ العِبادِ على اللهِ إذا فعَلوه؟ قُلْتُ: اللهُ ورسولُه أعلَمُ، قال: حقُّ العِبادِ على اللهِ ألَّا يُعذِّبَهم) [972] أخرجه البُخاريُّ (6500) واللَّفظُ له، ومُسلمٌ (30) من حديثِ مُعاذِ بنِ جَبَلٍ رَضِيَ اللهُ عنه. ؛ لأنَّ هذا الحقَّ أوجَبه الباري على نَفسِه، ولم يوجِبْه العبدُ عليه بعَملِه.
إضافةً إلى ذلك، فإنَّ الوُجوبَ على اللهِ بمعنى أن يوجِبَ أحدٌ عليه شيئًا؛ باطِلٌ، وقد سبَق بيانُ وَجهِ ذلك.
وإذًا فإذا كان المُرادُ بالوُجوبِ في الآيةِ بحُكمِ ما أوجَبه الغَيرُ عليه فهذا باطِلٌ؛ إذ لا سُلطانَ فوقَ سُلطانِه تعالى، وإن كان بحُكمِ ما أوجَبه على نَفسِه فهذا حقٌّ، وله تعالى أن يوجِبَ على نَفسِه ما يشاءُ [973] يُنظر: ((تفسير المراغي)) (4 /135). ، وإذا أرادوا هذا الوَجهَ مِن الوُجوبِ سقَط استِدلالُهم بالآيةِ. واللهُ أعلَمُ.
الشُّبهةُ الثَّانيةُ:
قال القاضي عبدُ الجبَّارِ: (اعلَمْ أنَّه تعالى إذا كلَّفَنا الأفعالَ الشَّاقَّةَ فلا بُدَّ مِن أن يكونَ في مُقابِلِها مِن الثَّوابِ ما يُقابِلُه، بل لا يكفي هذا القَدرُ حتَّى يبلُغَ في الكثرةِ حدًّا لا يجوزُ الابتِداءُ بمِثلِه، ولا التَّفضُّلُ به، وإنَّما قُلْنا: إنَّ هذا هكذا؛ لأنَّه لو لم يكنْ في مُقابَلةِ هذه الأفعالِ الشَّاقَّةِ ما ذكَرْناه كان يكونُ القديمُ تعالى ظالِمًا) [974] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 614، 615). .
المُناقَشةُ:
أوَّلًا: هذه الشُّبهةُ تنبني على أنَّ الإنسانَ إنَّما يدخُلُ الجنَّةَ مُستحِقًّا بعَملِه، وقد تبيَّن في الرَّدِّ على الشُّبهةِ الأولى بُطلانُ هذا القولِ، وهو أنَّ الإنسانَ لا يستوجِبُ بعَمَلِه على اللهِ شيئًا، وإذا لم يستوجِبْ بعَملِه على اللهِ شيئًا لم يُتصوَّرْ ظُلمٌ مِن اللهِ لعبدِه عندَما لا يُثيبُه على عَملِه؛ لأنَّ الظُّلمَ لا يكونُ إلَّا في مَنعِ واجِبٍ مُستحَقٍّ للغَيرِ، واللهُ سُبحانَه وتعالى لا يستحِقُّ عبدُه عليه شيئًا.
وكونُه سُبحانَه وتعالى أوجَب على نَفسِه ثوابًا لعبدِه لا يتعارَضُ معَ هذا؛ لأنَّه لو منَع ما أوجَب لم يعُدْ ظالِمًا، كما لو أوجَب إنسانٌ لإنسانٍ آخَرَ مبلَغًا مِن المالِ، ثُمَّ بدا له ألَّا يُعطيَه إيَّاه، لم يُعتبَرْ عَدمُ إعطائِه إيَّاه ظُلمًا؛ فكذلك الأمرُ بالنِّسبةِ للهِ تعالى.
ثانيًا: أنَّ التَّكليفَ تصرُّفٌ في عبيدِه ومماليكِه، والمالِكُ إذا لم يُعطِ مملوكَه أجرًا مُقابِلَ خِدمتِه لم يُعَدَّ ظالِمًا؛ فكذلك الأمرُ بالنِّسبةِ للهِ تعالى؛ فإنَّ له المشيئةَ المُطلَقةَ؛ إن شاء أثابهم بمُقتضى فَضلِه ورحمتِه، وإن شاء عاقَبهم بمُقتضى عَدلِه، ولا يمنَعُه مِن ذلك مانِعٌ، ولا يقدَحُ في إلهيَّتِه [975] يُنظر: ((الاقتصاد في الاعتقاد)) للغزالي (ص: 185). .
وبذلك تبطُلُ هذه الشُّبهةُ. واللهُ أعلَمُ.

انظر أيضا: