موسوعة الفرق

المَطلَبُ الأوَّلُ: رأيُ المُعتَزِلةِ في الوعدِ


قال القاضي عبدُ الجبَّارِ: (وأمَّا عُلومُ الوعدِ والوعيدِ فهو: أنَّ اللهَ وعَد المُطيعينَ بالثَّوابِ...، وأنَّه يفعَلُ ما وعَد به لا محالةَ، ولا يجوزُ عليه الخُلفُ والكذِبُ) [961] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 136). .
وقال أيضًا: (اعلَمْ أنَّ اللهَ تعالى إذا كلَّفَنا الأفعالَ الشَّاقَّةَ فلا بُدَّ مِن أن يكونَ في مُقابِلِها مِن الثَّوابِ ما يُقابِلُه...، بل لا يكفي هذا القَدرُ حتَّى يبلُغَ في الكثرةِ حدًّا لا يجوزُ الابتِداءُ بمِثلِه ولا التَّفضُّلُ به، وإلَّا كان لا يحسُنُ التَّكليفُ لأجْلِه) [962] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 614). .
مِن هذَينِ القولَينِ: يظهَرُ أنَّ المُعتَزِلةَ ترى أنَّ اللهَ يجِبُ أن يُنفِذَ وَعدَه، بل وأنَّ المُكلَّفَ ينالُ ما وُعِد به عن طريقِ الاستِحقاقِ.
وهذا هو رأيُ عامَّةِ المُعتَزِلةِ ما عدا الشَّيخَ أبا القاسِمِ ومَن معَه مِن البغداديِّينَ؛ فقد خالَف في القولِ بأنَّ الثَّوابَ يُنالُ عن طريقِ الاستِحقاقِ؛ إذ يرى أنَّ ما كلَّفَنا اللهُ به مِن الأفعالِ ليس طريقًا لاستِحقاقِ الثَّوابِ، ويُعلِّلُ ذلك بقولِه: إنَّ القديمَ تعالى إنَّما كلَّفَنا هذه الأفعالَ الشَّاقَّةَ؛ لِما له علينا مِن النِّعَمِ العظيمةِ، وذلك غَيرُ مُمتنِعٍ.
ثُمَّ يضرِبُ مَثلًا لذلك فيقولُ: معلومٌ أنَّ مَن أخَذ غَيرَه مِن قارِعةِ الطَّريقِ، فربَّاه وأحسَن تربيتَه وخوَّله، وأنعَم عليه بضُروبٍ مِن النِّعَمِ؛ جاز له أن يُكلِّفَه فِعلًا يلحَقُه بذلك مشقَّةٌ، نَحوُ أن يقولَ: ناوِلْني هذا الكوزَ، ولا يجِبُ أن يُغرَّمَ في مُقابِلِ ذلك شيئًا آخَرَ، كذلك في القديمِ تعالى؛ فنِعَمُه عندَنا لا تُحصى، ولمَّا ذهَب في ذلك إلى ما ذكَرْناه قال: إنَّه إنَّما يُثيبُ المُطيعينَ لا لأنَّهم استحقُّوا ذلك، بل للجُودِ [963] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص: 618). .
وقد ردَّ القاضي عبدُ الجبَّارِ على أبي القاسِمِ قائِلًا: (الأصلُ في الجوابِ عليه أن يُقالَ: إنَّ القديمَ تعالى إذا جعَل هذه الأفعالَ الشَّاقَّةَ علينا، وكان يُمكِنُه ألَّا يجعَلَها كذلك؛ فلا بُدَّ مِن أن يكونَ في ذلك مِن الثَّوابِ ما ذكَرْناه)، ثُمَّ قال: (واستِشهادُ أبي القاسِمِ بالواحِدِ منَّا إذا أنعَم عليه غَيرُه وكلَّفه بعضَ الأعمالِ قياسٌ معَ الفارِقِ؛ إذ إنَّ ما كلَّفَنا اللهُ به ليس على وَصفِه؛ إذ التَّكليفُ يتضمَّنُ الجُودَ بالنَّفسِ والمُخاطرةَ بالرُّوحِ؛ فلا يُقاسُ بما أورَده) [964] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 618). .
ثُمَّ قال: (ولهذا فلو كلَّف الـمُنعِمُ -الذي وصَفه أبو القاسِمِ- الـمُنعَمَ عليه بما يتضمَّنُ المشقَّةَ العظيمةَ، نَحوُ: المُواظَبةِ على خِدمتِه، والقيامِ بَينَ يدَيه آناءَ اللَّيلِ والنَّهارِ، وما شاكَل ذلك- لم يُحسِنْ إليه، بل كان يكونُ للمُنعَمِ عليه أن يقولَ: كان مِن حقِّك ألَّا تتفضَّلَ عليَّ بالأوَّلِ حتَّى لا تأخُذَني بهذه التَّكاليفِ مِن بَعدُ) [965] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 618). .
ثُمَّ ردَّ القاضي عبدُ الجبَّارِ على قولِ أبي القاسِمِ في الثَّوابِ، وأنَّه إنَّما يجِبُ إيصالُه إلى المُطيعينَ مِن حيثُ الجودُ، فقال: (أمَّا قولُه في الثَّوابِ وأنَّه إنَّما يجِبُ إيصالُه إلى المُطيعينَ مِن حيثُ الجودُ؛ فظاهِرُ التَّناقُضِ؛ لأنَّ الجودَ هو التَّفضُّلُ، والتَّفضُّلُ هو: ما يجوزُ لفاعِلِه أن يفعَلَه وألَّا يفعَلَه، والواجِبُ هو: ما لا يجوزُ له ألَّا يفعَلَه، فكيف يُقالُ: إنَّ هذا يجِبُ مِن حيثُ الجودُ، وهل هذا إلَّا بمنزِلةِ أن يُقالَ: يجِبُ أن يَفعَلَ، ولا يجِبُ أن يَفعَلَ، وذلك مُحالٌ) [966] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 618- 619). .
مِن هذا العَرْضِ نخلُصُ إلى أنَّ المُعتَزِلةَ -ما عدا الشَّيخَ أبا القاسِمِ ومَن تابَعه مِن البغداديِّينَ– يرَونَ: أنَّ الثَّوابَ يجِبُ على اللهِ للعبدِ عن طريقِ الاستِحقاقِ.

انظر أيضا: