موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّاني: رأيُ المُعتَزِلةِ في الوعيدِ وشُبُهاتُهم في ذلك ومُناقَشتُها


رأيُ المُعتَزِلةِ في الوعيدِ هو أنَّ الفاسِقَ إذا مات على غَيرِ توبةٍ عن كبيرةٍ ارتكَبها، يستحِقُّ النَّارَ مُخلَّدًا فيها؛ لأنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى توعَّده بذلك، ولا بُدَّ أن يُنفِّذَ وعيدَه، لكنَّ عذابَه يكونُ أخَفَّ مِن عذابِ الكافِرِ [976] يُنظر: ((المُعتزِلة وأصولهم الخمسة)) للمعتق (ص: 218). .
قال القاضي عبدُ الجبَّارِ: (أمَّا عُلومُ الوعدِ والوعيدِ فهو: أنَّ اللهَ تعالى وعَد المُطيعينَ بالثَّوابِ، وتوعَّد العُصاةَ بالعِقابِ، وأنَّه يفعَلُ ما وعَد به وتوعَّد عليه لا محالةَ، ولا يجوزُ عليه الخُلفُ والكذِبُ) [977] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 135- 136). .
وقد أيَّد المُعتَزِلةُ رأيَهم في الوعيدِ بشُبُهاتٍ نقليَّةٍ وعقليَّةٍ، وسنعرِضُ ما تيسَّر منها معَ المُناقَشةِ [978] يُنظر: ((المُعتزِلة وأصولهم الخمسة)) للمعتق (ص: 219- 233). .
الشُّبهةُ الأولى:
أنَّ اللهَ تعالى قال: بَلَى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولَئِكَ أَصْحَابُ النَّارِ هُمْ فِيهَا خَالِدُونَ [البقرة: 81] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
قال القاضي عبدُ الجبَّارِ: (دلَّت الآيةُ على أنَّ مَن غلَبَت كبائِرُه على طاعاتِه -لأنَّ هذا هو المعقولُ مِن الإحاطةِ في بابِ الخطايا؛ إذ إنَّ ما سِواه مِن الإحاطةِ التي تُستعمَلُ في الأجسامِ مُستحيلٌ فيها- هو مِن أهلِ النَّارِ مُخلَّدٌ فيها) [979] ((متشابه القرآن)) (1/97). .
المُناقَشةُ:
إنَّ الآيةَ ردٌّ على بَني إسرائيلَ الذين زعَموا أنَّهم لن تمسَّهم النَّارُ إلَّا أيَّامًا معدودةً بأنَّ الأمرَ ليس كما زعَموا، بل إنَّ مَن كسَب سيِّئةً، وأحاطَت به خطيئتُه، وهو مَن وافى يومَ القيامةِ وليس له حَسنةٌ، بل جميعُ أعمالِه سيِّئاتٌ؛ فهو مِن أهلِ النَّارِ، قال ابنُ عبَّاسٍ: (بَلَى مَن كَسَبَ سَيِّئَةً [البقرة: 81] ، أي: عَمِل مِثلَ عَملِكم، وكفَر بمِثلِ ما كفَرْتُم به، حتَّى يُحيطَ به كُفرُه؛ فما له مِن حَسنةٍ) [980] يُنظر: ((مختصر تفسير ابن كثير)) للصابوني (1/71). .
وقال القُرطُبيُّ: (السِّيِّئةُ: الشِّركُ، قال ابنُ جُرَيجٍ: قُلْتُ لعطاءٍ: وَمَن جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ [النمل: 90] ) [981] ((الجامع لأحكام القرآن)) (2/12). .
وممَّا يُؤيِّدُ قولَ القُرطُبيِّ في أنَّ المُرادَ بالسِّيِّئةِ هنا: الشِّركُ؛ قولُه تعالى: وَأَحَاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ [البقرة: 81] ، أي: أحاطَت بعامِلِها، فلم تدَعْ له مَنفَذًا، وهذا لا يكونُ إلَّا في الشِّركِ؛ فإنَّ مَن معَه مِن الإيمانِ شيءٌ لا تُحيطُ به خطيئتُه [982] يُنظر: ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (1/49). .
وعلى هذا فلا حُجَّةَ في الآيةِ على خُلودِ صاحِبِ الكبيرةِ في النَّارِ؛ لأنَّ الإحاطةَ إنَّما تصِحُّ في شأنِ الكافِرِ؛ لأنَّ غَيرَه إن لم يكنْ له سِوى تصديقِ قلبِه وإقرارِ لِسانِه، فلم تُحِطْ به خطيئتُه؛ لكونِ قَلبِه ولِسانِه مُنزَّهًا عن الخطيئةِ، وبهذا يظهَرُ بُطلانُ استِدلالِ المُعتَزِلةِ بالآيةِ. واللهُ أعلَمُ.
الشُّبهةُ الثَّانيةُ:
أنَّ اللهَ تعالى قال: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذَابِ جَهَنَّمَ خَالِدُونَ [الزخرف: 74] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
قال القاضي عبدُ الجبَّارِ: (إنَّ المُجرِمَ اسمٌ يتناوَلُ الكافِرَ والفاسِقَ جميعًا؛ فيجِبُ أن يكونا مُرادَينِ بالآيةِ مَعنيَّينِ بالنَّارِ؛ لأنَّه تعالى لو أراد أحدَهما دونَ الآخَرِ لبيَّنه، فلمَّا لم يُبيِّنْه دلَّ على أنَّه أرادهما جميعًا.
والكلامُ في أنَّ اسمَ المُجرِمِ يتناوَلُ الكافِرَ والفاسِقَ جميعًا ظاهِرٌ في اللُّغةِ والشَّرعِ جميعًا، أمَّا مِن جهةِ اللُّغةِ فلأنَّهم لا يُفرِّقونَ بَينَ قولِهم: مُذنِبٌ، وبَينَ قولِهم: مُجرِمٌ، فكما أنَّ المُذنِبَ شامِلٌ لهما جميعًا؛ فكذلك المُجرِمُ، وأمَّا مِن جهةِ الشَّرعِ فلأنَّ أهلَ الشَّرعِ لا يُفرِّقونَ بَينَ قولِهم: مُجرِمٌ لِزِناه، وبَينَ قولِهم: فاسِقٌ لِزِناه) [983] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 660- 661). .
وقال أيضًا بَعدَ سِياقِ هذه الآيةِ: (الآيةُ تدُلُّ على أنَّ الوعيدَ بالخُلودِ؛ لأنَّه لم يخُصَّ مُجرِمًا مِن مُجرِمٍ، وبَيَّنَ أنَّهم خالِدونَ في النَّارِ، والخُلودُ هو الدَّوامُ الذي لا انقِطاعَ له) [984] ((متشابه القرآن)) (2/609). .
المُناقَشةُ:
أوَّلًا: المقصودُ بالمُجرِمينَ هنا: الكافِرونَ
قال ابنُ جَريرٍ عندَ تفسيرِ هذه الآيةِ: (إِنَّ الْمُجْرِمِينَ، وهُم الذين اجتَرموا في الدُّنيا الكُفرَ باللهِ) [985] يُنظر: ((جامع البيان)) للطبري (25/98). ويُنظر: ((زاد المسير)) لابن الجوزي (7/329)، و((تفسير أبي السعود)) (5/49). .
ويُؤيِّدُ كونَها في الكافِرِ ما ذكَره الرَّازيُّ في مَعرِضِ الرَّدِّ على استِدلالِ المُعتَزِلةِ بهذه الآيةِ؛ حيثُ قال: (إنَّ ما قَبلَ هذه الآيةِ وما بَعدَها يدُلُّ على أنَّ المُرادَ بالمُجرِمينَ الكافِرونَ، أمَّا ما قَبلَ هذه الآيةِ فقولُه تعالى: يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ * الَّذِينَ آمَنُوا بِآيَاتِنَا وَكَانُوا مُسْلِمِينَ [الزخرف: 68-69] ؛ فهذا يدُلُّ على أنَّ كُلَّ مَن آمَن بآياتِ اللهِ، وكانوا مُسلِمينَ؛ فإنَّهم يدخُلونَ تحتَ قولِه تعالى: يَا عِبَادِ لَا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَلَا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ [الزخرف: 68] ، والفاسِقُ مِن أهلِ الصَّلاةِ آمَن باللهِ تعالى وبآياتِه وأسلَم؛ فوجَب أن يكونَ داخِلًا تحتَ ذلك الوعدِ، ووجَب أن يكونَ خارِجًا عن هذا الوعيدِ، وأمَّا ما بَعدَ هذه الآيةِ فقولُه تعالى: لَقَدْ جِئْنَاكُم بِالْحَقِّ وَلَكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كَارِهُونَ [الزخرف: 78] ، والمُرادُ بالحقِّ هاهنا إمَّا الإسلامُ، وإمَّا القرآنُ، والرَّجلُ المُسلِمُ لا يكرَهُ الإسلامَ ولا القرآنَ...) [986] ((التفسير الكبير)) (27/226). ، فثبَت أنَّ ما قَبلَ هذه الآيةِ وما بَعدَها يدُلُّ على أنَّ المُرادَ مِن المُجرِمينَ: الكُفَّارُ، والكافِرُ ليس محَلَّ نِزاعٍ في أنَّه مِن أهلِ النَّارِ مُخلَّدٌ فيها، وبذلك يَبطُلُ استِدلالُهم بالآيةِ على خُلودِ صاحِبِ الكبيرةِ في النَّارِ.
ثانيًا: على التَّسليمِ بعُمومِ الآيةِ وأنَّها ليست خاصَّةً بالكُفَّارِ؛ فإنَّها مُخصَّصةٌ بنُصوصِ العفوِ والتَّوبةِ، والنُّصوصُ الدَّالَّةُ على خُروجِ المُوحِّدينَ مِن النَّارِ، كقَولِه تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى: 25] ، وكقولِه تعالى: وَمَا أَصَابَكُم مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِمَا كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [الشورى: 30] ، ورُوِي عنه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال: ((يدخُلُ أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ...، ثُمَّ يقولُ اللهُ تعالى: أخرِجوا مَن كان في قلبِه مِثقالُ حبَّةٍ مِن خَردَلٍ مِن إيمانٍ... )) الحديثَ [987] أخرجه البُخاريُّ (22) واللَّفظُ له، ومُسلمٌ (184) من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وكذلك مُعارَضةٌ بنُصوصِ الوعدِ، كقولِه تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [الزلزلة: 7] ، وكقولِه تعالى: مَنْ جَاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثَالِهَا وَمَنْ جَاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلَا يُجْزَى إِلَّا مِثْلَهَا وَهُمْ لَا يُظْلَمُونَ [الأنعام: 160] .
وترجيحُ عُموماتِ الوعدِ أَولى؛ لأنَّها أدخَلُ في بابِ الكرمِ مِن عُموماتِ الوعيدِ، ولأنَّه اشتَهر أنَّ رحمةَ اللهِ سابِقةٌ على غَضبِه؛ فكان ترجيحُ عُموماتِ الوعدِ أَولى [988] يُنظر: ((التفسير الكبير)) للرازي (3/171). .
وبهذا يتبيَّنُ بُطلانُ استِدلالِ المُعتَزِلةِ بهذه الآيةِ. واللهُ أعلَمُ.
الشُّبهةُ الثَّالثةُ:
أنَّ اللهَ تعالى قال: وَإِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ * يَصْلَوْنَهَا يَوْمَ الدِّينِ * وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ [الانفطار: 14-16].
وَجهُ الدَّلالةِ:
قال القاضي عبدُ الجبَّارِ: (الآيةُ تدُلُّ على أنَّ الفاجِرَ وإن كان مِن أهلِ الصَّلاةِ فهو مِن أهلِ الوعيدِ، ومِن أهلِ النَّارِ، وأنَّه إذا لم يتُبْ ومات على ذلك فهو في الجحيمِ لا يغيبُ عنها، وذلك يدُلُّ على الخُلودِ؛ لأنَّهم إذا لم يَغيبوا عنها، ولا لحِقهم موتٌ وَقتًا؛ فليس إلَّا العذابُ الدَّائِمُ) [989] ((متشابه القرآن)) (2/682). .
المُناقَشةُ:
أوَّلًا: المُرادُ بالفُجَّارِ: هم الكُفَّارُ.
قال ابنُ جَريرِ عندَ تفسيرِ هذه الآيةِ: (المُرادُ بالفُجَّارِ: الذين كفَروا بربِّهم) [990] ((جامع البيان)) (30/56). .
وقال ابنُ الجَوزيِّ: (قولُه تعالى: وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ يدُلُّ على تخليدِ الكُفَّارِ) [991] ((زاد المسير)) (9/49). .
وممَّا يدُلُّ على أنَّ المُرادَ بالفُجَّارِ: هم الكُفَّارُ لا غَيرُهم؛ قولُه تعالى في حقِّ الكُفَّارِ: أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ [عبس: 42] .
قال الرَّازيُّ: (لا يخلو إمَّا أن يكونَ المُرادُ أُولَئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ وهُم الفَجَرةُ، والأوَّلُ: باطِلٌ؛ لأنَّ كُلَّ كافِرٍ هو فاجِرٌ بالإجماعِ، فتقييدُ الكافِرِ بالكافِرِ الذي يكونُ مِن جنسِ الفَجَرةِ عَبثٌ. وإذا بطَل هذا القِسمُ بقِي القِسمُ الثَّاني، وذلك يُفيدُ الحَصرَ، وهو أنَّ الفَجَرةَ هم الكَفَرةُ فقط. وإذا دلَّت الآيةُ على أنَّ الفَجَرةَ هم الكَفَرةُ لا غَيرُهم، ثبَت أنَّ صاحِبَ الكبيرةِ ليس بفاجِرٍ على الإطلاقِ) [992] ((التفسير الكبير)) (31/84، 85) بتصَرُّفٍ. ، وعلى ذلك فليس في الآيةِ دَلالةٌ على خُلودِ صاحِبِ الكبيرةِ في النَّارِ؛ لأنَّها في الكافِرِ. واللهُ أعلَمُ.
ثانيًا: لو سلَّمْنا أنَّ الفاجِرَ يدخُلُ تحتَه الكافِرُ والمُسلِمُ، لكنَّ قولَه تعالى: وَمَا هُمْ عَنْهَا بِغَائِبِينَ [الانفطار: 16]، معناه: أنَّ مجموعَ الفُجَّارِ لا يكونونَ غائِبينَ، ونحن نقولُ بموجِبِه؛ فإنَّ أحدَ نوعَيِ الفُجَّارِ -وهُم الكُفَّارُ- لا يغيبونَ، وإذا كان كذلك ثبَت صِدقُ قولِنا، وهو: أنَّ الفُجَّارَ بأَسْرِهم لا يَغيبونَ، ويكفي فيه ألَّا يَغيبَ الكُفَّارُ، فلا حاجةَ في صِدقِه إلى ألَّا يغيبَ المُسلِمونَ.
وأيضًا فإنَّ الآيةَ مُعارَضةٌ بالنُّصوصِ الدَّالَّةِ على العفوِ، مِثلُ قولِه تعالى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48] ، وقولِه تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى: 25] ، والتَّرجيحُ معَنا؛ لأنَّ دليلَهم لا بُدَّ أن يتناوَلَ جميعَ الفُجَّارِ في جميعِ الأوقاتِ، وإلَّا لم يحصُلْ مقصودُهم؛ فهو عامٌّ.
الشُّبهةُ الرَّابعةُ:
أنَّ اللهَ تعالى قال: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوَالَ الْيَتَامَى ظُلْمًا إِنَّمَا يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ نَارًا وَسَيَصْلَوْنَ سَعِيرًا [النساء: 10] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
قال القاضي عبدُ الجبَّارِ: (الآيةُ تدُلُّ على أنَّ الفاسِقَ مِن أهلِ الصَّلاةِ مُتوعَّدٌ بالنَّارِ، وأنَّه سيَصْلاها لا محالةَ ما لم يتُبْ؛ لأنَّ الذي يأكُلُ أموالَ اليتامى ليس هو الكافِرَ؛ فلا يصِحُّ حَملُه عليه، ويجِبُ كونُه عامًّا في كُلِّ مَن هذا حالُه، والأغلَبُ ممَّن يوصَفُ بذلك أن يكونَ مِن أهلِ الصَّلاةِ، وأقَلُّ أحوالِه أن يدخُلَ الجميعُ فيه، فيجِبُ أن يُقالَ بعُمومِه) [993] ((متشابه القرآن)) (1/178). .
المُناقَشةُ:
ردَّ القُرطُبيُّ استِدلالَ المُعتَزِلةِ بهذه الآيةِ على تخليدِ صاحِبِ الكبيرةِ في النَّارِ، فقال عندَ تفسيرِ هذه الآيةِ: (لا حُجَّةَ فيها لمَن يُكَفِّرُ بالذُّنوبِ، والذي يعتقِدُه أهلُ السُّنَّةِ أنَّ ذلك نافِذٌ على بعضِ العُصاةِ، فيَصْلى، ثُمَّ يحترِقُ ويموتُ، بخِلافِ أهلِ النَّارِ لا يموتونَ ولا يَحيَونَ، فكأنَّ هذا جمْعٌ بَينَ الكتابِ والسُّنَّةِ؛ لئلَّا يقعَ الخبرُ فيهما على خِلافِ مُخبِرِه- ساقِطٌ بالمشيئةِ عن بعضِهم؛ لقولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ، وهكذا القولُ في كُلِّ ما يَرِدُ عليك مِن هذا المعنى؛ روى مُسلِمٌ في صحيحِه عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أمَّا أهلُ النَّارِ الذين هم أهلُها فيها، فإنَّهم لا يموتونَ فيها ولا يَحيَونَ، ولكِنْ ناسٌ أصابَتهم النَّارُ بذُنوبِهم -أو قال: بخطاياهم- فأماتهم اللهُ إماتةً حتَّى إذا كانوا فَحمًا أُذِن بالشَّفاعةِ، فجيءَ بهم ضبائِرَ ضبائِرَ، فبُثُّوا على أنهارِ الجنَّةِ، ثُمَّ قيل: يا أهلَ الجنَّةِ أفيضوا عليهم، فيَنبُتونَ كما تَنبُتُ الحِبَّةُ في حَميلِ السَّيلِ )) [994] أخرجه مسلم (185) باختلافٍ يسيرٍ. [995] ((الجامع لأحكام القرآن)) (5/54). .
مِن ردِّ القُرطُبيِّ يتبيَّنُ أنَّ صاحِبَ الكبيرةِ إمَّا أن يُعذَّبَ مُدَّةً، ثُمَّ يخرُجَ مِن النَّارِ، ويدخُلَ الجنَّةَ كما يدُلُّ الحديثُ، أو يُعفى عنه بمشيئةِ اللهِ، كما تدُلُّ الآيةُ، وعلى ذلك فإنَّه لا يُخَلَّدُ في كِلتا الحالتَينِ، وبهذا يَبطُلُ استِدلالُ المُعتَزِلةِ بهذه الآيةَ. واللهُ أعلَمُ.
الشُّبهةُ الخامسةُ:
أنَّ اللهَ تعالى قال: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ خَالِدًا فِيهَا وَغَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَلَعَنَهُ وَأَعَدَّ لَهُ عَذَابًا عَظِيمًا [النساء: 93] .
وَجهُ الدَّلالةِ:
قال القاضي عبدُ الجبَّارِ: (وَجهُ الاستِدلالِ هو أنَّه تعالى بيَّن أنَّ مَن قتَل مُؤمِنًا عَمدًا، جازاه اللهُ جَهنَّمَ خالِدًا فيها، وعاقَبه، وغضِب عليه، ولعَنه...، وفي ذلك ما قُلْناه) [996] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 659). .
وقال أيضًا: (قولُه تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا... [النساء: 93] يدُلُّ على أنَّ قَتلَ المُؤمِنِ على وَجهِ التَّعمُّدِ يُستحَقُّ به الخُلودُ في النَّارِ...، ولا يُمكِنُ حَملُ الكلامِ في الآيةِ على الكافِرِ إذا قتَل مُتعمِّدًا مِن وَجهَينِ:
الأوَّلُ: أنَّه عامٌّ؛ لأنَّ لفظةَ "مَن" إذا وقعَت في المُجازاةِ كانت شائِعةً في كُلِّ عاقِلٍ.
الثَّاني: أنَّه تعالى جعَل ذلك جزاءً لهذا الفِعلِ المخصوصِ، ولا يُعتبَرُ بحالِ الفاعِلينَ، بل يجِبُ متى وقَع مِن أيِّ فاعِلٍ كان أن يكونَ هذا الجزاءُ لازِمًا له) [997] ((متشابه القرآن)) (1/201، 202). ويُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 659). .
المُناقَشةُ:
أوَّلًا: أنَّ الخُلودَ في الآيةِ لِمُستحِلِّ القَتلِ، وهو كافِرٌ إجماعًا، والكافِرُ مُخلَّدٌ.
قال ابنُ جَريرٍ عندَ تفسيرِ هذه الآيةِ: (مُتعمِّدًا: مُستحِلًّا قَتلَه) [998] ((جامع البيان)) (9/61). .
وقال القُرطُبيُّ حاكيًا ما رُوِي عن ابنِ عبَّاسٍ في معنى قولِه مُتعمِّدًا: (قال مُتعمِّدًا، أي: مُستحِلًّا لقَتلِه، فهذا يَؤُولُ إلى الكُفرِ إجماعًا، والكافِرُ مُخلَّدٌ...) [999] ((الجامع لأحكام القرآن)) (5/334). .
وقال أبو السُّعودِ بَعدَ عَرضِه للآيةِ: (لا دليلَ في الآيةِ للمُعتَزِلةِ في قولِهم بخُلودِ عُصاةِ المُؤمِنينَ في النَّارِ؛ لِما قيل: إنَّها في حقِّ المُستحِلِّ، كما هو رأيُ عِكرِمةَ وأضرابِه، بدليلِ أنَّها نزَلَت في مِقْيَسِ بنِ حُبابةَ الكِنانيِّ المُرتَدِّ) [1000] ((تفسير أبي السعود)) (2/217). .
وعلى هذا: فالآيةُ لا تتناوَلُ صاحِبَ الكبيرةِ؛ لأنَّها في الكافِرِ، وصاحِبُ الكبيرةِ لم يخرُجْ مِن الإيمانِ إلى الكُفرِ.
ثانيًا: الجزاءُ في الآيةِ ليس المقصودُ به وُقوعَه، وإنَّما الإخبارُ به.
فقولُه تعالى: فَجَزَاؤُهُ أي: يستحِقُّ ما ذكَره اللهُ مِن العِقابِ إن شاء أن يُجازيَه [1001] يُنظر: ((مختصر تفسير الطبري)) للصابوني (1/119). ، وقال أبو السُّعودِ نَحوَه، واستدلَّ بما رُوِي عن ابنِ عبَّاسٍ عندَ تفسيرِ هذه الآيةِ؛ حيثُ قال: (فَجَزَاؤُهُ جَهَنَّمُ أي: هي جزاؤُه؛ فإن شاء عذَّبه، وإن شاء غفَر له) [1002] ((تفسير أبي السعود)) (2/217) بتصَرُّفٍ. ، ثُمَّ قال: (التَّحقيقُ أنَّ ما ورَد في الآيةِ إنَّما هو إخبارٌ منه تعالى بأنَّ جزاءَه ذلك، لا بأنَّه يجزيه بذلك، كيف لا وقد قال تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا [الشورى: 40] ؟ ولو كان هذا إخبارًا بأنَّه تعالى يجزي كُلَّ سيِّئةٍ بمِثلِها لعارَضه قولُه تعالى: وَيَعْفُو عَنْ كَثِيرٍ [المائدة: 15] ) [1003] ((تفسير أبي السعود)) (2 /217، 218). .
وإذا كان الجزاءُ في الآيةِ ليس المقصودَ، وإنَّما الإخبارُ به؛ بطَل قولُهم: (إنَّه تعالى جعَل ذلك جزاءً لهذا الفِعلِ المخصوصِ، فمتى وقَع الفِعلُ وقَع الجزاءُ) [1004] ((متشابه القرآن)) لعبد الجبار (1/202). .
ثالثًا: على التَّسليمِ بأنَّ الآيةَ ليست خاصَّةً في الكافِرِ، والجزاءُ فيها المقصودُ به وُقوعُه؛ فإنَّها مُخصَّصةٌ بالنُّصوصِ الدَّالَّةِ على العفوِ بمشيئتِه تعالى، والتَّوبةِ، وأحاديثِ الشَّفاعةِ الدَّالَّةِ على خُروجِ المُوحِّدينَ مِن النَّارِ.
قال القُرطُبيُّ: (الآيةُ مخصوصةٌ بآياتٍ وأحاديثَ؛ فمِن الآياتِ قولُه تعالى: إِنَّ الْحَسَنَاتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئَاتِ [هود: 114] ، وقولُه تعالى: وَهُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبَادِهِ وَيَعْفُو عَنِ السَّيِّئَاتِ وَيَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [الشورى: 25] ، وقولِه تعالى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48] ، وتوضيح ذلك أنَّه ليس الأخْذُ بظاهِرِ هذه الآيةِ أَولى مِن الأخْذِ بظاهِرِ هذه الآياتِ، والأخْذُ بالظَّاهِرَينِ مُتناقِضٌ، فلا بُدَّ مِن التَّخصيصِ، ثُمَّ إنَّ الجمعَ بَينَ آيةِ الفُرقانِ، وهي قولُه تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلَهًا آخَرَ وَلَا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَلَا يَزْنُونَ وَمَن يَفْعَلْ ذَلِكَ يَلْقَ أَثَامًا يُضَاعَفْ لَهُ الْعَذَابُ يَوْمَ الْقِيَامَةِ وَيَخْلُدْ فِيهِ مُهَانًا إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ وَكَانَ اللَّهُ غَفُورًا رَحِيمًا [الفرقان: 68-70] ، وبَينَ هذه الآيةِ: مُمكِنٌ؛ فلا نَسخَ ولا تعارُضَ، وذلك بأن يُحمَلَ مُطلَقُ آيةِ النِّساءِ على مُقيَّدِ آيةِ الفُرقانِ؛ فيكونَ معناه: فجزاؤُه كذا إلَّا مَن تاب، لا سيَّما وقد اتَّحَد الموجِبُ وهو القَتلُ، والموجِبُ وهو التَّوعُّدُ بالعِقابِ، وأمَّا الأخبارُ المُخصَّصةُ لعُمومِ الآيةِ فكثيرةٌ؛ منها: حديثُ عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ: أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((بايِعوني على ألَّا تُشرِكوا باللهِ شيئًا، ولا تَزْنوا، ولا تَسْرِقوا، ولا تَقتُلوا النَّفسَ التي حرَّم اللهُ إلَّا بالحقِّ؛ فمَن وفى منكم فأجرُه على اللهِ، ومَن أصاب شيئًا مِن ذلك فستَره اللهُ عليه فأمرُه إلى اللهِ؛ إن شاء عفى عنه، وإن شاء عذَّبه )) [1005] أخرجه البُخاريُّ (3892)، ومُسلمٌ (1709) مُطوَّلًا. ، وكحديثِ أبي هُرَيرةَ رضِي اللهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الرَّجلِ الذي قتَل مائةَ نَفسٍ... [1006] أخرجه البُخاريُّ (3470)، ومُسلمٌ (2766) من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، ولفظُ مسلم: ((كان فيمن كان قَبْلَكم رجُلٌ قَتَل تسعةً وتسعينَ نفسًا، فسأل عن أعلَمِ أهلِ الأرضِ، فدُلَّ على راهبٍ. فأتاه فقال: إنَّه قَتَل تسعةً وتسعينَ نفسًا، فهل له من توبةٍ؟ فقال: لا. فقتَلَه فكمَّل به مائةً. ثُمَّ سأل عن أعلَمِ أهلِ الأرضِ، فدُلَّ على رجلٍ عالمٍ. فقال: إنَّه قَتَل مائةَ نفسٍ، فهل له من توبةٍ؟ فقال: نعَمْ. ومن يحولُ بينه وبينَ التوبةِ؟ انطَلِقْ إلى أرضِ كذا وكذا؛ فإنَّ بها أناسًا يعبُدون اللهَ، فاعبُدِ اللهَ معهم، ولا ترجِعْ إلى أرضِك؛ فإنَّها أرضُ سُوءٍ. فانطَلَق حتَّى إذا نَصَف الطَّريقُ أتاه الموتُ، فاختصَمَت فيه ملائكةُ الرَّحمةِ وملائكةُ العذابِ، فقالت ملائكةُ الرَّحمةِ: جاء تائبًا مقبِلًا بقَلبِه إلى اللهِ. وقالت ملائكةُ العذابِ: إنَّه لم يعمَلْ خيرًا قَطُّ، فأتاهم مَلَكٌ في صورةِ آدَميٍّ، فجَعَلوه بينهم، فقال: قِيسوا ما بين الأرضَينِ، فإلى أيَّتِهما كان أدنى فهو له، فقاسوه فوجدوه أدنى إلى الأرضِ التي أراد، فقَبَضَته ملائكةُ الرَّحمةِ)). ، ثُمَّ إنَّهم -المُعتَزِلةَ- أجمَعوا معَنا في الرَّجلِ يُشهَدُ عليه بالقَتلِ، ويُقِرُّ بأنَّه قتَل، ويأتي السُّلطانُ، فيُقيمُ عليه الحدَّ، ويُقتَل قَوَدًا؛ فهذا غَيرُ نافِذٍ عليه الوعيدُ في الآخِرةِ إجماعًا على مُقتضى حديثِ عُبادةَ؛ فقد انكسَر عليهم ما تعلَّقوا به مِن عُمومِ قولِه تعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا... [النساء: 93] ، ودخَله التَّخصيصُ بما ذُكِر) [1007] ((الجامع لأحكام القرآن)) (5/ 334). .
مِن كلامِ القُرطُبيِّ: يظهَرُ أنَّ الآيةَ مخصوصةٌ بالنُّصوصِ الدَّالَّةِ على العفوِ والتَّوبةِ، وعليه: فيَبطُلُ استِدلالُ المُعتَزِلةِ بهذه الآيةِ على تخليدِ صاحِبِ الكبيرةِ في النَّارِ. واللهُ أعلَمُ.
الشُّبهةُ السَّادسةُ:
روى الإيجيُّ أنَّ المُعتَزِلةَ قالوا: (إنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى أوعَد بالعِقابِ وأخبَر به، فلو لم يُعاقِبْ لزِم الخُلفُ في وعيدِه والكذِبُ في خَبرِه، وهو مُحالٌ) [1008] ((المواقف)) (8/376). .
قال القاضي عبدُ الجبَّارِ: (إنَّ اللهَ توعَّد العُصاةَ بالعِقابِ...، وأنَّه يفعَلُ ما توعَّد عليه، ولا يجوزُ عليه الخُلفُ والكذِبُ) [1009] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 135، 136). .
ويُستدَلُّ على عَدمِ جوازِ الخُلفِ في الوعيدِ بقولِه تعالى: قَالَ لَا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَقَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُم بِالْوَعِيدِ مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق: 28-29] ، ثُمَّ قال: (الآيةُ تدُلُّ على أنَّ الوعيدَ الوارِدَ عن اللهِ تعالى لا يتبدَّلُ ولا يتغيَّرُ، وأنَّه لا يجوزُ فيه الخُلفُ؛ لأنَّ ذلك يقتضي التَّبديلَ، وقد أبى اللهُ تعالى ذلك في وعيدِه) [1010] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 136). ويُنظر: ((متشابه القرآن)) (2/626). .
كما يستدِلُّ القاضي عبدُ الجبَّارِ على عَدمِ جوازِ الخُلفِ في الوعيدِ بعَدمِ جوازِ الخُلفِ في الوعدِ؛ لأنَّ الطَّريقةَ في الموضِعَينِ واحِدةٌ  [1011] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 136). .
المُناقَشةُ:
يُقالُ لهم: الوعيدُ: إمَّا أن يتوجَّهَ للكافِرِ والمُشرِكِ أو العاصي؛ فأمَّا الوعيدُ الذي توعَّد اللهُ به الكافِرينَ فإنَّهم سينالونَه حَتمًا إذا ماتوا على كُفرِهم، كما دلَّ على ذلك القرآنُ الكريمُ مِن مِثلِ قولِه تعالى: إِنَّ اللَّهَ لَا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ [النساء: 48] .
وأمَّا الوعيدُ الذي توعَّد اللهُ به العُصاةَ: فإمَّا أن يتوبوا أو لا؛ إن تابوا تاب اللهُ عليهم وغفَر لهم، وبذلك يسقُطُ الوَعيدُ عنهم؛ كما قال تعالى: إِلَّا مَنْ تَابَ وَآمَنَ وَعَمِلَ عَمَلًا صَالِحًا فَأُولَئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئَاتِهِمْ حَسَنَاتٍ [الفرقان: 70] .
أمَّا إذا مات العاصي وهو لم يتُبْ فإنَّه تحتَ مشيئةِ اللهِ؛ إن شاء عذَّبه على قَدرِ ذَنبِه بمُقتضى عَدلِه، ثُمَّ أدخَله الجنَّةَ، فلا يُخَلَّدُ في النَّارِ؛ بدليلِ حديثِ أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضِي اللهُ عنه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يدخُلُ أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ، وأهلُ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يقولُ اللهُ تعالى: أخرِجوا مَن كان في قلبِه مِثقالُ حبَّةٍ مِن خَردَلٍ مِن إيمانٍ... )) الحديثَ [1012] أخرجه البُخاريُّ (22) واللَّفظُ له، ومُسلمٌ (184). .
ففي هذا الحديثِ دَلالةٌ على أنَّ مَن معَه إيمانٌ لا يبقى في النَّارِ خالِدًا، بل يخرُجُ منها، وصاحِبُ الكبيرةِ معَه إيمانٌ.
وإن شاء عفا عنه بمُقتضى عفوِه ورحمتِه، قال تعالى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48] ؛ ففي هذه الآيةِ دَلالةٌ على أنَّ اللهَ تعالى يُمكِنُ أن يُخلِفَ وعيدَه في حقِّ المُوحِّدِ العاصي الذي مات وهو مُرتكِبٌ للكبائِرِ مِن غَيرِ توبةٍ، ومِثلُ هذه الآيةِ حديثُ عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال وحولَه عِصابةٌ مِن أصحابِه: ((بايِعوني على ألَّا تُشرِكوا باللهِ شيئًا، ولا تَسْرِقوا...، ومَن أصاب مِن ذلك شيئًا، ثُمَّ ستَره اللهُ، فهو إلى اللهِ؛ إن شاء عفا عنه، وإن شاء عاقَبه... )) [1013] أخرجه البُخاريُّ (18) واللَّفظُ له، ومُسلمٌ (1709). .
قال المازِنيُّ: (في الحديثِ ردٌّ على المُعتَزِلةِ الذين يوجِبونَ تعذيبَ الفاسِقِ إذا مات بلا توبةٍ؛ لأنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أخبَر أنَّه تحتَ المشيئةِ، ولم يقُلْ: لا بُدَّ مِن تعذيبِه) [1014] ((فتح الباري)) لابن حجر (1/68). .
ومِن كلامِ المازِنيِّ يظهَرُ أنَّ الحديثَ كالآيةِ يدُلُّ على أنَّ الوعيدَ المُتوجِّهَ إلى العُصاةِ ليس بحَتميٍّ، بل قد يُخلِفُه اللهُ بأن يغفِرَ لهم، ثُمَّ إنَّ خُلفَ الوعيدِ لا يُعتبَرُ كذِبًا ولا قبيحًا، بدليلِ المُناظَرةِ التي جرَت بَينَ أبي عَمرِو بنِ العلاءِ، وعَمرِو بنِ عُبَيدٍ؛ حيثُ قال عَمرُو بنُ عُبَيدٍ: يا أبا عَمرٍو: لا يُخلِفُ اللهُ وعيدَه، وقد قال سُبحانَه وتعالى: وَمَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِنًا مُتَعَمِّدًا [النساء: 93] ، فقال له أبو عَمرٍو: وَيحَك يا أبا عُثمانَ! مِن العُجمةِ أُتِيتَ! إنَّ العَرَبَ لا تَعُدُّ إخلافَ الوعيدِ ذَمًّا، بل جُودًا وكَرمًا، فقال عَمرُو بنُ عُبَيدٍ: فأوجِدْني هذا، فقال: نعَمْ، أمَا سمِعْتَ قولَ الشَّاعِرِ:
وإنِّي إنْ أوعَدْتُه أو وَعدْتُه
لَمُخلِفُ إيعادي ومُنجِزُ مَوعِدي [1015] يُنظر: ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/396)، ويُنظر: ((القول السديد في جواز خلف الوعيد)) للنابلسي (ص: 16). .
إنَّ الوعيدَ مشروطٌ بشرائِطَ، مِثلُ عَدمِ العَفوِ، فلا يلزَمُ منه الكذِبُ، فمُحصَّلُ آياتِ الوعيدِ أنَّا نُعذِّبُهم إن لم نَعفُ عنهم، ولكنْ عفَوْنا عنهم فما نُعذِّبُهم، وليس في هذا خُلفُ وعيدٍ حتَّى يلزَمَ منه الكذِبُ.
كما أنَّ معنى آياتِ الوعيدِ: إنشاءُ الوعيدِ لا إخبارٌ به؛ فهي لا تتَّصِفُ بالصِّدقِ والكذِبِ؛ لأنَّهما مِن صفاتِ الخبرِ دونَ الإنشاءِ؛ فلا يلزَمُ الكذِبُ في إخلافِ الوعيدِ [1016] ((القول السديد)) للنابلسي (ص: 15) بتصَرُّفٍ. .
وأمَّا استِدلالُ القاضي ومَن معَه بقولِ اللهِ تعالى: مَا يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَمَا أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ [ق: 29] على أنَّ اللهَ لا يُخلِفُ وعيدَه، فالجوابُ: إنَّ الآيةَ تدُلُّ على أنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى لا يُخلِفُ وعيدَه في الكافِرِ، بدليلِ الآياتِ التي قَبلَها، وبدليلِ النُّصوصِ الدَّالَّةِ على أنَّ اللهَ قد يغفِرُ لمَن يشاءُ مِن العُصاةِ؛ قال تعالى: وَيَغْفِرُ مَا دُونَ ذَلِكَ لِمَنْ يَشَاءُ [النساء: 48] ، وذلك جمعًا بَينَ الآياتِ.
وأمَّا قولُهم: (إنَّه لو جاز الخُلفُ في الوعيدِ لجاز في الوعدِ) [1017] ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص: 136). فقولٌ فاسِدٌ؛ لأنَّ الخُلفَ في الوعدِ بُخلٌ ولُؤمٌ، واللهُ أكرَمُ الأكرَمينَ، والخُلفُ في الوعيدِ كرَمٌ وجُودٌ، وهو مِن صفاتِه جلَّ وعلا [1018] يُنظر: ((القول السديد)) للنابلسي (ص: 15- 23). ويُنظر: ((المواقف)) للإيجِيِّ (8/378)، ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/391). .
وبذلك تبطُلُ هذه الشُّبهةُ. واللهُ أعلَمُ.
الشُّبهةُ السَّابعةُ:
قال القاضي عبدُ الجبَّارِ: (العاصي لا يخلو حالُه مِن أحدِ أمرَينِ؛ إمَّا أن يُعفى عنه، أو لا يُعفى عنه؛ فإن لم يُعفَ عنه فقد بقِي في النَّارِ خالِدًا، وهو الذي نقولُه، وإن عُفِي عنه فلا يخلو؛ إمَّا أن يدخُلَ الجنَّةَ أو لا؛ فإن لم يدخُلِ الجنَّةَ لم يصِحَّ؛ لأنَّه لا دارَ بَينَ الجنَّةِ والنَّارِ، فإذا لم يكنْ في النَّارِ وجَب أن يكونَ في الجنَّةِ لا محالةَ، وإذا دخَل الجنَّةَ فلا يخلو؛ إمَّا أن يدخُلَها مُثابًا أو مُتفضَّلًا عليه، ولا يجوزُ أن يدخُلَ الجنَّةَ مُتفضَّلًا عليه؛ لأنَّ الأمَّةَ اتَّفَقت على أنَّ المُكلَّفَ إذا دخَل الجنَّةَ فلا بُدَّ مِن أن يكونَ حالُه مُتميِّزًا من حالِ الوِلدانِ المُخلَّدينَ، وعن حالِ الأطفالِ والمجانينِ، ولا يجوزُ أن يدخُلَ الجنَّةَ مُثابًا؛ لأنَّه غَيرُ مُستحِقٍّ، وإثابةُ مَن لا يستحِقُّ الثَّوابَ قبيحٌ، واللهُ تعالى لا يفعَلُ القبيحَ...؛ لذا يجِبُ أن يكونَ مُعاقَبًا على ما نقولُه) [1019] ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 666- 667). .
المُناقَشةُ:
هذه الشُّبهةُ باطِلةٌ، ولا تدُلُّ على تخليدِ الفاسِقِ في النَّارِ، وبيانُ ذلك: أنَّ الفاسِقَ في حالِ العَفوِ عنه يدخُلُ الجنَّةَ تفضُّلًا مِن اللهِ سُبحانَه وتعالى؛ بدليلِ قولِه تعالى: الَّذِي أَحَلَّنَا دَارَ الْمُقَامَةِ مِن فَضْلِهِ لَا يَمَسُّنَا فِيهَا نَصَبٌ وَلَا يَمَسُّنَا فِيهَا لُغُوبٌ [فاطر: 35] .
ولِما جاء عن أبي هُرَيرةَ رضِي اللهُ عنه قال: قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لن يُنجِيَ أحدًا منكم عَملُه، قالوا: ولا أنت يا رسولَ اللهِ؟ قال: ولا أنا، إلَّا أن يتغمَّدَني اللهُ برحمةٍ )) [1020] أخرجه البُخاريُّ (6463) واللَّفظُ له، ومُسلمٌ (2816). .
ففي هذه الآيةِ والحديثِ: دَلالةٌ على أنَّ اللهَ يُدخِلُ مَن شاء مِن عِبادِه الجنَّةَ بفَضلِه سُبحانَه وتعالى، وعليه فإنَّه يَبطُلُ قولُكم: (لا يجوزُ أن يدخُلَ الجنَّةَ مُتفضَّلًا عليه) [1021] ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص: 666). .
وإذًا فالفاسِقُ في حالةِ العَفوِ عنه يدخُلُ الجنَّةَ بفَضلِ اللهِ ورحمتِه.
أمَّا في حالِ عَدمِ العَفوِ عنه فإنَّ اللهَ سُبحانَه وتعالى يُعذِّبُه على قَدرِ ذَنبِه، ثُمَّ يُدخِلُه الجنَّةَ، فلا يُخلَّدُ في النَّارِ، بدليلِ قولِه تعالى: فَمَن يَعْمَلْ مِثْقَالَ ذَرَّةٍ خَيْرًا يَرَهُ [الزلزلة: 7] ، واحتِمالُ رُؤيةِ العامِلِ مِثقالَ ذرَّةٍ مِن خَيرِ ما عمِلَه قَبلَ دُخولِه النَّارَ -أي: بأن يدخُلَ الجنَّةَ جزاءً لِما عمِله مِن الخيرِ، ثُمَّ يخرُجُ منها، ويدخُلُ النَّارَ عِقابًا لِما عمِله مِن الشَّرِّ- يُبطِلُه قولُه تعالى في شأنِ أهلِ الجنَّةِ: لَا يَمَسُّهُمْ فِيهَا نَصَبٌ وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر: 48] ، فلم يبقَ لرُؤيتِه موضِعٌ إلَّا بَعدَ الخُروجِ مِن النَّارِ.
وممَّا يدُلُّ على أنَّ استيفاءَ الأجرِ بالنِّسبةِ لمَن يدخُلُ النَّارَ لا يكونُ إلَّا بَعدَ الخُروجِ منها: ما جاء عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رضِي اللهُ عنه: أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((يدخُلُ أهلُ الجنَّةِ الجنَّةَ، وأهلُ النَّارِ النَّارَ، ثُمَّ يقولُ اللهُ تعالى: أخرِجوا مَن كان في قلبِه مِثقالُ حبَّةٍ مِن خَردَلٍ من إيمانٍ... )) الحديثَ [1022] أخرجه البُخاريُّ (22) واللَّفظُ له، ومُسلمٌ (184). .
ففي هذا الحديثِ دَلالةٌ على أنَّ مَن عمِل خيرًا يُخرِجُه اللهُ بَعدَ دُخولِه النَّارَ؛ لأجْلِ ما عمِله مِن خيرٍ، والعاصي معَه إيمانٌ وخيرٌ كثيرٌ؛ بدليلِ قولِه تعالى: وَإِنْ طَائِفَتَانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُمَا فَإِنْ بَغَتْ إِحْدَاهُمَا عَلَى الْأُخْرَى... [الحجرات: 9] ؛ فقد سمَّى اللهُ الطَّائِفتَينِ المُتقاتِلتَينِ مُؤمِنتَينِ؛ ممَّا يدُلُّ على أنَّ كبيرةَ القَتلِ لم تُخرِجْهما مِن الإيمانِ.
فعلى هذا: فإنَّ اللهَ يُعذِّبُ العاصيَ في النَّارِ لأجْلِ معصيتِه، ثُمَّ يُخرِجُه إلى الجنَّةِ لأجْلِ ما عمِله مِن خيرٍ، وأهلُ الجنَّةِ لا يُخرَجونَ منها؛ بدلالةِ الآيةِ: وَمَا هُمْ مِنْهَا بِمُخْرَجِينَ [الحجر: 48] [1023] يُنظر: ((الحصن والجنة)) للغزالي (ص: 99- 100). ، وعليه: فإنَّه يَبطُلُ قولُكم: (إنَّ الفاسِقَ في حالِ عَدمِ العفوِ عنه يُخَلَّدُ في النَّارِ) [1024] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) لعبد الجبار (ص: 666). . وعليه فتبطُلُ هذه الشُّبهةُ.

انظر أيضا: