موسوعة الفرق

المسألةُ السَّادسةُ: هل يجوزُ صُدورُ الصَّغائِرِ عن الأنبياءِ عليهم الصَّلاةُ والسَّلامُ أم لا؟


ذكر تاجُ الدِّينِ السُّبكيُّ وأبو عذبةَ أنَّ القولَ الأوَّلَ مَذهَبُ أبي الحسَنِ الأشْعَريِّ وبعضِ الأشْعَريَّةِ، والقولَ الثَّانيَ مَذهَبُ الماتُريديَّةِ  [686] يُنظر: ((طبقات الشافعية)) (3/387)، ((الروضة البهية)) (ص: 58). .
وهذا الإطلاقُ غيرُ صحيحٍ؛ لأنَّ أقوالَ الأشْعَريَّةِ والماتُريديَّةِ في هذه المسألةِ مُضطَرِبةٌ حتى في جوازِ صُدورِ الكبائِرِ سَهوًا، فضلًا عن الصَّغائِرِ، وبيانُ ذلك فيما يلي:
1- صرَّح طائفةٌ من الماتُريديَّةِ والأشْعَريَّةِ أنَّ الأكثرينَ على جوازِ صُدورِ الكبائِرِ سَهوًا عن الأنبياءِ عليهم السَّلامُ، في حينِ نرى كثيرًا من الماتُريديَّةِ والأشْعَريَّةِ لا يجوِّزون صُدورَ الكبائِرِ عنهم سهوًا.
2- جوَّز طائفةٌ من الماتُريديَّةِ والأشْعَريَّةِ صُدورَ الصَّغائِرِ عن الأنبياءِ عليهم السَّلامُ، ونقلوا أنَّ هذا مَذهَبُ الجُمهورِ، ومع هذا فإنَّ كثيرًا من الماتُريديَّةِ والأشْعَريَّةِ لا يجوِّزون وقوعَ الصَّغائِرِ من الأنبياءِ، كما قرَّره القاضي عياضٌ في كتابِه: الشِّفا  [687] يُنظر: ((الشفا)) مع حاشية الشمني (2/ 144). .
3- نقل جماعةٌ من الماتُريديَّةِ والأشْعَريَّةِ الاتفاقَ على جوازِ صُدورِ الصَّغائِرِ عن الأنبياءِ عليهم السَّلامُ سَهوًا بشرطَينِ:
الشَّرطُ الأوَّلُ: أن لا تكونَ تلك الصَّغائرُ مما يدُلُّ على الخِسَّةِ أو يوجِبُ التَّنفيرَ، كسَرِقةِ لقمةٍ، أو التَّطفيفِ بحَبَّةٍ.
الشَّرطُ الثَّاني: أن يُنَبَّهوا على ذلك مِنَ اللهِ تعالى فينتَبِهوا؛ حتى لا يُقَرُّوا على ذلك.
بينما كلامُ بعضِ الماتُريديَّةِ والأشْعَريَّةِ صريحٌ أو ظاهِرٌ في نفيِ جوازِ صُدورِ الصَّغائِرِ عنهم عليهم السَّلامُ سَهوًا، وهذا من اضطرابِهم في هذه المسألةِ.
4- اختلف الماتُريديَّةُ والأشاعرةُ في جوازِ صُدورِ الزَّلَّةِ والخطَأِ والسَّهوِ والنِّسيانِ عنهم، عليهم السَّلامُ؛ فجمهورُ الماتُريديَّةِ والأشْعَريَّةِ يجوِّزون ذلك كُلَّه.
وشذَّ مِن بَينِ الحَنَفيَّةِ مشايخُ سَمَرْقَندَ، فأفرطوا ومنعوا إطلاقَ اسمِ الزَّلَّةِ على ما صدر من الأنبياءِ عليهم السَّلامُ، وقالوا: (إنَّما يُقالُ فعلوا الفاضِلَ وتركوا الأفضَلَ، فعوتبوا عليه)، كما شَذَّ مِن بَينِ الأشْعَريَّةِ بعضُهم، فأفرط ونفى صدورَ الخطَأِ والنِّسيانِ عنهم، عليهم السَّلامُ.
فأقوالُ الماتُريديَّةِ والأشْعَريَّةِ في عصمةِ الأنبياءِ عن الكبائِرِ والصَّغائِرِ والخطَأِ والسَّهوِ والنِّسيانِ، فيها تناقُضٌ وتضارُبٌ، وهذه الأقوالُ منها ما هو حقٌّ، ومنها ما هو باطِلٌ محْضٌ.
فأمَّا الباطِلُ منها: فقولُ من نفى جوازَ صُدورِ الصَّغائِرِ عنهم عليهم السَّلامُ، وأشنَعُ منه قولُ من غالى فأفرَطَ فنفى جوازَ الخطَأِ والنِّسيانِ والزَّلَّةِ على الأنبياءِ عليهم السَّلامُ؛ فإنَّ هؤلاء قد رفعوهم عن منزلةِ البشَريَّةِ والعبوديَّةِ إلى مرتبةِ الألوهيَّةِ مضاهئينَ به إفراطَ النَّصارى، ولهؤلاء الغالين موقِفٌ خاطئٌ من نصوصِ الكِتابِ والسُّنَّةِ الصَّحيحةِ المحكَمةِ الصَّريحةِ التي تنصُّ على وقوعِ بَعضِ الذُّوبِ منهم عليهم السَّلامُ، فضلًا عن النُّصوصِ التي تدُلُّ على وقوعِ السَّهوِ والنِّسيانِ عنهم، فيردُّونَ ما كان منها من أخبارِ الآحادِ، ويُحَرِّفون ما كان منها متواتِرًا، بحُجَّةِ تنزيهِ الأنبياءِ عليهم السَّلامُ عن الذُّنوبِ، وقرَّروا أنَّ ما نُقِل عن الأنبياءِ عليهم السَّلامُ ممَّا يُشعِرُ بوقوعِهم في معصيةٍ، فما كان منقولًا بطريقِ الآحادِ فمردودٌ، وما كان بطريقِ التَّواتُرِ فمصروفٌ عن ظاهِرِه إن أمكن، وإلَّا فمحمولٌ على تركِ الأَولى أو كونِه قَبلَ البَعثةِ  [688] يُنظر: ((شرح العقائد النسفية)) للتفتازاني (ص: 140)، ((شرح المواقف)) بحاشية الفناري (8/268)، ((شرح الشفاء)) (2/200)، ((شرح الفقه الأكبر)) للقاري (ص: 93) كلاهما للقاري، ((حاشية الكستلي على شرح العقائد)) (ص: 171)، ((النبراس)) للفريهاري (ص: 455-457). .
قال ابنُ تيميَّةَ مبيِّنًا حالَ المُنكِرينَ لجوازِ صُدورِ الصَّغائِرِ عن الأنبياءِ: (المنكِرون لذلك يقولون في تحريفِ القرآنِ ما هو من جنسِ قَولِ أهلِ البُهتانِ، ويحَرِّفون الكَلِمَ عن مواضِعِه)  [689] ((منهاج السنة)) (1/227). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) (10/ 313- 314). .
وقال أيضًا: (الرادُّون لذلك تأوَّلوا ذلك بمثلِ تأويلاتِ الجَهْميَّةِ والقَدَريَّةِ والدَّهريَّةِ لنُصوصِ الأسماءِ والصِّفاتِ، ونُصوصِ القَدَرِ، ونُصوصِ المعادِ، وهي من جنسِ تأويلاتِ الباطنيَّةِ التي يُعلَمُ بالاضطرارِ أنَّها باطِلةٌ، وأنَّها من بابِ تحريفِ الكَلِمِ عن مواضِعِه، وهؤلاء يَقصِدُ أحدُهم تعظيمَ الأنبياءِ فيَقَعُ في تكذيبِهم، ويَرُدُّ الإيمانَ بهم، فيقَعُ في الكفرِ بهم!)  [690] ((مجموع الفتاوى)) (10/ 295- 313- 314). ويُنظر: ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (4/ 319- 320 – 289- 313 - ، 15/ 147 -150). .
والقولُ الحقُّ في بابِ العِصمةِ وَسَطٌ بَينَ إفراطِ أهلِ البِدَعِ الذين يضاهِئون بإفراطِهم النَّصارى، وبَينَ تفريطِ الذين يضاهِئون اليهودَ في حقِّ الأنبياءِ عليه السَّلامُ، وهو القولُ بجوازِ وقوعِ الصَّغائِرِ والخطأِ والنِّسيانِ على الأنبياءِ عليهم السَّلامُ مع تنبيهِ اللهِ لهم، وعدَمِ إقرارِهم عليها.
قال ابنُ تيميَّةَ: (اعلَمْ أنَّ المنحرفينَ في مسألةِ العِصمةِ على طرَفَي النَّقيضِ، كِلاهما مخالِفٌ لكتابِ اللهِ مِن بَعضِ الوجوهِ؛ قومٌ أفرطوا في دعوى امتِناعِ الذُّنوبِ حتى حرَّفوا نصوصَ القرآنِ المُخبرةَ بما وقع منهم من التَّوبةِ من الذُّنوبِ ومغفرةِ اللهِ لهم ورفعِ دَرَجاتِهم بذلك، وقومٌ فرَّطوا في أن نزَّههم اللهُ عنها، وهؤلاء مخالفون للقرآنِ، وهؤلاء مخالفون للقرآنِ، ومن اتَّبع القرآنَ على ما هو عليه من غيرِ تحريفِه، كان في الأمَّةِ الوَسَطِ مهتديًا إلى الصِّراطِ المستقيمِ؛ صِراطِ الذين أنعم اللهُ عليهم من النَّبيِّينَ والصِّدِّيقينَ والشُّهَداءِ والصَّالحينَ)  [691] ((مجموع الفتاوى)) (15/ 150). .
وقال أيضًا: (الجمهورُ الذين يقولون بجوازِ الصَّغائِرِ عليهم يقولونَ: إنَّهم معصومون من الإقرارِ عليها، وحينئذٍ فما وصفوهم إلَّا بما فيه كمالُهم؛ فإنَّ الأعمالَ بالخواتيمِ، مع أنَّ القرآنَ والحديثَ وإجماعَ السَّلَفِ معهم)  [692] ((منهاج السنة)) (1/227). .
وقال في رَدِّه على ابنِ المطهرِ الرَّافضيِّ: (أمَّا قولُه: إنَّ هذا ينفي الوثوقَ، ويوجِبُ التَّنفيرَ، فليس هذا بصحيحٍ فيما قبل النُّبوَّةِ، ولا فيما يقعُ خَطَأً)  [693] ((مجموع الفتاوى)) (4/ 319). .
وقال أيضًا: (القولُ بأنَّ الأنبياءَ معصومون عن الكبائِرِ دونَ الصَّغائِرِ هو قولُ أكثَرِ عُلَماءِ الإسلامِ، وجميعِ الطَّوائفِ، حتى إنَّه قولُ أكثَرِ أهلِ الكلامِ، كما ذكر أبو الحسَنِ الآمديُّ أنَّ هذا قولُ أكثَرِ الأشْعَريَّةِ، وهو أيضًا قولُ أكثَرِ أهلِ التَّفسيرِ والحديثِ والفُقَهاءِ، بل لم يُنقَلْ عن السَّلَفِ والأئمَّةِ والصَّحابةِ والتَّابعينَ وتابِعيهم إلَّا ما يوافِقُ هذا القولَ)  [694] ((مجموع الفتاوى)) (10/ 292 -293). .
وقال أيضًا: (أمَّا العصمةُ في غيرِ ما يتعلَّقُ بتبليغِ الرِّسالةِ، فللنَّاسِ فيه نزاعٌ: هل هو ثابتٌ بالعقلِ أو بالسَّمعِ؟ ومتنازِعونَ في العِصمةِ من الكبائِرِ والصَّغائِرِ، أو من بعضِها، والقولُ الذي عليه جمهورُ النَّاسِ -وهو الموافِقُ للآثارِ المنقولةِ عن السَّلَفِ- إثباتُ العِصمةِ من الإقرارِ على الذُّنوبِ مُطلَقًا، والرَّدُّ على من يقولُ: إنَّه يجوزُ إقرارُهم عليها)  [695] ((مجموع الفتاوى)) (10/ 292 -293). .
تلك هي المسائِلُ الخلافيَّةُ السِّتُّ بَينَ الماتُريديَّةِ والأشاعِرةِ، والتي جعل السُّبكيُّ وأبو عذبةَ الخلافَ فيها معنويًّا، والظَّاهِرُ أنَّ الخلافَ في المسألتينِ الثَّالثةِ والرَّابعةِ لفظيٌّ لا معنويٌّ.

انظر أيضا: