موسوعة الفرق

المسألةُ الثَّالثةُ: التَّكوينُ


هو مبدأُ الإخراجِ من العَدَمِ إلى الوجودِ، وصفاتُ الأفعالِ راجعةٌ إليه، وهو عبارةٌ عن الإيجادِ، والتَّخليقِ والتَّرزيقِ، والإحياءِ والإماتةِ؛ فالتَّكوينُ عِندَ الماتُريديَّةِ صِفةٌ أزليَّةٌ، والصِّفاتُ الفعليَّةُ عندهم كُلُّها من مُتعَلِّقاتِ التَّكوينِ، وليست صفاتٍ حقيقيَّةً، وإلَّا لزم قيامُ الحوادِثِ باللهِ تعالى، أو لَزِم تكثيرُ القُدَماءِ جِدًّا.
أمَّا الأشْعَريَّةُ فلا يَعتَرِفون بصِفةِ التَّكوينِ، فصِفاتُ الأفعالِ عِندَهم كُلُّها حوادثُ، وهي ليست من صفاتِ اللهِ تعالى، بل هي إضافاتٌ واعتباراتٌ، وليس التَّكوينُ صِفةً أُخرى غيرَ القُدرةِ والإرادةِ، فمرجِعُ صفاتِ الأفعالِ عِندَهم مجموعُ القُدرةِ والإرادةِ.
وقد صرَّح ابنُ الهُمَامِ بأنَّ القولَ بأنَّ الصِّفاتِ الفعليَّةَ قديمةٌ راجعةٌ إلى التَّكوينِ، وأنَّها زائدةٌ على الصِّفاتِ السَّبعِ، ليس في كلامِ أبي حنيفةَ، ولا في كلامِ أصحابِه المتقَدِّمين، وإنما ظهر هذا القولُ في زمَنِ أبي منصورٍ الماتُريديِّ، فادَّعى متأخِّرو الحَنَفيَّةِ ذلك.
وقد جعل ابنُ الهُمَامِ الماتُريديُّ والملَّا علي القاري الماتُريديُّ وابنُ أبي شريفٍ الأشْعَريُّ هذا الخلافَ لَفظيًّا.
وقال الرَّازيُّ في مناظرتِه مع نورِ الدِّينِ الصَّابونيِّ الماتُريديِّ: (هذه الصِّفةُ التي سمَّيتَها التَّكوينَ إن كانت عبارةً عن هذه الصِّفاتِ السَّبعِ فنحن نعترِفُ بها، إلَّا أنَّ البَحثَ يصيرُ لفظيًّا، وإن كانت صفةً أُخرى فلا بُدَّ من بيانِها وشرحِ حقيقتِها؛ حتى يمكِنَنا نفيُها أو إثباتُها)  [680] ((مناظرات الرازي)) (ص: 19). ويُنظر: ((المحصل)) للرازي (ص: 269). .  
واختار الغَزاليُّ لرفعِ هذا الخلافِ طريقةَ القُوَّةِ والفِعلِ، فقال: (إنَّ كوْنَ اللهِ خالِقًا قبل الخَلقِ بالقُوَّةِ، وكونَه خالقًا بعد الخَلقِ بالفعلِ؛ كالسَّيفِ يُسَمَّى صارِمًا بالقوَّةِ في الغِمدِ، كما يسمَّى صارِمًا بالفعلِ عِندَ حصولِ القَطعِ به، والماءُ في الكوزِ يُسَمَّى مُرويًا بالقوَّةِ، وعند الشُّربِ يُسَمَّى مُرْويًا بالفِعلِ) [681] ((الاقتصاد في الاعتقاد)) (ص: 101). .
وكِلا الفريقينِ في هذه المسألةِ على باطِلٍ محْضٍ، سواءٌ كان الخلافُ مَعنويًّا أم لفظيًّا؛ لأنَّ الدَّافعَ لهم جميعًا على ما قالوه الفرارُ عن القَولِ بقيامِ الصِّفاتِ الاختياريَّةِ به تعالى، وهو ما يسمُّونه بحلولِ الحوادِثِ؛ فلذا قالت الماتُريديَّةُ: إنَّ صِفةَ التَّكوينِ أزَليَّةٌ، وإنَّ الصِّفاتِ الفعليَّةَ ليست في الحقيقةِ صفاتٍ للهِ تعالى، بل هي من مُتعَلِّقاتِ صِفةِ التَّكوينِ؛ لئلَّا يلزَمَ حلولُ الحوادِثِ به تعالى، وليست قديمةً حتَّى لا يلزَمَ كثرةُ القُدَماءِ جِدًّا.
وأمَّا الأشْعَريَّةُ فقالوا بنَفيِ التَّكوينِ صِفةً لله تعالى زائدًا على الصِّفاتِ السَّبعِ، وقالوا: إنَّ صفاتِ الأفعالِ ليست صفاتٍ للهِ تعالى، بل هي إضافاتٌ واعتباراتٌ، لئلَّا يقومَ بذاتِه تعالى حادِثٌ. هذا حاصِلُ مَذهَبِ الفريقَينِ، مع أنَّ القولَ بحُلولِ الحوادِثِ به تعالى لازمٌ لهم، شَعَروا بذلك أم لا، حتى باعترافِ الرَّازيِّ فيلسوفِ الأشْعَريَّةِ.
والقولُ بحلولِ الحوادِثِ به تعالى كما هو لازِمٌ لجميعِ الطَّوائِفِ حتى الفلاسِفةِ، كذلك هو قولُ أساطينِ الفلاسفةِ الأوَّلينَ وفُضَلائِهم المتأخِّرينَ، وهو قولُ طوائِفَ من الشِّيعةِ، والمُرجِئةِ، والكرَّاميَّةِ، وغيرِهم، وأمَّا جمهورُ أهلِ السُّنَّةِ والحديثِ فإنَّهم يقولون بها، أو بمعناها.
ونفيُ قيامِ الصِّفاتِ الاختياريَّةِ به تعالى بشُبهةِ أنَّ ذلك يستلزِمُ حُلولَ الحوادِثِ به تعالى أدَّى بالماتُريديَّةِ والأشْعَريَّةِ إلى تأويلِ كثيرٍ من صفاتِ اللهِ تعالى، وخالفوا سَلَفَ الأمَّةِ، وخالفوا العقلَ الصَّريحَ، ووقعوا في مفاسِدَ، والحقُّ أنَّ أفعالَ اللهِ تعالى صفاتٌ قائمةٌ به تعالى تتعلَّقُ بها مشيئتُه تعالى وقدرتُه، وتتجدَّدُ آحادُها، غيرَ أنَّ نوعَها قديمٌ.
ولا يلزمُ من حدوثِ الأفرادِ حُدوثُ النَّوعِ، فمَثَلًا نعيمُ الجنَّةِ وأكُلُها وظِلُّها دائِمٌ باقٍ لا ينفَدُ؛ مع أنَّ آحادَها لا يتحقَّقُ فيها هذا الحُكمُ، وهكذا أجزاءُ البيتِ والإنسانِ والشَّجَرِ لا يُطلَقُ عليها حكمُ البيتِ والإنسانِ والشَّجَرِ، وأجزاءُ الطَّويلِ والعريضِ لا يستلزِمُ أن تكونَ طويلةً وعريضةً ودائمةً، فالنَّوعُ له أحكامٌ وصفاتٌ، والأجزاءُ والأفرادُ لها أحكامٌ وصفاتٌ، إلَّا إذا ثبت أنَّ هذه الجملةَ موصوفةٌ بصفةِ هذه الأفرادِ؛ فالنَّوعُ وأفرادُه، والكُلُّ وأجزاؤه: قد تتَّفِقُ حُكمًا، وقد تختَلِفُ، وضابِطُ ذلك: أنَّه إذا كان بانضمامِ هذا الفَردِ إلى هذا الفَردِ يتغيَّرُ ذلك الحكمُ الذي للفَردِ، لم يكُنْ حُكمُ المجموعِ حُكمَ الأفرادِ، كما في الأمثلةِ السَّابقةِ؛ فحُكمُ الإنسانِ والبيتِ والطَّويلِ ليس حكمَ أجزائِها، وحُكمُ نعيمِ الجنَّةِ ليس حُكمَ أفرادِها.
وإنْ لم يتغيَّرْ ذلك الحكمُ الذي لذلك الفَردِ كان حُكمُ المجموعِ حُكمَ أفرادِه، ككونِ أفرادِ الشَّيءِ معدومةً أو موجودةً أو ممكِنةً، فحُكمُ الأفرادِ حُكمُ المجموعِ.
وتهويلُ المعطِّلةِ بشُبهةِ قيامِ الحوادِثِ باللهِ تعالى من جملةِ تهويلِهم بالكَلِماتِ المستحدَثةِ الكلاميَّةِ المجمَلةِ التي تحتَمِلُ معنًى حقًّا وباطلًا، وقاعدةُ أهلِ السُّنَّةِ في مِثلِ هذه الكلماتِ المجمَلةِ عدَمُ الحُكمِ عليها نفيًا أو إثباتًا، حتى يُعلَمَ مرادُ قائِلِها.
وممَّا يدُلُّ على أنَّ الصِّفاتِ الاختياريَّةَ قديمةُ النَّوعِ متجَدِّدةُ الآحادِ قَولُه تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَولَ الَّتِي تُجَادِلُكَ فِي زَوْجِهَا وَتَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ [المجادلة: 1] .
فقولُه تعالى: إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ دليلٌ على ثبوتِ السَّمعِ والبَصَرِ المُطلَقَينِ القديمَينِ له تعالى، وكلُّ واحدٍ منهما نوعٌ لأفرادِه، وقولُه تعالى: قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَولَ الَّتِي تُجَادِلُكَ، وقولُه: وَاللَّهُ يَسْمَعُ تَحَاوُرَكُمَا [المجادلة: 1] دليلٌ على تجدُّدِ أفرادِ ذلك النَّوعِ؛ فالسَّمعُ الخاصُّ فَردٌ من ذلك السَّمعِ المُطلَقِ، ولا يمكِنُ أن يكونَ المعنى: أنَّ اللهَ تعالى سَمِعَ قَولَ تلك المرأةِ، وسَمِعَ محاوَرَتَها مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في الأزَلِ قبل أن يخلُقَهما، وقبل أن يخلُقَ كلامَهما وأصواتَهما! وأخطَأَ من قال: إنَّ اللهَ تعالى سمِعَ صَوتَهما ومحاوَرَتَهما بصفةِ التَّكوينِ القديمِ، وإنَّ هذا السَّماعَ الخاصَّ ليس من صفاتِ اللهِ تعالى، بل هو من مُتعَلِّقاتِ التَّكوينِ، كما يزعُمُ الماتُريديَّةُ، وكذلك أخطأ من قال: إنَّ هذا السَّماعَ الخاصَّ من الإضافاتِ والاعتباراتِ، وليس من صفاتِ اللهِ تعالى، فأفعالُ اللهِ تعالى صفاتٌ له قائمةٌ به تعالى تحت مشيئتِه واختيارِه، ونوعُها قديمٌ، وآحادُها تتجدَّدُ، ولا يستلزمُ ذلك حلولَ الحوادِثِ به تعالى، بالمعنى الذي تريدُه الجَهْميَّةُ.

انظر أيضا: