موسوعة الفرق

المطلبُ الثَّاني: الظَّاهِرُ والباطِنُ


اعتَقدَ القَرامِطةُ والإسماعيليَّةُ أنَّ كُلَّ شَيءٍ ظاهِرٍ مَحسوسٍ في هذا الكَونِ له مَعنًى آخَرُ خَفيٌّ، يُعرَفُ بالمَعنى الباطِنِ؛ فألفاظُ القُرآنِ مَثَلًا لها مَعنى باطِنٌ غَيرُ المَعنى الظَّاهِرِ.
قال ابنُ تيميَّةَ: (القَرْمَطةُ التي هي: تَحريفُ الكَلِمِ عن مَواضِعِه، وإفسادُ الشَّرعِ واللُّغةِ والعَقلِ بالتَّمويهِ والتَّلبيسِ، وهذا أيضًا سَفسَطةٌ في الشَّرعيَّاتِ، وسُمِّيَ قَرْمَطةً؛ لأنَّ القَرامِطةَ هم أشهَرُ النَّاسِ بادِّعاءِ عِلمِ الباطِنِ المُخالِفِ للظَّاهِرِ، ودَعوى التَّأويلاتِ الباطِنةِ المُخالِفةِ للظَّاهِرِ المَعلومِ المَعقولِ مِنَ الكِتابِ والسُّنَّةِ) [3176] ((بيان تلبيس الجهمية)) (1/ 457). .
وقد رَمَوا غَيرَهم المُخالِفينَ لهم بالجَهلِ لتَمَسُّكِهم بالظَّاهِرِ وعَدَمِ إلمامِهم بعِلمِ الباطِنِ، وذَهَبوا إلى أنَّ تَوحيدَ أهلِ الظَّاهِرِ هو إلى الشِّركِ أقرَبُ [3177] يُنظر: ((تأويل دعائم الإسلام)) للنعمان (1/3). !
وقد لَعِبَ التَّأويلُ الباطِنيُّ في حَياةِ القَرامِطةِ دَورًا كبيرًا استَغَلَّه دُعاتُهم لتَحقيقِ أهدافِهم الباطِنيَّةِ، فأوَّلوا الآياتِ القُرآنيَّةَ على النَّحوِ الذي يُحَقِّقُ أغراضَهم، فحَمدان قِرْمِط لَمَّا أرادَ جَمعَ الأموالِ من أتباعِه طَلَب من كُلِّ شَخصٍ أن يَدفَعَ له مَبلَغًا مِنَ المالِ سَمَّاه الفِطرةَ. وقال: إنَّ ذلك هو المَقصودُ من قَولِه تعالى: فِطْرَةَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها [الروم: 30] ، ثُمَّ طَلَبَ منهم مَبلَغًا آخَرَ سَمَّاه البُرهانَ، وتَلا عليهم قَولَ اللَّهِ: قُلْ هَاتُوا بُرْهَانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ [النمل: 27] ! واستَمَرَّ حَمدانُ على هذه الوَتيرةِ يَتَلاعَبُ بالنُّصوصِ القُرآنيَّةِ ويَطلُبُ الأموالَ من أتباعِه مُستَنِدًا في ذلك إلى تَأويلِ بَعضِ الآياتِ حتَّى استَحوَذَ في النِّهايةِ على جَميعِ ما يَمتَلِكونَه!
أمَّا التَّأويلُ الباطِنُ لفَرائِضِ العِبادةِ فقد فتَحوه على مِصراعَيه دونَ ضَوابِطَ، ومِمَّا قالوا: إنَّ الصَّلاةَ لها ظاهِرٌ وباطِنٌ؛ ظاهِرُها القيامُ والقُعودُ والسُّجودُ والرُّكوعُ، وباطِنُها الدَّعوةُ إلى اللهِ وإلى أوليائِه.
وإنَّ الوُضوءَ في الصَّلاةِ يُعتَبَرُ في الباطِنِ المُبالَغةَ في الطَّهارةِ مِنَ الذُّنوبِ بالعِلمِ الذي مَثَلُه مَثَلُ الماءِ في الظَّاهِرِ. وإنَّ غَسلَ الكَفَّينِ مِثلُ حُدودِ اللَّيلِ والنَّهارِ، وهم حُجَجُ النَّاطِقِ وأساسُه.
وأمَّا الصَّومُ فظاهِرُه تركُ الطَّعامِ والشَّرابِ، وباطِنُه كِتمانُ أسرارِ الإمامِ، ويَستَدِلُّونَ بقَولِ اللهِ تَعالى على لسانِ مَريَمَ: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَدًا فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمَنِ صَوْمًا فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا [مريم: 26] [3178] يُنظر: ((الملل والنحل)) للشهرستاني (1/ 194). .
أمَّا الآياتُ القُرآنيَّةُ فقد فسَّروها وأوَّلوها كما يَحلو لهم، وعلى وَفقِ مُخَطَّطِهم لإِبطالِ الشَّرائِعِ تَحتَ سِتارِ الظَّاهِرِ والباطِنِ، والأمثِلةُ لذلك خَيرُ دَليلٍ.
قال المُؤَيَّدُ الشِّيرازيُّ: (إنَّ قَولَه تَعالى: مَا نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِهَا نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْهَا أَوْ مِثْلِهَا [البقرة: 106] يعني: ما يَنقَرِضُ إمامٌ مِنَ الأئِمَّةِ -الذين هم آياتُ اللهِ وأعلامُه وأركانُ دينِه وقِوامُه- بمَوتٍ طَبيعيٍّ واختِرامٍ جِسميٍّ إلَّا ويُقيمُ مَقامَه مِثلُه في فضلِه أو أمثلَ منه في فضلِه) [3179] ((المجالس المؤيدية)) (ص: 105). .
كما يُؤَوِّلونَ يَدَيْ أبى لهَبٍ في قَولِه تَعالى: تَبَّتْ يَدَا أَبِي لَهَبٍ وَتَبَّ [المسد: 1] بأنَّهما أبو بَكرٍ وعُمَرُ؛ حَيثُ كانا مُنافِقَينِ يَقصِدانِ إهلاكَ الرَّسولِ، وإنَّ أبا لهَبٍ أقامَهما لذلك!
ويَزعُمونَ أيضًا أنَّ المَقصودَ بالإشراكِ فى قَولِه تَعالى: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَلَتَكُونَنَّ مِنَ الْخَاسِرِينَ [الزمر: 65] إشراكُ أبي بكرٍ وعَليٍّ في الوِلايةِ، وإنَّ اللَّهَ أمَرَ بإخلاصِها لعَليٍّ!
قال ابنُ تيميَّةَ: (وشَرُّ هؤلاء القَرامِطةُ؛ فإنَّهم يَدَّعونَ أنَّ للقُرآنِ والإسلامِ باطِنًا يُخالِفُ الظَّاهِرَ؛ فيَقولونَ: الصَّلاةُ المَأمورُ بها ليست هذه الصَّلاةَ، أو هذه الصَّلاةُ إنَّما يُؤمَرُ بها العامَّةُ، وأمَّا الخاصَّةُ فالصَّلاةُ في حَقِّهم مَعرِفةُ أسرارِنا، والصِّيامُ كِتمانُ أسرارِنا، والحَجُّ السَّفَرُ إلى زيارةِ شُيوخِنا المُقدَّسينَ، ويَقولونَ: إنَّ الجَنَّةَ للخاصَّةِ هي التَّمَتُّعُ في الدُّنيا باللَّذَّاتِ، والنَّارُ هي التِزامُ الشَّرائِعِ والدُّخولُ تَحتَ أثقالِها، ويَقولونَ: إنَّ الدَّابَّةَ التي يُخرِجُها اللهُ للنَّاسِ هي العالِمُ النَّاطِقُ بالعِلمِ في كُلِّ وقتٍ، وإنَّ إسرافيلَ الذي يَنفُخُ في الصُّورِ هو العالِمُ الذي يَنفُخُ بعِلمِه في القُلوبِ حتَّى تَحيا، وجِبريلُ هو العَقلُ الفَعَّالُ الذي تَفيضُ عنه المَوجوداتُ، والقَلَمُ هو العَقلُ الأوَّلُ الذي تَزعُمُ الفَلاسِفةُ أنَّه المُبدِعُ الأوَّلُ، وأنَّ الكَواكِبَ والقَمَرَ والشَّمسَ التي رَآها إبراهيمُ هي النَّفسُ والعَقلُ وواجِبُ الوُجودِ، وأنَّ الأنهارَ الأربَعةَ التي رَآها النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لَيلةَ المِعراجِ هي العَناصِرُ الأربَعةُ، وأنَّ الأنبياءَ التي رَآها في السَّماءِ هي الكَواكِبُ. فآدَمُ هو القَمَرُ، ويوسُفُ هو الزُّهَرةُ، وإدريسُ هو الشَّمسُ، وأمثالُ هذه الأمورِ! وقد دَخَلَ في كثيرٍ من أقوالِ هؤلاء كثيرٌ مِنَ المُتَكَلِّمينَ والمُتَصَوِّفينَ، لَكِنَّ أولئك القَرامِطةَ ظاهِرُهم الرَّفضُ وباطِنُهم الكُفرُ المَحْضُ، وعامَّةُ الصُّوفيَّةِ والمُتَكَلِّمينَ لَيسوا رافِضةً يُفسِّقونَ الصَّحابةَ ولا يُكَفِّرونَهم؛ لَكِنَّ فيهم مَن هو كالزَّيديَّةِ الذين يُفَضِّلونَ عَليًّا على أبي بَكرٍ، وفيهم مَن يُفَضِّلُ عَليًّا في العِلمِ الباطِنِ كطَريقةِ الحَربيِّ وأمثالِه، ويَدَّعونَ أنَّ عَليًّا كان أعلَمَ بالباطِنِ، وأنَّ هذا العِلمَ أفضَلُ من جِهَتِه، وأبو بَكرٍ كان أعلَمَ بالظَّاهِرِ. وهؤلاء عَكسُ مُحَقِّقي الصُّوفيَّةِ وأئِمَّتِهم؛ فإنَّهم مُتَّفِقونَ على أنَّ أعلَمَ الخَلقِ بالعِلمِ الباطِنِ هو أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ، وقدِ اتَّفَقَ أهلُ السُّنَّة والجَماعةِ على أنَّ أبا بَكرٍ أعلَمُ الأمَّةِ بالباطِنِ والظَّاهِرِ، وحَكى الإجماعَ على ذلك غَيرُ واحِدٍ) [3180] ((مجموع الفتاوى)) لابن تيمية (13/236). .
وقال ابنُ تيميَّةَ عن القَرامِطةِ وتَأويلاتِهم: (إنَّهم أئِمَّةُ هذا البابِ الذي كانوا به أضَلَّ النَّاسِ عن سَواءِ السَّبيلِ، وهو في الأصلِ إنَّما صَدر عن زَنادِقةٍ مُنافِقينَ أرادوا التَّلبيسَ به على جُهَّالِ المُسلِمينَ في الظَّاهِرِ، وخالَفوهم في الباطِنِ وَإِذَا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قَالُوا آمَنَّا وَإِذَا خَلَوْا إِلَى شَيَاطِينِهِمْ قَالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّمَا نَحْنُ مُسْتَهْزِئُونَ * اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَيَمُدُّهُمْ فِي طُغْيَانِهِمْ يَعْمَهُونَ [البقرة: 14-15] ، وَإِذَا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَمَا آمَنَ النَّاسُ قَالُوا أَنُؤْمِنُ كَمَا آمَنَ السُّفَهَاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهَاءُ وَلَكِنْ لا يَعْلَمُونَ [البقرة: 13] ) [3181] ((بغية المرتاد في الرد على المتفلسفة والقرامطة والباطنية)) (ص: 325، 326). .
ومَعرِفةُ الباطِنِ عِندَهم خاصٌّ بالأئِمَّةِ، فهم يَقولونَ: إنَّ ما جاءَ في ظاهِرِ القُرآنِ هي مَعانٍ يَعرِفُها، ويَنطَلِقُ بها عُلَماءُ أهلِ الظَّاهِرِ والعامَّةُ أيضًا، ولَكِنَّ لكُلِّ فريضةٍ من فرائِضِ الدِّينِ تَأويلًا باطِنيًّا لا يَعلَمُه إلَّا الأئِمَّةُ وكِبارُ دُعاتِهم وحُجَجِهم، وعَمَدوا إلى إحاطةِ جَميعِ العُلومِ الباطِنيَّةِ بالسَّترِ والكِتمانِ، وحَظَروا إظهارَها إلَّا لمَن يَستَحِقُّ ذلك من أتباعِ الدَّعوةِ المُخلِصينَ الذين تَدَرَّجوا فى مَراتِبِها، وتَرَفَّعوا في مَناصِبِها، وهم الطَّبَقةُ المَعروفةُ بالخاصَّةِ [3182] يُنظر: ((الحركات الباطنية)) لغالب (ص: 104). .

انظر أيضا: