موسوعة الفرق

المبحَثُ الأوَّلُ: نشأةُ الإباضيَّةِ في عُمانَ


دخَل المَذهَبُ الإباضيُّ إلى عُمانَ مُبكِّرًا واستقَرَّ هناك وتكَوَّن له أتباعٌ أخذوا في الازديادِ مع مرورِ الزَّمَنِ، إلى أنَّ أصبح كما قال المؤرِّخُ البريطانيُّ لُورِيمَرُ: (يتمَتَّعُ بنفوذٍ واسعٍ أو على الأقَلِّ له من النُّفوذِ مِثلُ ما لغيرِه، وسُرعانَ ما تبنَّى أهلُ عُمانَ مبادِئَ المَذهَبِ الإباضيِّ، ويقالُ: إنَّه بمَطلَعِ القَرنِ 13م لم تُصبِحْ هذه المبادِئُ مُسيطِرةً فقط، ولكِنَّها أصبحت لها صفةٌ عامَّةٌ تقريبًا) [970] ((دليل الخليج)) (6/3403). .
وهكذا انتَشَر المَذهَبُ الإباضيُّ في تلك البِقاعِ من الجزيرةِ العربيَّةِ ذاتِ المَسالِكِ الوَعْرةِ التي ساعدَتْهم في استقلالِهم الذي طالما كانوا يَنزِعون إليه في عَهدِ الدَّولتَينِ الأُمَويَّةِ والعبَّاسيَّةِ، مُتأثرِّين بنظريَّتِهم الخاصَّةِ تِجاهَ الخِلافةِ الوراثيَّةِ في دِمَشقَ أو بغدادَ، وهو ما لا يتَّفِقُ وآراءَهم الاعتِقاديَّةَ.
أمَّا عن الكيفيَّةِ التي دخل بها المَذهَبُ إلى هناك، فمِن المعروفِ أنَّ مَعركةَ النَّهْرَوانِ قد أتت على قِسمٍ كبيرٍ منهم، ونجا منها من كُتِبت له النَّجاةُ، وبعدها فَرَّ مَن بَقِيَ منهم إلى مناطِقَ بعيدةٍ عن مركزِ الخلافةِ، وأخَذوا في نَشرِ مبادِئِ الخَوارِجِ بَينَ القبائِلِ التي آوَتْهم يَغمُرُهم الحِقدُ الدَّفينُ على ما نال إخوانَهم من قَتلٍ على يَدِ الخليفةِ الرَّاشِدِ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عنه وأتباعِه، ومن هنا ذَهَب لُورِيمَرُ إلى القولِ بأنَّ الذي أنشأ المَذهَبَ في عُمانَ هو رَجُلٌ من الخَوارِجِ الذين نَجَوا من تلك المعركةِ، فقال: (يقالُ: إنَّ مبادِئَ الإباضيَّةِ أدخلَها إلى عُمانَ أحَدُ الخَوارِجِ الذين نجَوا من الهلاكِ الذي حلَّ بجماعتِهم كحِزبٍ سياسيٍّ على يَدِ عَليِّ بنِ أبي طالبٍ في معركةِ النَّهْرَوانِ، وهذا يؤكِّدُ أنَّ مَذهَبَ الإباضيَّةِ يرجِعُ في أصلِه إلى الخَوارِجِ) [971] ((دليل الخليج)) (6/3403). .
بينما يرى السَّالِميُّ أنَّ انتشارَ المَذهَبِ الإباضيِّ في عُمانَ كان على يَدَي عَبدِ اللهِ بنِ إباضٍ، ويقولُ في ذلك: (الرُّواةُ المُسلِمون يَذكُرُون بأنَّه قَدِم إلى عُمانَ رجُلان أحَدُهما الإمامُ عبدُ اللهِ بنُ إباضٍ، ونَشَر هناك مبادِئَ المُحَكِّمةِ) [972] ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص: 131). .
وعلى كُلٍّ فقد اشتَدَّ ساعِدُ المَذهَبِ الإباضيِّ في عُمانَ، ومن هنا اتَّجَهوا إلى التَّفكيرِ في إقامةِ دولةٍ باسمِهم مُستَقِلَّةٍ بنَفْسِها عن التَّبعيَّةِ للخلافةِ العبَّاسيَّةِ، وقد بدأت محاولةُ تكوينِ تلك الدَّولةِ سَنةَ 129هـ في آخِرِ دَولةِ بني أُمَيَّةَ وأوَّلِ دولةِ بني العبَّاسِ.
فلمَّا آنَسَ أهلُ عُمانَ من أنفُسِهم القُوَّةَ ثاروا بقَصدِ الاستقلالِ عن الخلافةِ، وكان ذلك على عهدِ السَّفَّاحِ ووِلايةِ أخيه المنصورِ على العراقِ، الذي عَيَّن بدورِه والِيًا من قِبَلِه على عُمانَ، إلَّا أنَّ العُمانِيِّينَ كانت نظرتُهم كنَظرةِ أسلافِهم من الخَوارِجِ يَرَون أنَّ توارُثَ الخلافةِ أمرٌ غيرُ شَرعيٍّ؛ لهذا فلم تكُنِ الدَّولةُ العبَّاسيَّةُ أحسَنَ حالًا من الدَّولةِ الأُمَويَّةِ عِندَهم، فقامت الثَّورةُ في عُمانَ وانتَخَبوا أوَّلَ إمامٍ لهم، وهو (الجُلَنْدَى بنُ مَسعودِ بنِ جَيفَرٍ الأزديُّ)، ولكِنَّه لم يَدُمْ في الحُكمِ إلَّا سنتينِ وشَهرًا واحِدًا؛ إذ إنَّ نزعتَه إلى استقلالِ عُمانَ عن الدَّولةِ العبَّاسيَّةِ قد أغضبَتْهم عليه، فتقابَلَ في معركةٍ مع جيشِ الخلافةِ الذي كان يقودُه خازِمُ بنُ خُزَيمةَ، والتَحَموا في معركةٍ أسفَرَت عن قَتلِ الجُلَنْدَى وأصحابِه، وانتهت حركةُ النُّزوعِ إلى الإمامةِ، وظَلَّت عُمانُ جزءًا من الدَّولةِ العبَّاسيَّةِ إلى سَنةِ 177هـ.
فقام إمامٌ آخَرُ لهم، وهو (محمَّدُ بنُ أبي عفَّانَ الأزديُّ)، واجتمعوا على طاعتِه، ولكِنَّهم نقَموا عليه أنَّه تجاوَزَ الحُدودَ وتكَبَّرَ، فخَلَعوه سنةَ 179هـ وولَّوا عليهم إمامًا آخَرَ، ويُسَمَّى (الوارِثَ بنَ كَعبٍ الخَروصيَّ) فأحسَنَ فيهم السِّيرةَ وأحبُّوه، واجتمعت عليه كَلِمتُهم وحارب بهم جيشَ الخلافةِ الذي أُرسِل لإخضاعِهم بقيادةِ عيسى بنِ جعفَرٍ عَمِّ الخليفةِ هارونَ الرَّشيدِ، فانتصر الوارِثُ وأخذ عيسى أسيرًا وأُودِعَ السِّجنَ إلى أن قُتِل، ثُمَّ انتهت مدَّةُ الوارِثِ، ومات غريقًا في أثناءِ محاولتِه إنقاذَ سُجَناءَ كان السَّيلُ قد داهمَهم بَعدَ حُكمٍ دام اثنَيْ عَشَرَ عامًا، أي: أنَّه تولَّى إلى سنةِ 192هـ.
فبايَعَ الإباضيَّةُ بَعدَه (غَسَّانَ بنَ عبدِ اللهِ)، وكان يُوصَفُ بحَزمٍ وبأسٍ، فأمَّن البلادَ وقضى على الفِتَنِ، وازدهرت في عهدِه عُمانُ، بل وحاول أن يوسِّعَ نفوذَه إلى الهندِ، ولكِنَّه توفِّيَ قَبلَ تحقيقِ هدَفِه سَنةَ 207هـ.
فبايَعَ الإباضيَّةُ بَعدَه (عَبدَ المَلِكِ بنَ حُمَيدٍ الأزديَّ)، فسار فيهم سيرةً ارتَضَوها كسابِقِه إلى أن توفِّيَ سنةَ 226هـ.
فاختيرَ بَعدَه (المُهَنَّا بنُ جَيفَرٍ اليَحمَديُّ الخَروصيُّ)، فحَمِد الإباضيَّةُ سيرتَه وانتَعَشَت على عهدِه البلادُ، وكوَّن له جيشًا كثيفًا وأُسطولًا قَويًّا إلى أن توفِّيَ سنةَ 237هـ.
فانتَخَبوا بَعدَه (الصَّلْتَ بنَ مالِكٍ الخَروصيَّ)، وقد حدَث في أثناءِ حُكمِه اعتداءٌ من الحبَشةِ فهاجَموا جزيرةَ سُقُطْرَى واحتلُّوها وقَتَلوا عامِلَ الصَّلتِ عليها، فكوَّن عِندَ ذاك الإمامُ الصَّلتُ جيشًا، وكوَّن أُسطولًا يبلُغُ أكثَرَ من مائةِ سفينةٍ، التَحَم مع الأحباشِ في معركةٍ انتَصَر فيها الإمامُ، وانهَزَمت الأحباشُ تاركينَ سُقُطْرى للإمامِ الصَّلتِ، وكانت ولايتُه طويلةً؛ لهذا فقد طلب منه أن يتنازَلَ نَظَرًا للمصلحةِ في ذلك، فتنازَلَ سنةَ 273هـ وعاش كواحدٍ من النَّاسِ إلى أن تُوفِّيَ.
وبعد تنازُلِه عُيِّن (راشِدُ بنُ النَّظرِ اليَحمَديُّ الخَروصيُّ)، وفي عهدِه برزت العصبيَّةُ القَبَليَّةُ بَينَ العَدنانيَّةِ واليمانيَّةِ واشتَدَّ ساعِدُها حتَّى كاد أن يذهَبَ ضَحيَّةً لها؛ فقد أراد خصومُه الإطاحةَ به، ولكِنَّه قاوَمهم في معركةٍ تُسَمَّى معركةَ الرَّوضةِ، انتصر فيها على مُعارِضيه وقَتَل منهم كثيرًا، واستمَرَّ أربَعَ سَنَواتٍ أُرغِمَ في نهايتِها على التَّنازُلِ سَنةَ 280هـ.
فتولَّى الأمرَ بَعدَه (عِزَّانُ بنُ تميمٍ الخَروصيُّ) سَنةَ 277هـ، واشتَدَّ ضِرامُ العَصَبيَّةِ القَبَليَّةِ واشتَعَلت الفِتَنُ، وأصبح الأمرُ على غايةِ ما يُتوقَّعُ من المكروهِ، فأنشَب بأنصارِه معركةً مع معارِضيه فهَزَمهم، فذهب بعضُ المُنهَزِمين مُستغيثينَ بالمُعتَضِدِ الخليفةِ العبَّاسيِّ لنُصرتِهم على عِزَّانَ ومَن معه، فكانت فُرصةً ذَهَبيَّةً للعبَّاسيِّين للانقضاضِ على عُمانَ والاستيلاءِ عليها وإعادتِها إلى حظيرةِ الخلافةِ، فأمَر عامِلَه محمَّدَ بنَ بُورٍ بفَتحِ عُمانَ، فوَجَّه هذا خمسةً وعِشرين ألفًا لفَتحِها، فلمَّا عَلِمَ أهلُ عُمانَ بهذا الجيشِ خافوا منه وصاروا يتسَلَّلون هَرَبًا عن الإمامِ عِزَّانَ إلى أن بَقِيَ معه من بَقِيَ، فتقابَلَ مع جيوشِ الخلافةِ في معركةٍ انتهت بقتلِ الإمامِ، بل وبانتهاءِ الإمامةِ من عُمانَ لمدَّةِ أربعينَ عامًا، أي: من سَنةِ 280 إلى سَنةِ 320هـ، حينَ تَوَلَّى (سعيدُ بنُ عَبدِ اللهِ بنِ محمَّدِ بنِ محبوبٍ)، وكان مطاعًا في الكُلِّ موصوفًا بالصَّلاحِ بَينَهم إلى أن قُتِلَ سَنةَ 328هـ.
وبعد سعيدٍ بايعَ الإباضيَّةُ رجُلًا أخبارُه مجهولةٌ عِندَ الإباضيَّةِ ويُسَمَّى (راشِدَ بنَ الوليدِ). قال عنه السَّالِميُّ: إنَّه (تولَّى الإمامةَ بَعدَ سعيدِ بنِ عبدِ اللهِ، وأخبارُه مجهولةٌ لقِلَّةِ التَّواريخِ) [973] ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص: 141). . وقد حاوَل أن يَصُدَّ جَيشَ الخلافةِ العبَّاسيَّةِ، ولكِنَّه انهزم ثُمَّ أمَّنَه العامِلُ العبَّاسيُّ، وبَعدَه بقليلٍ مات سَنةَ 342هـ، وانتهَت الإمامةُ ودخَلت عُمانُ في طاعةِ الدَّولةِ العبَّاسيَّةِ إلى سَنةِ 407هـ.
فبايع الإباضيَّةُ (الخليلَ بنَ شاذانَ)، وطُرِد عامِلُ الدَّولةِ العبَّاسيَّةِ هناك، واجتَمَعوا على طاعةِ الخليلِ إلى أنْ أُسِرَ من قِبَلِ العبَّاسيِّين، فاختاروا بَعدَه رجُلًا يُسَمَّى (محمَّدَ بنَ عَليٍّ)، ثُمَّ أطلق العبَّاسيُّون الخليلَ، فلمَّا عاد تنازَل له (محمَّدُ بنُ عَليٍّ) عن رِضًا، فاستمَرَّ الخليلُ حاكِمًا إلى سَنةِ وفاتِه في 435هـ.
فتولَّى بَعدَه (راشِدُ بنُ سعيدٍ) واجتَمَعوا على طاعتِه إلَّا ما كان من قبيلَتَي نَهدٍ وعقيلٍ، فإنَّهم ثاروا عليه، ولكِنَّه أخمَدَ ثورتَهم واستمَرَّ في الحُكمِ إلى أن تُوفِّيَ، فيُقالُ: إنَّهم بايعوا بَعدَه ابنَه حفصًا، واستمَرَّ من سَنةِ 445هـ إلى 453هـ، ولكِنْ محمَّدٌ السَّالِميُّ ينفي هذا تمامًا [974] يُنظر: ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص: 146). .
ثمَّ تولَّى بَعدَه أئمَّةٌ غيرُ مشهورينَ، ومنهم (راشِدُ بنُ عَليٍّ الخَروصيُّ) ولم يَرْضَ بعضُ العُلَماءِ عن سيرتِه، فطَلَبوا منه التَّوبةَ عن أعمالِه ففَعَل، فتولَّى بَعدَه (عامِرُ بنُ راشِدِ بنِ الوليدِ الخَروصيُّ)، وقد أحسَن القيامَ بأمورِ الحُكمِ إلى أن تُوفِّيَ.
فتولَّى بَعدَه (محمَّدُ بنُ غَسَّانَ بنِ عبدِ اللهِ الخَروصيُّ)، وقد استمَرَّ في الحُكمِ إلى أن تُوفِّيَ، والنَّاسُ مُجمِعون على طاعتِه.
فتولَّى بَعدَه (الخليلُ بنُ عبدِ اللهِ بنِ عُمَرَ بنِ محمَّدِ بنِ الخليلِ بنِ شاذانَ)، فنَقَل العاصمةَ إلى نَزْوى [975] مِنطقةٌ في عُمَانَ تَبعُدُ عن مَسقَطٍ أكثَرَ من 150 كيلومِترًا. ثُمَّ استمَرَّ في مقاتلةِ بني نَبهانَ إلى أن تُوفِّيَ.
ثمَّ تولَّى إمامةَ عُمانَ (محمَّدُ بنُ أبي غسَّانَ). وقد قال عنه السَّالميُّ: (أخبارُه قليلةٌ لم نَقِفْ على أيِّ شيءٍ منها مع شِدَّةِ البحثِ)  [976] ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص: 148). .
ثمَّ تولَّى بَعْدَه (موسى بنُ أبي المعالي بنِ نجادٍ)، التَقى مع محمَّدِ بنِ مالكٍ في معركةٍ قُتِل فيها موسى بنُ أبي المعالي، ثُمَّ تفرَّق النَّاسُ بَعدَه شِيَعًا وهان أمرُهم، كما قال السَّالميُّ، ثُمَّ تولى بَعدَه (خَنْبَشُ بنُ محمَّدِ بنِ هِشامٍ)، قال السَّالميُّ عنه: (لم نقِفْ على شيءٍ من أخبارِه)  [977] ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص: 148). .
هذا وقد ظَهَرت الفِتَنُ وافتراقُ الكَلِمةِ في عُمانَ، وتتابَع على البلادِ أُمَراءُ ضِعافٌ، ثُمَّ أرادوا العودةَ إلى الإمامةِ العامَّةِ، وفِعلًا تتابَعَ على عُمانَ عِدَّةُ أئمَّةٍ؛ منهم:
(الحواريُّ بنُ مالكٍ) من عامِ 809 إلى 832هـ.
(أبو الحَسَنِ بنُ خَميسِ بنِ عامرٍ) تولَّى 839هـ، وقد صادف بعضَ الفِتَنِ واستمَرَّ إلى أن تُوفِّيَ سَنةَ 846هـ.
ثمَّ تولَّى بَعدَ مدَّةٍ انقطعت فيها الإمامةُ (عُمَرُ بنُ الخَطَّابِ بنِ محمَّدٍ)، وقد بُويعَ عامَ 885هـ، وقد ثار عليه النَّباهِتةُ الذين كانوا ينافِسونه في أخذِ السُّلطةِ إلَّا أنَّه انتصر عليهم في معركةٍ، وبَعدَ وفاتِه توَلَّى (محمَّدُ بنُ إسماعيلَ الحاضِريُّ) سَنةَ 906هـ، فأحسَنَ السِّيرةَ وأحبَّتْه الرَّعيَّةُ وأرجعَ إلى البلادِ الأمنَ والهُدوءَ إلى أن تُوفِّيَ.
فبايع النَّاسُ بَعدَه ابنَه (بركاتَ بنَ محمَّدِ بنِ إسماعيلَ) سَنةَ 942هـ، فبدأ الاختلافُ فيما بَينَهم واقتتَلوا ولم يَعُدْ ذلك الهدوءُ السَّابقُ، واستمَرَّ بهم الأمرُ من سيِّئٍ إلى أسوأَ، وكَثُرت الفِتَنُ إلى أن تُوفِّيَ الإمامُ بركاتٌ، وظهر بَعدَه أُمَراءُ مَحَلِّيُّون ضِعافٌ لا هَمَّ لهم إلَّا تأكيدُ نفوذِهم والسَّيطرةُ على مُقَدَّراتِ النَّاسِ دونَ وَجهِ حَقٍّ  [978] ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص: 153- 154). .
وبَعدَ أن شَهِدت البلادُ بَعضَ الفِتَنِ والتَّحوُّلاتِ بَرَز أئمَّةُ اليَعارِبةِ الذين جعَلوا عُمانَ (أقوى دولةٍ في المحيطِ الهِنديِّ والخليجِ العَرَبيِّ، وكانت أساطيلُها الحربيَّةُ تحمي إمبراطوريَّةً كبيرةً)  [979] ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص: 153- 154). ، وعَظُم شَأنُهم واستَتَبَّ الأمنُ.
يقولُ لُورِيمَرُ: (تميَّز عهدُ اليَعاربةِ على العُمومِ بأنَّه كان عَهدَ أمنٍ داخِليٍّ ورخاءٍ ازدادت فيه الثَّروةُ وانتصر التَّعليمُ، كما تميَّز أيضًا بازديادٍ هائلٍ ومفاجئٍ في القوَّةِ البَحريَّةِ أدَّت بالعُمانِيِّين إلى القَرْصَنةِ والدُّخولِ في حروبٍ خاطفةٍ غيرِ مُنتَظِمةٍ، ابتداءً من سَنةِ 1677م)، وقد أفاض المؤلِّفُ بذِكرِ مقدارِ قُوَّتِهم الحربيَّةِ ذاكِرًا لها بالأرقامِ  [980] يُنظر: ((دليل الخليج)) (2/637). .
وأوَّلُ أئمَّةِ اليعاربةِ هو:
(ناصِرُ بنُ مُرشِدٍ اليَعرُبيُّ): تولَّى الإمامةَ والبلادُ في حالةٍ من الفوضى فوَجَّهَ اهتمامَه إلى بناءِ الجَبهةِ الدَّاخليَّةِ، فأحكَمَ قَبضَتَه على البلادِ، (وبمجَرَّدِ انتخابِه لتولِّي الإمامةِ في سَنةِ 1625 أحال هذا المنصِبَ من مجرَّدِ ظِلٍّ باهتٍ كما كان، إلى حقيقةٍ ماثِلةٍ بالقُوَّةِ)  [981] ((دليل الخليج)) (2/633). ، ثُمَّ وجَّه اهتمامَه إلى تدخُّلِ البُرتغاليِّين والفُرسِ في بلادِه، فجَهَّز لهم جيشًا انتصر عليهم واسترَدَّ منهم بالقُوَّةِ مِنطَقةَ جُلَّفارٍ (وأخضَع الأقاليمَ الدَّاخليَّةَ بما فيها الشَّرقيَّةُ).
ولم يَبْقَ لهم إلَّا مَسقَطٌ وصُحَارٌ أتمَّ تحريرَهما خَلْفَه الإمامُ (سُلطانُ بنُ سَيفٍ اليَعرُبيُّ)، ووسَّع نفوذَه فاستولى على سواحِلِ الهِندِ الغربيَّةِ وكَنْجٍ، وافتَتَح مُمْباسةَ وكِلْوةَ وزِنْجِبارَ، وهي من سواحِلِ أفريقيا الشَّرقيَّةِ، والتَحَم مع البُرتغاليِّينَ في معارِكِ السَّاحِلِ الهِنديِّ في بُومْباي، وكوَّن إمبراطوريَّةً كبيرةً إلى أن تُوفِّيَ.
فخَلَفَه ابنُه (بَلْعَربِ بنُ سُلطانَ اليَعرُبيُّ) فاتَّجه اهتمامُه إلى الإصلاحاتِ الدَّاخليَّةِ، فبنى الحُصونَ والقلاعَ وغَرَس الأشجارَ وأحيا مَواتَ الأرضِ، إلى أن ثار عليه أخوه (سيفُ بنُ سُلطانٍ)، فأحكم قَبضَتَه على البلادِ، ووسَّع نفوذَه وقَوِيَ أمرُه، وأنشأ بعضَ الإصلاحاتِ الدَّاخليَّةِ، كالزِّراعةِ وتربيةِ المواشي.
إلى أن تُوفِّيَ فخَلَفَه (سُلطانُ بنُ سَيفِ بنِ سُلطانَ اليَعرُبيُّ)، وقد دام حكمُه سَبعَ سَنَواتٍ حارَب خلالَها الفُرسَ، وانتصر عليهم في مواقِعَ كثيرةٍ، واهتَمَّ بالإصلاحاتِ الدَّاخليَّةِ والعُمرانِ، يقولُ عنه السَّالميُّ: (لقد هَمَّ أن يجعَلَ عُمانَ كجَنَّتَي مَأرِبٍ، فحال الحِمامُ بَينَه وبَينَ ما يؤمِّلُ، والآجالُ تَقطَعُ الآمالَ)  [982] ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص: 160). .
وبَعدَ وفاتِه خَلَفَه صَبيٌّ مُراهِقٌ يُسَمَّى (سِيفا) فأرادت العامَّةُ أن يتولَّى الإمامةَ هو، ولكِنَّ العُلَماءُ رَأوا أنَّه لا يجوزُ توليتُه ما دام في هذا السِّنِّ، فوَلَّوا سِرًّا عن العامَّةِ رَجُلًا له قُوَّةٌ في الحُكمِ إلَّا أنَّه ليس من العُلَماءِ، ولكِنَّه كان تحتَه قَبضةُ العُلَماءِ؛ فلا يُمضي أمرًا إلَّا بَعدَ أخذ رأيِهم فيه، هذا الرَّجُلُ هو (مُهَنَّا بنُ سُلطانَ بنِ ماجِدٍ اليَعرُبيُّ)، وصرفوا العامَّةَ بالمُداراةِ، ولبث هذا سَنةً في الحُكمِ، ثُمَّ ثار عليه (يَعرُبُ بنُ بَلْعَرَبِ بنِ سُلطانَ اليَعرُبيُّ) سَنةَ 1133هـ، فاستقام له الأمرُ مُؤَقَّتًا، ثُمَّ انفَتَحت عليه الفِتَنُ وتفَرَّق النَّاسُ عنه وأُرغِمَ على التَّنازُلِ عن الحُكمِ إلى الإمامِ (سَيفِ بنِ سُلطانَ بنِ سَيفٍ اليَعرُبيِّ) سَنةَ 1135هـ، وكان صغيرَ السِّنِّ، ثُمَّ رأوا أن يَعزِلوه، فعُزِل.
ثمَّ تولَّى الأمرَ (محمَّدُ بنُ ناصرٍ العامِريُّ)، وهذا لَقِيَ مَن ثار عليه أيضًا فقُتِل، فرَجَع سيفٌ إلى الحُكمِ، وهكذا دخَلوا في فوضى وتفَرُّقٍ.
إلى أن جاء حُكمُ البُوسَعيديِّينَ فتعاقَبوا على الحُكمِ، وكان المؤسِّسُ الأوَّلُ لحُكمِهم هو الإمامَ (أحمَدَ بنَ سَعيدٍ)، كان واليًا من قِبَلِ الإمامِ سَيفٍ على صُحارٍ. هذا ما قاله السَّالِميُّ عنه، ولكِنَّ لُورِيمَرَ يقولُ عنه: إنَّه كان تاجِرًا، وقد وضع الإمامُ سَيفٌ ثِقتَه فيه  [983] ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص: 163، 165). . وكان هذا الرَّجُلُ عاليَ الهِمَّةِ قلَّما تحينُ الفُرصةُ إلَّا وينتَهِزُها لصالحِه، وكان الفُرسُ هم العَقَبةَ الوحيدةَ أمامَه، فعقَد معهم معاهَدةً، فلمَّا اشتَدَّ ساعِدُه بدأ بالفُرسِ، فأقام وليمةً كبيرةً دعاهم لحضورِها، وفي أثنائِها ألقى عليهم القبضَ وقتَلَهم ثُمَّ أجبَرَ الحاميةَ الفارسيَّةَ في مَسقَطٍ على الاستسلامِ، فقَتَل منهم الضُّبَّاطَ وكِبارَ رجالِهم، وأرسل الباقينَ في سُفُنٍ إلى إيرانَ مخفورينَ، وفي أثناءِ سَيرِهم أكمَلَ بهم الجنودُ الباقيَ فأغرَقوا بهم المراكِبَ ورجعوا.
ولا تزالُ نفسُه تتطَلَّعُ إلى مزيدٍ من الانتصاراتِ إلَّا أنَّه واجَهَ مُشكِلةً كبيرةً، وهي تصَدِّي (بَلْعَرَبِ بنِ حِمْيَرٍ اليَعرُبيِّ) لمحاربتِه؛ فقد كان هذا الأخيرُ قد عَيَّن نفسَه إمامًا، وعندما سمِعَ بأنَّ أحمَدَ بنَ سَعيدٍ نُصِبَ إمامًا أعَدَّ جيشًا لإخضاعِه، فتحَصَّن منه أحمدُ بنُ سعيدٍ في قلعةٍ صغيرةٍ بالجبالِ، وقد رأى من فطنتِه أن يخرُجَ متسَلِّلًا في زِيِّ أعرابيٍّ يقودُ الجِمالَ، فاتَّصَل بأتباعِه فاجتَمَع له منهم بِضعُ مِئاتٍ، ثُمَّ قادهم إلى جيشِ بَلْعَربِ المحاصِرِ، فما شَعَروا إلَّا والطُّبولُ تَضرِبُ من كُلِّ جِهةٍ، فاندَهَش بَلْعَرَبِ وظَنَّ أنَّه قد حُوصِرَ من قِبَلِ جَيشٍ غازٍ قَويٍّ فهرَب، ولكِنَّه وقع في قبضةِ أحَدِ أبناءِ عَمِّ أحمدَ، فذبحَه فصفا الجوُّ لأحمدَ بنِ سعيدٍ، ولم يَقُمْ أحدٌ لمنافستِه، فما مات إلَّا وقد سيطَرَ سَيطرةً مُطلَقةً على جميعِ أجزاءِ عُمانَ  [984] يُنظر: ((دليل الخليج)) (2/642)، وقد فصَّل المؤلِّفُ أخبارَه في (ص: 644-657). .
ويقولُ السَّالميُّ عنه: (وقد أصدَر القاضي -يعني به مُفتيَ عُمانَ آنذاك- قرارًا يُعلِنُ فيه أنَّ أحمَدَ هو مُنقِذُ البلادِ، ويَستَحِقُّ أن يُرفَعَ ليكونَ إمامًا للمُسلِمين، وفِعلًا أصبح أحمدُ بنُ سعيدٍ إمامَ عُمانَ الفِعليَّ وحاكِمَها المُطلَقَ)  [985] ((عمان تاريخ يتكلم)) (ص: 164). .
وما جاء بَعدَه من أسرتِه فإنَّهم في نَظَرِ الإباضيَّةِ ليسوا أئمَّةً، وإنَّما هم سلاطينُ؛ إذ إنَّ الحُكمَ أصبح بَعدَ أحمَدَ بنِ سعيدٍ وراثيًّا، وهو الأمرُ الذي يُبطِلُ الإمامةَ عِندَهم.
وقد قام الإمامُ (عِزَّانُ بنُ قيسٍ) بمحاولةٍ لإرجاعِ البلادِ إلى حُكمِ الإمامةِ الذي غاب عنها زمَنًا، وقد شَدَّ أَزْرَه عُلَماءُ البلادِ بما أوحوا به إلى العامَّةِ من الاستبشارِ ووُجوبِ نُصرتِه، فاجتمَع له من القبائلِ من استجاب له، فبدأ محاولَتَه لضَمِّ أجزاءِ عُمانَ إلى إمامتِه.
قال لُورِيمَرُ عن عُلُوِّ كَلِمةِ العُلَماءِ الإباضيَّةِ في عهدِ عِزَّانَ، ومنهم سعيدُ بنُ خَلْفانَ كبيرُ عُلمائِهم ومُقَدَّمُهم عِندَ الإمامِ: (أضفى سعيدُ بنُ خَلفانَ على حكومةِ عِزَّانَ طابَعًا دينيًّا مُسرِفًا في التَّعصُّبِ، فاستبدَلَ عَلَم عُمانَ الأحمَرَ من قديمِ الزَّمانِ بعَلَمِ المطاوَعةِ الأبيضِ، ومَنَع التَّدخينَ وشُرْبَ الخَمرِ، ومَنَع الاستماعَ إلى الأغاني والموسيقى بجميعِ ألوانِها، وألزم أهلَ مَسقَطٍ جميعًا بالاختلافِ إلى المساجِدِ بانتظامٍ، وصَدَرت إليهم التَّعليماتُ باتِّباعِ السُّنَّةِ في تربيةِ الذُّقونِ، وحَفِّ الشَّواربِ)  [986] ((دليل الخليج)) (2/748). .

انظر أيضا: