موسوعة الفرق

المَطلَبُ الأوَّلُ: التَّكفيرُ كُفرَ مِلَّةٍ


إنَّ القَولِ بتكفيرِ مُرتَكِبي كبائِرِ الذُّنوبِ كُفرَ مِلَّةٍ، أي: أنَّهم خارِجون عن الإسلامِ ومخَلَّدون في النَّارِ مع سائِرِ الكُفَّارِ: هو رأيُ أكثريَّةِ الخَوارِجِ [460] يُنظر: ((الخوارج تاريخهم وآراؤهم الاعتقادية)) لعواجي (ص: 336). .
قال الأشعَريُّ: (أجمَعوا على أنَّ كُلَّ كبيرةٍ كُفرٌ إلَّا النَّجَداتِ؛ فإنَّها لا تقولُ ذلك) [461] ((المقالات)) (1/167). .
وقال البَغداديُّ: (الصَّوابُ ما حكاه شَيخُنا أبو الحسَنِ عنهم، وقد أخطأ الكعبيُّ في دعواه إجماعَ الخَوارِجِ على تكفيرِ مُرتَكِبي الذُّنوبِ منهم) [462] ((الفَرْق بين الفِرَق)) (ص: 73). .
وعلى هذا الرَّأيِ من فِرَقِ الخَوارِجِ: الأزارِقةُ، والعَجارِدةُ، والمُكَرِّميَّةُ، والمُحَكِّمةُ، والشَّبيبيَّةُ من البَيْهَسيَّةِ والنَّجَداتِ، وغيرُهم.
أمَّا الأزارِقةُ فقد قال الأشعَريُّ عنهم: (الأزارِقةُ تقولُ: إنَّ كُلَّ كبيرةٍ كُفرٌ... وإنَّ كُلَّ مُرتَكِبِ مَعصيةٍ كبيرةٍ ففي النَّارِ خالِدًا مخلَّدًا) [463] ((المقالات)) (1/170). .
وقال الشَّهْرَسْتانيُّ: (اجتمَعَت الأزارِقةُ على أنَّ من ارتكَب كبيرةً من الكبائِر كَفرَ كُفرَ مِلَّةٍ خرج به عن الإسلامِ جُملةً، ويكونُ مخلَّدًا في النَّارِ مع سائِرِ الكُفَّارِ) [464] ((المِلَل والنِّحَل)) (1/122). .
وهذا هو ما يَذكُرُه عنهم غيرُهم [465] يُنظر: ((التنبيه والرد)) للمَلَطي (ص: 54)، ((الفصل)) لابن حزم (4 /45)، ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 95)، ((قواعد الإسلام)) للجِيطالي (ص: 37)، ((الإيمان)) لابن تيمية (ص: 202)، ((إبانة المناهج)) لابن أبي يحي (ص: 163). .
وذكَر الشَّهْرَسْتانيُّ أنَّ العَجارِدةَ أيضًا كالأزارقةِ، يُكَفِّرون أهلَ الكبائِرِ، إلَّا أنَّه لم يُبَيِّنْ نوعَ الكُفرِ الذي يقولون به [466] يُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) (1/138). ، إلَّا أنَّ صاحِبَ كتابِ (الأديان) الإباضيَّ يَذكُرُ أنَّ رأيَ العَجارِدةِ هذا ورأيُ أهلِ الاستقامةِ -ويعني بهم الإباضيَّةَ- واحِدٌ، وهو الحُكمُ على مُرتَكِبِ الكبيرةِ بأنَّه كافِرٌ كُفرَ نِعمةٍ وليس كُفرَ مِلَّةٍ يخرجُ به من الإسلامِ [467] ((الأديان)) (ص: 104). .
ومن الفِرَقِ الأخرى التي توافِقُ الأزارقةَ أيضًا في الحُكمِ على مُرتَكِبِ الكبيرةِ بأنَّه كافِرٌ: المُكَرِّميَّةُ، إلَّا أنَّهم يختَلِفون عنهم في سَبَبِ كُفرِه، فعند المُكَرِّميَّةِ أنَّ كُفرَه ليس من حيثُ تركُه للواجباتِ التي أمر اللهُ بها، أو ارتكابُه للمحظوراتِ، بل من حيثُ أنَّه جَهِل حَقَّ اللهِ عليه، فلم يَقدُرْه حَقَّ قَدْرِه، وذلك في كُلِّ كبيرةٍ يرتكِبُها، بينما هو عِندَ الأزارقةِ كافِرٌ بسبَبِ ما ارتكب من محظوراتٍ.
قال الأشعَريُّ عن رأيِ المُكَرمِّيَّةِ هذا: (ممَّا تفرَّدوا به أنَّهم زعموا أنَّ تارِكَ الصَّلاةِ كافرٌ، وليس هو مِن قِبَلِ تَركِه الصَّلاةَ كَفَر، ولكِنْ مِن قِبَلِ جَهلِه باللهِ، وكذلك قالوا في سائرِ الكبائرِ، وزعَموا أنَّ من أتى كبيرةً فقد جَهِل اللهَ سُبحانَه وتعالى، وبتلك الجهالةِ كَفَر لا بركوبِه المَعصيةَ) [468] يُنظر: ((المقالات)) (1/182). . وكذلك نقَل عنهم البَغداديُّ والشَّهْرَسْتانيُّ وابنُ حزمٍ [469] يُنظر: ((الفَرْق بين الفِرَق)) (ص: 103)، ((المِلَل والنِّحَل)) (1/133)، ((الفصل)) (4/191). .
ولم يكُنِ الأزارقةُ هم أوَّلَ من كَفَّر مُرتَكِبَ المعاصي من الخَوارِجِ، بل إنَّ ذلك الحُكمَ عِندَ المُحَكِّمةِ الأولى الذين يُسَمِّيهم المَلَطيُّ بالشُّراةِ، ويَذكُرُ عنهم أنَّهم يُكَفِّرون أهلَ الكبائرِ والمعاصي، ولكِنْ لم يشتَهِرِ القولُ بتكفيرِ المُحَكِّمةِ لأهلِ الذُّنوبِ كاشتِهارِه عِندَ الأزارقةِ.
قال المَلَطيُّ: (الشُّراةُ كُلُّهم يُكَفِّرون أصحابَ المعاصي ومَن خالفهم في مَذهَبِهم، مع اختلافِ أقاويلِهم ومذاهِبِهم) [470] ((التنبيه والرد)) (ص: 51). .
ومِثلُ هذا عِندَ البَغداديِّ أيضًا؛ فقد ذَكَر عن المُحَكِّمةِ الأولى أنَّهم يُكَفِّرون أهلَ الكبائِرِ، وخيارَ الصَّحابةِ رضوانُ اللهِ عليهم، بقولِه: (فهذه قِصَّةُ المُحَكِّمةِ الأولى، وكان دينُهم إكفارَ عليٍّ وعُثمانَ، وأصحابِ الجَمَلِ، ومُعاويةَ وأصحابِه، والحَكَمَينِ، ومن رَضِيَ بالتَّحكيمِ، وإكفارَ كُلِّ ذي ذَنبٍ ومعصيتِه) [471] ((الفَرْق بين الفِرَق)) (ص: 81). .
وتكفيرُ أهلِ الذُّنوبِ هو رأيُ الشَّبيبيَّةِ من البَيْهسيَّةِ أيضًا، إلَّا أنَّها غالت فيه، فحَكَمت بالكُفرِ على من اجتَرَح ذنبًا ولو كان جاهلًا الحُكمَ فيه، فقالوا: إنَّ مَن (واقَعَ حرامًا لم يعلَمْ تحريمَه، فقد كَفَر) [472] ((المِلَل والنِّحَل)) للشهرستاني (1/127). . ونجِدُ نحوَ تلك المقالاتِ عِندَ يزيدَ بنِ أنيسةَ وأصحابِه؛ حيثُ يُكَفِّرون كُلَّ مُذنبٍ حتَّى مُرتَكِبَ الصَّغيرةِ، فعنده أنَّ أصحابَ الحُدودِ من مُوافِقيه وغيرِهم كُفَّارٌ مُشرِكون، وكُلُّ ذنبٍ صغيرٍ أو كبيرٍ فهو شِركٌ [473] يُنظر: ((رسالة الدبسي)) للدبسي (ص: 28)، ((المِلَل والنِّحَل)) للشهرستاني (1/136). .
أمَّا النَّجَداتُ فقد فصَّلوا القولَ في مُرتَكِبِ الذُّنوبِ وجزائِه، وذلك باختلافِ حالَيه: الإصرارِ على الذَّنبِ، وعَدَمِه؛ فهم يَرَون أنَّ من ارتكب من المعاصي شيئًا وهو مُصِرٌّ عليه، فهو كافرٌ مُشرِكٌ، ولو كانت هذه المعاصي من صغائرِ الذُّنوبِ، وأنَّ من ارتكب من تلك المعاصي شيئًا وهو غيرُ مُصِرٍّ عليه، فهو مُسلِمٌ، ولو كانت هذه المعاصي من كبائرِ الذُّنوبِ، كالزِّنا والسَّرِقةِ وشُربِ الخُمورِ وغَيرِها.
قال الأشعَريُّ: (وزعَموا أنَّ من نظَر نظرةً صغيرةً أو كذَب كَذبةً صغيرةً، ثُمَّ أصرَّ عليها، فهو مُشرِكٌ، وأنَّ من زنى وسرَق وشَرِب الخمرَ غيرَ مُصِرٍّ، فهو مُسلِمٌ) [474] ((المقالات)) (1/175). . وكذا عِندَ البَغداديِّ وابنِ حَزمٍ والشَّهْرَسْتانيِّ [475] يُنظر: ((الفَرْق بين الفِرَق)) (ص: 89)، ((الفصل)) (4/190)، ((المِلَل والنِّحَل)) (1/124). .
ولهم تفصيلٌ آخَرُ بالنِّسبةِ لمُرتَكِبي الذُّنوبِ إذا كانوا من مُوافِقيهم أو مُخالِفيهم، وهو أنَّ مُرتَكِبَ الكبيرةِ إذا كان منهم فهو غيرُ كافرٍ، بل هو من أهلِ الولايةِ. وإذا كان من مُخالِفيهم فهو كافرٌ من أهلِ النَّارِ، ثُمَّ زعَموا أنَّ مُوافِقيهم إن عَذَّبهم اللهُ فلعَلَّه يُعَذِّبُهم بذنوبِهم في غيرِ نارِ جَهنَّمَ، ثُمَّ يدخِلُهم الجنَّةَ.
قال الأشعَريُّ: (تولَّوا أصحابَ الحُدودِ والجناياتِ من موافِقيهم، وقالوا: لا ندري لعلَّ اللهَ يُعَذِّبُ المُؤمِنين بذُنوبِهم، فإن فعل فإنَّما يُعَذِّبُهم في غيرِ النَّارِ بقَدْرِ ذُنوبِهم، ولا يُخَلِّدُهم في العذابِ، ثُمَّ يُدخِلُهم الجنَّةَ) [476] ((المقالات)) (1/175). . وبنحوِ هذا قال البَغداديُّ والشَّهْرَسْتانيُّ عنهم [477] يُنظر: ((الفَرْق بين الفِرَق)) (ص: 89)، ((المِلَل والنِّحَل)) (1/124). .
وقال ابنُ حزمٍ عن أولئك النَّجَداتِ: (قالوا: أصحابُ الكبائرِ منهم ليسوا كُفَّارًا، وأصحابُ الكبائِرِ مِن غَيرِهم كُفَّارٌ) [478] ((الفصل)) (4/190). .
هذا بالنِّسبةِ لارتكابِ الكبائرِ، أمَّا الصَّغائِرُ فلا يُكَفِّرون بها ما دام العَبدُ غيرَ مُصِرٍّ عليها. قال عنهم الجَيطاليُّ: (قالت النَّجديَّةُ منهم: الكبائِرُ كُلُّها شِركٌ، وأمَّا الصَّغائرُ فلا) [479] ((قواعد الإسلام)) (ص: 37). .
ومِثلُ هذه التَّفِرقةِ في حُكمِ مُرتَكِبِ الكبيرةِ بَينَ من يكونُ من الخَوارِجِ ومن يكونُ مِن غيرِهم نجِدُها عِندَ الحُسَينيَّةِ، وهم من إباضيَّةِ المغرِبِ، فيُرجِئون الحُكمَ في موافِقيهم، وأمَّا مُخالِفوهم المُرتَكِبون للكبائِرِ فهم عِندَهم كُفَّارٌ مُشرِكون، وهذا هو ما يرويه الأشعَريُّ عن اليمانِ بنِ رَبابٍ من أنَّ الحُسَينيَّةَ يقولون (بالإرجاءِ في مُوافِقيهم خاصَّةً، كما حُكيَ عن نَجْدةَ، ويقولون فيمن خالَفهم: إنَّهم بارتكابِ الكبائرِ كُفَّارٌ مُشرِكون) [480] ((المقالات)) (1/198). .
وكأنَّهم بهذا الحُكمِ الخاطِئِ يحاكون اليهودَ والنَّصارى فيما ذكَره اللهُ عنهم بقولِه تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ وَالنَّصَارَى نَحْنُ أَبْنَاءُ اللَّهِ وَأَحِبَّاؤُهُ [المائدة: 18] ، فهذا من اتِّباعِ الهوى والأمانيِّ الباطِلةِ.
ورَغْمَ ما تَقدَّم من أقوالِ مُؤرِّخي الفِرَقِ من أنَّ النَّجَداتِ يُكَفِّرون أهلَ الكبائرِ، إلَّا أنَّ هناك رواياتٍ تخالِفُ ما ذُكِر عنهم، وهو أنَّهم لا يُكَفِّرون صاحِبَ الكبيرةِ، أو يُكَفِّرونه لكِنْ كُفرَ نعمةٍ لا كُفرَ مِلَّةٍ، على نحوِ ما تقولُه الإباضيَّةُ.
وهذا ما أشار إليه الطَّالبيُّ بقولِه: (وأمَّا النَّجَداتُ فيُروى عنهم أنَّهم لا يُكَفِّرون صاحِبَ الكبيرةِ، وأنَّهم لا يُكَفِّرون عَليًّا) [481] ((آراء الخوارج)) (ص: 142) عن ((منهج المعارج)) للعامري (ص: 350). .
وقد ذكَر البَغداديُّ عنهم تكفيرَهم لمُرتَكِبي الكبيرةِ كُفرَ نِعمةٍ، فقال: (وقالت النَّجَداتُ منهم: إنَّه يعني صاحِبَ الكبيرةِ كافِرٌ بنعمةٍ، وليس بمُشرِكٍ) [482] ((أصول الدين)) (ص: 250). .
وهذا القولُ قاله البَغداديُّ في كتابِه (أصولُ الدِّينِ) بينما ذكَر في كتابِه (الفَرْقُ بَينَ الفِرَقِ) أنَّ المُصِرَّ على الذَّنبِ يكونُ مُشرِكًا، وإنْ صَغُر هذا الذَّنبُ.
وكما فَرَّق القائِلون بتكفيرِ مُرتَكِبي الذُّنوبِ بَينَ مُرتَكِبِ الكبيرةِ أو الصَّغيرةِ، وكذلك بَيْنَ مَن كان مُصِرًّا ومَن لم يكُنْ كذلك، إلى غيرِ ذلك من الاعتباراتِ السَّابقةِ، فإنَّ هناك مِن أصحابِ هذا الرَّأيِ مَن يُفَرِّقون في هذا الحُكمِ بحَسَبِ اعتباراتٍ أخرى؛ فالصُّفْريَّةُ كغيرِهم من الفِرَقِ السَّابقةِ يَرَون أهلَ الذُّنوبِ كُفَّارًا، كما قال الأشعَريُّ: (ومِن قَولِ الصُّفْريَّةِ وأكثَرِ الخَوارِجِ أنَّ كُلَّ ذَنبٍ مُغَلَّظٍ كُفْرٌ، وكُلَّ كُفرٍ شِرْكٌ، وكُلَّ شِركٍ عِبادةٌ للشَّيطانِ) [483] ((المقالات)) (1/196). ، ونحوُه عِندَ البَغداديِّ والجيطاليِّ [484] يُنظر: ((الفَرْق بين الفِرَق)) (ص: 91)، ((قواعد الإسلام)) (ص: 39). ، لكِنَّ قومًا من الصُّفْريَّةِ يَذهَبون إلى التَّفِرقةِ بَينَ مَن ارتكب ذنبًا فحُدَّ عليه، وحينَئذٍ يَكْفُرُ، أو لم يُحَدَّ عليه، فيبقى على الإيمانِ إلى أن يُحَدَّ، وهذا ما يرويه الأشعَريُّ حكايةً عن اليمانِ بنِ رَبابٍ الخارِجيِّ بأنَّ قومًا من الصُّفْريَّةِ وافقوا بعضَ البَيْهَسيَّةِ على أنَّ كُلَّ من واقَع ذنبًا عليه حرامٌ لا يُشهَدُ عليه بأنَّه كَفَر حتَّى يُرفَعَ إلى السُّلطانِ ويُحَدَّ عليه، فإذا حُدَّ عليه فهو كافِرٌ، إلَّا أنَّ البَيْهَسيَّةَ لا يُسَمُّونهم مُؤمِنين ولا كافِرين حتَّى يُحكَمَ عليهم. وهذه الطَّائفةُ من الصُّفْريَّةِ يُثبِتون لهم اسمَ الإيمانِ حتَّى تقامَ عليهم الحدودُ. وهكذا عِندَ البَغداديِّ [485] يُنظر: ((المقالات)) (1/197)، ((الفَرْق بين الفِرَق)) (ص: 91). .
ويَنظُرُ بعضُ الصُّفْريَّةِ في الحُكمِ بالتَّكفيرِ إلى العَمَلِ نَفسِه، فإن وُجِد له حَدٌّ في كتابِ اللهِ تعالى، كالزِّنا والسَّرِقةِ والخَمرِ والقَتلِ، فلا يُسَمَّى صاحِبُه إلَّا بذلك الاسمِ، فيقالُ له: زانٍ وسارِقٌ وشارِبُ خَمرٍ وهكذا، وحُكمُه أنَّه غيرُ كافرٍ، ولكِنَّه ليس بمُؤمِنٍ أيضًا، وفي هذا رَفعٌ للنَّقيضَينِ كما لا يخفى. وإذا لم يُوجَدْ له حَدٌّ مُبَيَّنٌ في كتابِ اللهِ تعالى، كتَركِ الصَّلاةِ والحَجِّ والصَّومِ ونحوِ ذلك، فمُرتَكِبُه كافرٌ وليس بمُؤمِنٍ كذلك.
قال البَغداديُّ: (قد زعَمَت فِرقةٌ من الصُّفْريَّةِ أنَّ ما كان من الأعمالِ عليه حدٌّ واقِعٌ لا يُسَمَّى صاحِبُه إلَّا بالاسمِ الموضوعِ له، كزانٍ وسارقٍ وقاذفٍ وقاتلِ عَمدٍ، وليس صاحِبُه كافرًا ولا مُشرِكًا، وكُلُّ ذنبٍ ليس فيه حَدٌّ، كتركِ الصَّلاةِ والصَّومِ- فهو كُفرٌ، وصاحِبُه كافِرٌ، وأنَّ المُؤمِنَ المُذنِبَ يَفقِدُ اسمَ الإيمانِ في الوجهَينِ جميعًا) [486] ((الفَرْق بين الفِرَق)) (ص: 91). . ونحوُ هذا عِندَ ابنِ حزمٍ والشَّهْرَسْتانيِّ [487] يُنظر: ((الفصل)) (4/191)، ((المِلَل والنِّحَل)) (1/137). .
وفيما يتعَلَّقُ بالبَيْهَسيَّةِ فإنَّهم يرَونَ أنَّ أهلَ الذُّنوبِ مُشرِكون، ومِثلُهم من جَهِل الدِّينَ، إلَّا في ذنبٍ لم يحكُمِ اللهُ فيه بتغليظِ عذابِ فاعِلِه، فهذا مغفورٌ. والتَّائبون من الذُّنوبِ في مواضِعِ الحدودِ المقرُّون على أنفُسِهم بارتكابِها هؤلاء مُشرِكون كَفَرةٌ أيضًا؛ لأنَّ الحدودَ عِندَهم لا تقَعُ إلَّا على كافرٍ معلومِ الكُفرِ، وبإقرارِه وتوبتِه عُلِمَ كُفرُه حينذاك، وهذا من أغرَبِ ما يكونُ، أي: أن نحكُمَ على الشَّخصِ حينَ يُعلِنُ توبتَه!
قال الأشعَريُّ: (قالت البَيْهَسيَّةُ: النَّاسُ مُشرِكون بجَهلِ الدِّينِ، مُشرِكون بمواقَعةِ الذُّنوبِ، وإن كان ذَنبٌ لم يحكُمِ اللهُ فيه حُكمًا مُغَلَّظًا، ولم يوقِفْنا على تغليظِه، فهو مغفورٌ... وقالوا: التَّائبُ في موضِعِ الحدودِ وفي موضِعِ القِصاصِ والمُقِرُّ على نفسِه، يَلزَمُه الشِّرْكُ إذا أقَرَّ من ذلك بشيءٍ وهو كافِرٌ؛ لأنَّه لا يُحكَمُ بشيءٍ من الحدودِ والقِصاصِ إلَّا على كُلِّ كافرٍ يُشهَدُ عليه بالكُفرِ عِندَ اللهِ) [488] ((المقالات)) (1/295). ويُنظر: ((الفَرْق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 109). .
ويقابِلُ هذا التَّشدُّدَ منهم تساهُلٌ وتسامُحٌ مع السُّكارى، حتَّى كان السَّكرانُ حينَ يرتَكِبُ جريمةَ سُكرٍ تَسقُطُ عنه جميعُ التَّكاليفِ الشَّرعيَّةِ، وجميعُ ما يَصدُرُ عنه في تلك الحالِ مِن آثامٍ، (وكُلُّ ما كان في السُّكرِ مِن تَركِ الصَّلاةِ، أو شَتمِ اللهِ سُبحانَه، فهو موضوعٌ لا حَدَّ فيه ولا حُكمَ، ولا يَكفُرُ أهلُه بشيءٍ من ذلك ما داموا في سُكرِهم) [489] يُنظر: ((المقالات)) للأشعري (1/195). ويُنظر: ((الفَرْق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 109). . إلَّا أنَّ طائفةً منهم تُسَمَّى العوفيَّةَ تقولُ: (السُّكرُ كُفرٌ إذا كان معه غيرُه مِن تَركِ الصَّلاةِ ونحوِه) [490] يُنظر: ((الفَرْق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 109). ويُنظر: ((المِلَل والنِّحَل)) للشهرستاني (1/127). .
وبعضُ البَيْهَسيَّةِ يقولون: (مَن واقَعَ زِنًا لم نشهَدْ عليه بالكُفرِ حتَّى يُرفَعَ إلى الإمامِ أو الوالي ويُحَدَّ) [491] يُنظر: ((المقالات)) للأشعري (1/194). . وقَبْلَ الرَّفعِ إلى الإمامِ أو الوالي يبقى حُكمُه مُعَلَّقًا لا مُؤمِنًا ولا كافِرًا، والبَغداديُّ يَنسُبُ هذا الرَّأيَ لكُلِّ البَيْهَسيَّةِ [492] يُنظر: ((الفَرْق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 109)، ((المِلَل والنِّحَل)) للشهرستاني (1/127). .
وهذا خِلافٌ لما عليه المُسلِمون، فإنَّ وقوعَ الحَدِّ على المذنِبِ وخصوصًا التَّائِبَ المُقِرَّ بذنبِه يجعَلُه في عِدادِ التَّائبين الذين عفا اللهُ عنهم، كما قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في حَقِّ ماعِزٍ: ((لقد تاب توبةً لو قُسِمَت بَينَ أمَّةٍ لوَسِعَتْهم )) [493] رواه مُسلِم (1695) من حديثِ بُرَيدةَ بنِ الحُصَيبِ الأسلَميِّ رَضِيَ اللهُ عنه. وفي حَقِّ الغامِديَّةِ قال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ لعُمَرَ رَضيَ اللهُ عنه حينَ سأله عن الصَّلاةِ عليها: ((لقد تابت توبةً لو قُسِمَت بَينَ سبعينَ من أهلِ المدينةِ لوَسِعَتْهم )) [494] رواه مُسلِم (1696) من حديثِ عِمرانَ بنِ حُصَينٍ رَضِيَ اللهُ عنه. وقال عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ في بيانِ أنَّ الحُدودَ كَفَّارةٌ لِمَن وقعت عليه: ((بايِعوني على ألَّا تُشرِكوا باللهِ شيئًا، ولا تَسرِقوا ولا تَزْنوا... فمَن وفى منكم فأجْرُه على اللهِ، ومن أصاب من ذلك شيئًا فعُوقِبَ به فهو كفَّارتُه، ومن أصاب من ذلك شيئًا فستَرَه اللهُ عليه، إن شاء غَفَر له وإن شاء عَذَّبه )) [495] رواه البخاري (6784) واللَّفظُ له، ومُسلِم (1709) من حديثِ عُبادةَ بنِ الصَّامِتِ رَضِيَ اللهُ عنه. .
ولا يُستبعَدُ منهم هذا التَّشدُّدُ والتَّنطُّعُ؛ فقد خالفوا ما قرَّره القرآنُ في بعضِ الأحكامِ، فبينما اللهُ تعالى يقولُ: وَلَا تَزِرُ وَازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرَى [فاطر: 18] ، إذا بهم يُقَرِّرون أنَّه إذا كَفَر الإمامُ كفَرَت الرَّعيَّةُ [496] يُنظر: ((المقالات)) للأشعري (1/194)، ((الفَرْق بين الفِرَق)) للبغدادي (ص: 109)، ((المِلَل والنِّحَل)) للشهرستاني (1/126). .
ويجدُرُ في نهايةِ سياقِ آراءِ الخَوارِجِ القائِلين بتكفيرِ العُصاةِ بيانُ أنَّ منهم من تردَّد بَينَ الحُكمِ بتولِّيهم، أو التَّبرُّؤِ منهم، أو التَّوقُّفِ في شأنِهم، وهم فِرقةُ الضَّحَّاكيَّةِ من الخَوارِجِ، وهذا ما ذكَره الأشعَريُّ عن هذه الفِرقةِ بقَولِه: (اختلَفوا في أصحابِ الحُدودِ؛ فمنهم من بَرِئَ منهم، ومنهم من تولَّاهم، ومنهم من وقَف، واختلف هؤلاء في أهلِ دارِ الكُفرِ عِندَهم؛ فمنهم من قال: هم عِندَنا كُفَّارٌ إلَّا من عرَفْنا إيمانَه بعينِه، ومنهم من قال: هم أهلُ دارِ خَلطٍ فلا نتولَّى إلَّا مَن عرَفْنا فيه إسلامًا، ونَقِفُ فيمن لم نعرِفْ إسلامَه، وتولَّى بعضُ هؤلاء بعضًا على اختلافِهم، وقالوا: الولايةُ تجمَعُنا) [497] ((مقالات الإسلاميين)) (1/189). .

انظر أيضا: