موسوعة الفرق

المَبحَثُ الثَّالثُ: العَلاقةُ بَينَ الإسلامِ والإيمانِ


لا يرى الخَوارِجُ أنَّ ثَمَّةَ فَرقًا بَينَ مفهومَيِ الإيمانِ والإسلامِ، فهما عِندَهم بمعنًى واحدٍ، كما قال ابنُ تيميَّةَ في بيانِه لأقوالِ النَّاسِ في الإيمانِ والإسلامِ: (وآخَرون يقولون: الإيمانُ والإسلامُ سواءٌ، وهم المُعتَزِلةُ والخَوارِجُ وطائفةٌ من أهلِ الحديثِ والسُّنَّةِ) [446] ((الإيمان)) (ص: 354). .
وقال الطَّالبيُّ عن الخَوارِجِ: إنَّهم: (وحَّدوا بَينَ مفهومِ الإيمانِ ومفهومِ الإسلامِ، أي: بَينَ الاعتقادِ والفِعلِ، ففَلسفَتُهم فَلسفةٌ عَمَليَّةٌ واقعيَّةٌ) [447] ((آراء الخوارج)) (ص: 139). .
وقد وافق الخَوارِجُ بهذا القولِ ما يراه بعضُ أهلِ السُّنَّةِ، كالبخاريِّ؛ فإنَّه يرى أنَّ الإسلامَ والإيمانَ مُترادِفانِ، كما نقل عنه ابنُ حَجَرٍ ذلك [448] ((فتح الباري)) (1/55). .
وهو أيضًا رأيٌ لبعضِ عُلَماءِ الفِرَقِ، كابنِ حَزمٍ؛ فإنَّه يرى أنَّ الإسلامَ هو الإيمانُ، والإيمانَ هو الإسلامُ، لا فَرْقَ بَينَهما، واستدلَّ بهذه الآيةِ الكريمةِ: فَأَخْرَجْنَا مَنْ كَانَ فِيهَا مِنَ الْمُؤْمِنِينَ * فَمَا وَجَدْنَا فِيهَا غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ [الذاريات: 35-36]، قال: (هذا نصٌّ جَليٌّ على أنَّ الإسلامَ هو الإيمانُ، وقد وجَب قَبلُ بما ذكَرْنا أنَّ أعمالَ البِرِّ كُلَّها هي الإسلامُ، والإسلامُ هو الإيمانُ، فأعمالُ البِرِّ كُلُّها إيمانٌ، وهذا برهانٌ ضَروريٌّ لا محيدَ عنه) [449] ((الفصل)) (3/195). .
وذكر الأشعَريُّ أنَّ من اعتقادِ أهلِ السُّنَّةِ أنَّ الإسلامَ عِندَهم غيرُ الإيمانِ [450] ((المقالات)) (1/347). .
وقد قال الشَّهْرَسْتانيُّ أيضًا بالتَّفريقِ بَينَ معنى الإسلامِ والإيمانِ والإحسانِ، وذلك في قولِه: (فكان الإسلامُ مبدأً، والإيمانُ وَسَطًا، والإحسانُ كَمالًا) [451] ((المِلَل والنِّحَل)) (1/40، 41). .
ويرى ابنُ تيميَّةَ أنَّ بَينَ الإسلامِ والإيمانِ تداخُلًا؛ فالإيمانُ أخَصُّ من الإسلامِ، وإذا ثبت الأخصُّ ثبت الأعمُّ، ولا عَكسَ، بحيثُ لا يوصَفُ بالإيمانِ مَن ثبت له وصفُ الإسلامِ فقط إلَّا بدليلٍ مُنفَصِلٍ؛ قال ابنُ تيميَّةَ: (فتبيَّنَ أنَّ دينَنا يجمَعُ الثَّلاثةَ، لكِنْ هو دَرَجاتٌ ثلاثٌ: مُسلِمٌ، ثُمَّ مُؤمِنٌ، ثُمَّ محسِنٌ، فالإحسانُ يدخُلُ فيه الإيمانُ، والإيمانُ يدخُلُ فيه الإسلامُ، والمحسِنون أخَصُّ من المُؤمِنين، والمُؤمِنون أخصُّ من المُسلِمين) [452] ((الإيمان)) (ص: 7). .
ويؤكِّدُ ابنُ تيميَّةَ هذا المعنى أيضًا بقولِه: (الإسلامُ فَرضٌ، والإيمانُ فَرضٌ، والإسلامُ داخِلٌ فيه، فمَن أتى بالإيمانِ الذي أُمِر به فلا بُدَّ أن يكونَ قد أتى بالإسلامِ المتناوِلِ لجميعِ الأعمالِ الواجِبةِ، ومن أتى بما سُمِّيَ إسلامًا لم يلزَمْ أن يكونَ قد أتى بالإيمانِ إلَّا بدليلٍ مُنفَصِلٍ) [453] ((الإيمان)) (ص: 350). .
وقد أكثَر في كتابِه "الإيمان" من إثباتِ الفَرْقِ بَينَ مسمَّى الإيمانِ ومسمَّى الإسلامِ، وبَيَّنَ أنَّ مَن جعل مسمَّى هذا مسمَّى ذلك فنصوصُ الكتابِ والسُّنَّةِ تخالِفُه [454] يُنظر: ((الإيمان)) (ص: 352). .
ويرى ابنُ تيميَّةَ أيضًا أنَّه إذا ذُكِر الإيمانُ مع الإسلامِ، فإنَّ الإسلامَ يكونُ هو الأعمالَ الظَّاهرةَ، كالشَّهادتينِ والصَّلاةِ والزَّكاةِ والصَّومِ... إلخ، وأمَّا الإيمانُ فهو ما في القلبِ من الإيمانِ باللهِ وملائكتِه وكُتُبِه ورُسُلِه... إلخ. وأمَّا إذا ذُكِر اسمُ الإيمانِ مجَرَّدًا عن ذكرِ الإسلامِ معه، فإنَّه حينَئذٍ يدخُلُ فيه الإسلامُ والأعمالُ الصَّالحةُ [455] يُنظر: ((الإيمان)) (ص: 10). .
وهذا ما يؤكِّدُه أيضًا بدرُ الدِّينِ الحَنبليُّ؛ حيثُ قال: (الإيمانُ المُطلَقُ يدخُلُ الإسلامَ، كما في (الصَّحيحَينِ) عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه قال لوَفدِ عبدِ القيسِ: ((أتدرون ما الإيمانُ باللهِ وَحدَه؟ قالوا: اللهُ ورسولُه أعلَمُ. قال: شهادةُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ وأنَّ محمَّدًا رسولُ اللهِ، وإقامُ الصَّلاةِ، وإيتاءُ الزَّكاةِ، وصيامُ رمَضانَ، وأن تُعطوا الخُمُسَ من المَغنَمِ )) [456] رواه البخاري (53)، ومُسلِم (17)  باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ عبدِ الله بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. . فأمَّا إذا اقتَرَن لفظُ الإيمانِ بالعَمَلِ وبالإسلامِ، فإنَّه يُفرَّقُ بَينَهما، واستدَلَّ على هذا بقولِه تعالى: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ، وبحديثِ جِبريلَ حيثُ سأل الرَّسولَ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن الإسلامِ والإيمانِ والإحسانِ، ثُمَّ قال: (ففَرَّق بَينَ الإيمانِ والإسلامِ لَمَّا فرَّق السَّائِلُ بَينَهما، وفي ذلك النَّصِّ -يعني به حديثَ عبدِ القيسِ- أدخل الإسلامَ في الإيمانِ لَمَّا أفرَده بالذِّكرِ) [457] ((مختصر الفتاوى المصرية)) (ص: 132). .
وللشَّوكانيِّ رأيٌ يخالِفُ كُلَّ ما تقدَّم من آراءٍ، فيقولُ مُوَضِّحًا الفَرْقَ بَينَ الإسلامِ والإيمانِ، ومعتَبِرًا ما عداه أقوالًا مُضطَرِبةً مُتناقِضةً: (قد أوضح الفَرْقَ رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بَينَ الإسلامِ والإيمانِ في الحديثِ في «الصَّحيحَينِ» وغيرِهما، الثَّابتِ من طُرُقٍ، أنَّه سُئِل عن الإسلامِ، فقال: ((أن تشهَدَ أنْ لا إلهَ إلَّا اللهُ، وتُقيمَ الصَّلاةَ، وتؤتيَ الزَّكاةَ، وتحُجَّ البيتَ، وتصومَ رمضانَ ))، وسُئِل عن الإيمانِ، فقال: ((أن تؤمِنَ باللهِ وملائكتِه وكُتُبِه ورُسُلِه والقَدَرِ خَيرِه وشَرِّه )) [458] رواه البخاري (50)، ومُسلِم (9) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. ، فالمرجِعُ في الفَرْقِ بَينَهما هو هذا الذي قاله الصَّادِقُ المصدوقُ، ولا التِفاتَ إلى غيرِه ممَّا قاله أهلُ العِلمِ في رَسمِ كُلِّ واحدٍ منهما برسومٍ مُضطَرِبةٍ مختَلِفةٍ مُتناقِضةٍ.
وأمَّا في الكتابِ العزيزِ من اختلافِ مواضِعِ استعمالِ الإسلامِ والإيمانِ، فذلك باعتبارِ المعاني اللُّغَويَّةِ والاستِعمالاتِ العَرَبيَّةِ، والواجِبُ تقديمُ الحقيقةِ الشَّرعيَّةِ على اللُّغويَّةِ، والحقيقةُ الشَّرعيَّةُ هي هذه التي أخبَرَنا بها رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأجاب سؤالَ السَّائِلِ له عن ذلك بها) [459] ((فتح القدير)) (5/89). .

انظر أيضا: