موسوعة الفرق

الفَصلُ الثَّاني: من صفاتِ الخَوارِجِ: المبالَغةُ في العِبادةِ والزُّهدِ


اشتَهَر الخَوارِجُ بالمبالَغةِ في الزُّهدِ في الدُّنيا والمبالغةِ في العبادةِ حتَّى بَلَغوا في ذلك مبلغًا عظيمًا، ممَّا قد لا يُدرِكُه الكثيرُ مِن غَيرِهم.
وقد وصَفَهم جُندَبٌ الأزدِيُّ فقال: (لَمَّا عدَلْنا إلى الخَوارِجِ ونحن مع عَليِّ بنِ أبي طالبٍ، انتَهَينا إلى مُعَسْكرِهم، فإذا لهم دَوِيٌّ كدَوِيِّ النَّحلِ من قِراءةِ القُرآنِ، وإذا فيهم أصحابُ البَرانِسِ، أي الذين كانوا معروفينَ بالزُّهدِ والعبادةِ) [239] يُنظر: ((تلبيس إبليس)) لابن الجوزي (ص: 93)، ((فتح الباري)) لابن حجر (12/296). .
وقد وُصِف زعيمٌ منهم -وهو عبدُ اللهِ بنُ وَهبٍ- بأنَّه ذو الثَّفِناتِ [240] هو عبدُ اللهِ بنُ وهبٍ الرَّاسبيُّ رئيسُ الخوارجِ. والثَّفِنةُ: رُكبةُ الإنسانِ. يُنظر: ((غريب الحديث)) لأبي عبيد (4/ 152)، ((لسان العرب)) لابن منظور (13/ 79). ؛ لشِدَّةِ عبادتِه وكَثرةِ سُجودِه، حتَّى أصبحت يداه كثَفِناتِ الإبِلِ من كثرةِ وَضْعِها على الأرضِ [241] يُنظر: ((الكامل)) للمبرد (2/155). !
وحتى نافِعُ بنُ الأزرَقِ -وهو المشهورُ بسَفكِ الدِّماءِ- قد كتَب إلى أهلِ البَصرةِ وذَمَّ في كتابِه الدُّنيا ووَصَفَها بأنَّها غرَّارةٌ مكَّارةٌ ينبغي الحذَرُ منها ومن الرُّكونِ إليها، في كلامٍ بليغٍ، ومنه قولُه: (فلا تغتَرُّوا ولا تطمَئِنُّوا إلى الدُّنيا؛ فإنَّها غرَّارةٌ مكَّارةٌ، لذَّتُها نافدةٌ، ونِعمتُها بائدةٌ.
حُفَّت بالشَّهَواتِ اغترارًا، وأظهَرَت حَبرةً وأضمَرَت عَبرةً؛ فليس آكِلٌ منها أَكلةً تَسُرُّه ولا شارِبٌ شَربةً تُؤنِقُه إلَّا دنا بها درَجةً إلى أجَلِه، وتباعَدَ بها مسافةً من أمَلِه، وإنَّما جعَلَها اللهُ دارًا لمن تزوَّد منها إلى النَّعيمِ المقيمِ والعيشِ السَّليمِ، فلن يرضى بها حازِمٌ دارًا، ولا حليمٌ بها قَرارًا؛ فاتَّقوا اللهَ وتزَوَّدوا؛ فإنَّ خيرَ الزَّادِ التَّقوى) [242] ((الكامل)) للمبرد (2/179). .
وأمَّا خَلَفُه أبو حَمزةَ الخارِجيُّ فله خُطبةٌ مشهورةٌ خَطَبَها حينَ دَخَل المدينةَ المنوَّرةَ غازيًا، وَصَف في هذه الخُطبةِ أصحابَه بالعبادةِ، فقال: (يا أهلَ المدينةِ بلَغَني أنَّكم تنتَقِصون أصحابي، قُلتُم: شبابٌ أحداثٌ، وأعرابٌ جُفاةٌ، وَيْلَكم يا أهلَ المدينةِ! وهل كان أصحابُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلَّا شبابًا أحداثًا؟ شبابٌ -واللهِ- مُكتَهِلون في شبابِهم، غضيَّةٌ عن الشَّرِّ أعيُنُهم، ثقيلةٌ عن الباطِلِ أقدامُهم، قد باعوا اللهَ عزَّ وجَلَّ أنفُسًا تموتُ بأنفُسٍ لا تموتُ، قد خالطوا كَلالَهم بكَلالِهم، وقيامَ ليلِهم بصيامِ نهارِهم، مُنحنيةً أصلابُهم على أجزاءِ القُرآنِ، كُلَّما مرُّوا بآيةِ خَوفٍ شَهَقوا خوفًا من النَّارِ، وإذا مرُّوا بآيةِ شَوقٍ شَهَقوا شوقًا إلى الجنَّةِ) [243] يُنظر: ((تاريخ الرسل والملوك)) للطبري (7/396)، ((الكامل في التاريخ)) لابن الأثير (4/385). .
وقد رُوِيَ عن ابنِ مُلْجَمٍ ما يُحيِّرُ العقلَ من تناقُضِهم في سُلوِكهم الدِّينيِّ، فبينما هم شديدو الغُلُوِّ في الدِّينِ والعبادةِ إذا هم شديدو الحِقدِ على خيارِ الصَّحابةِ، ومُستَحِلُّون لدمائِهم؛ فهذا ابنُ مُلجَمٍ يقتُلُ عَليَّ بنَ أبي طالبٍ رَضيَ اللهُ عنه، ومع ذلك يَقِفُ عِندَ القِصاصِ منه كأثبَتِ النَّاسِ وأعبَدِهم، فقد قال ابنُ الجوزيِّ: (لَمَّا مات عَليٌّ رَضيَ اللهُ عنه أُخرِجَ ابنُ مُلْجَمٍ ليُقتَلَ، فقَطَع عبدُ اللهِ بنُ جَعفَرٍ يَدَيه ورِجلَيه، فلم يجزَعْ ولم يتكلَّمْ، فكَحَل عَينَيه بمِسمارٍ مُحْمًى، فلم يجزَعْ، وجَعَل يقرأُ: اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ * خَلَقَ الْإِنْسَانَ مِنْ عَلَقٍ * اقْرَأْ وَرَبُّكَ الْأَكْرَمُ [العلق: 1 - 3] حتَّى ختَمَها، وإنَّ عَينَيه لتَسيلانِ، فعُولِجَ على قَطعِ لِسانِه فجَزِع، فقيل له: لمَ تَجزَعُ؟ فقال: أكرَهُ أن أكونَ في الدُّنيا مَواتًا لا أذكُرُ اللهَ!) [244] ((تلبيس إبليس)) (ص: 94). .
ومِثلُه في هذا عُروةُ بنُ حُدَيرٍ الذي تبرَّأ من خيارِ الصَّحابةِ عَلَنًا دونَ خَوفٍ من أحدٍ، وهو من أعبَدِ النَّاسِ وأصوَمِهم، وقد قتَلَه ابنُ زيادٍ بَعدَ أن تمَّت بَينَهما المناقَشةُ الحادَّةُ التي حكاها الشَّهْرَسْتانيُّ بقولِه: (عُروةُ بنُ حُدَيرٍ نجا بَعدَ ذلك من حَربِ النَّهْرَوانِ وبَقِيَ إلى أيَّامِ معاويةَ، ثُمَّ أُتيَ به إلى زيادِ بنِ أبيه ومعه مولًى له، فسأله زيادٌ عن أبي بكرٍ وعُمَرَ رَضيَ اللهُ عنهما، فقال فيهما خيرًا، وسأله عن عُثمانَ فقال: كنتُ أُوالي عُثمانَ على أحوالِه في خلافتِه سِتَّ سِنينَ، ثُمَّ تبرَّأْتُ منه بَعدَ ذلك للأحداثِ التي أحدَثَها، وشَهِد عليه بالكُفرِ، وسأله عن أميرِ المُؤمِنين عَليٍّ رَضيَ اللهُ عنه، فقال: كنتُ أتوَلَّاه إلى أن حكَّم الحكَمَينِ، ثُمَّ تبرَّأتُ منه بَعدَ ذلك، وشَهِد عليه بالكُفرِ، وسأله عن مُعاويةَ فسَبَّه سَبًّا قبيحًا، ثُمَّ سأله عن نفسِه، فقال: أوَّلُك لِزِنْيةٍ، وآخِرُك لدِعْوَةٍ، وأنت فيما بَينَهما بَعدُ عاصٍ رَبَّك! فأمر زيادٌ بضَربِ عُنُقِه، ثُمَّ دعا مولاه فقال له: صِفْ لي أمْرَه واصْدُقْ، فقال: أأُطنِبُ أم أختَصِرُ؟ فقال: بل اختَصِرْ، فقال: ما أتيتُه بطعامٍ في نهارٍ قَطُّ، ولا فَرَشْتَ له فِراشًا بلَيلٍ قَطُّ) [245] ((الملل والنحل)) (1/118). .
قال الشَّهْرَسْتانيُّ بَعدَ ذِكرِ هذه الحادثةِ: (هذه معامَلتُه واجتهادُه وذلك خُبثُه واعتِقادُه!) [246] ((الملل والنحل)) (1/118). .
ولقد كان خليقًا بهم وهم على هذه الدَّرَجةِ من العبادةِ والوَرَعِ أن يَعِفُّوا عمَّا وقعوا فيه من المحارِمِ وما وَلَغوا فيه من دماءِ المُسلِمين، ولكِنْ تَدَيُّنُهم على هذا النَّحوِ من الغُلُوِّ الذي كانوا عليه ليس هو الصُّورةَ الصَّحيحةَ للتدَيُّنِ المُثمِرِ الذي يحولُ بَينَ صاحِبِه وبَينَ محارِمِ اللهِ عزَّ وجَلَّ؛ فالغُلُوُّ لا يأتي بخيرٍ.

انظر أيضا: