موسوعة الفرق

المَطلَبُ الأوَّلُ: الأصولُ والمبادِئُ الاعتِزاليَّةُ


المَدرَسةُ العقلانيَّةُ الحديثةُ هي امتدادٌ للقديمةِ؛ حيثُ تلتقي وتتَّفِقُ في كثيرٍ من أصولِها وآرائِها مع الاتِّجاهاتِ العقليَّةِ القديمةِ، مع بعضِ الفُروقِ الشَّكليَّةِ القليلةِ، والمتأمِّلُ لهذه الاتِّجاهاتِ قديمِها وحديثِها، يجزِمُ بأنَّها تُشَكِّلُ مجموعةً واحدةً مُتشابِهةً ومُتشابِكةً، وأنَّ الحديثةَ امتدادٌ طبيعيٌّ للقديمةِ.
وهذا التَّشابُهُ تَلمِسُه في جوانِبَ عديدةٍ في المدرستَينِ؛ في أصولِهما ومناهِجِهما، وفي وسائِلِهما وغاياتِهما، وأوضَحُ جوانبِ التَّشابُهِ يتحَلَّى في إشادةِ روَّادِ العقليَّةِ الحديثةِ بأساتِذتِهم رُوَّادِ العقليَّةِ القديمةِ، كما أنَّ اهتماماتِ أكثَرِ روَّادِ العقليَّةِ الحديثةِ مُنصَبَّةٌ على إحياءِ الفِرَقِ القديمةِ وتمجيدِها، واقتفاءِ آثارِها، والبُكاءِ على أطلالِها.
أمَّا وَحدةُ الأصولِ والأهدافِ فتتَمَثَّلُ جَليَّةً فيما يلي:
1- اتِّفاقُ المدرسَتَينِ على إكبارِ العَقلِ، وتقديمِه على النَّصِّ، وإخضاعِ الثَّاني للأوَّلِ، وجَعْلِ العَقلِ مَصدرًا للتَّلقِّي مُقَدَّمًا في الاستدلالِ على الكِتابِ والسُّنَّةِ، وما يَتبَعُ ذلك من تأويلِ النُّصوصِ وتحريفِها أو رَدِّها، وعَدَمِ التَّسليمِ لها، والمبالغةِ في رَفعِ شِعارِ الحُرِّيَّةِ الفِكريَّةِ وإن كان على حِسابِ العقيدةِ.
?- اتِّفاقُهما على عَداءِ السُّنَّةِ وأهلِها، واحتِقارِ السَّلَفيَّةِ ولَمْزِها، والتَّهَكُّمِ بها وبأهلِها.
3- اتِّفاقُهما في التَّبَعيَّةِ للمذاهِبِ والفَلسَفاتِ الأجنبيَّةِ عن الإسلامِ، فكما أنَّ أصحابَ الفِرَقِ القديمةِ تتلمَذوا على اليهودِ والنَّصارى واليُونانِ، والمجوسِ والوَثَنيِّينَ، فكذلك العَقلانيُّون المحْدَثون تَتلمَذوا على المُستَشرِقين، والغربيَّةِ وَرَثةِ الفِكرِ اليهوديِّ والنَّصرانيِّ والوَثَنيِّ واليُونانيِّ، وعلى أسلافِهم العَقلانيِّين المُعتَزِلةِ والجَهميَّةِ.
4- استباحةُ الخوضِ في سائِرِ أمورِ الغيبِ التي لا يعلَمُها إلَّا اللهُ، وليس للعَقلِ قُدرةٌ على تصَوُّرِها فضلًا عن الحُكمِ عليها، وعَدَمُ احترامِ ما وردَ بطريقِ الوَحيِ في القرآنِ والسُّنَّةِ الصَّحيحةِ عن بعضِ المخلوقاتِ الغيبيَّةِ والأخبارِ؛ إنكارًا أو تكذيبًا، أو تهكُّمًا أو تشكيكًا، ومعارضةً لِما جاء في ذلك، ومِن أخطَرِ الأمورِ الغيبيَّةِ التي استباحَتْها الاتِّجاهاتُ العقليَّةُ القديمةُ والجديدةُ ما يتعَلَّقُ باللهِ وأسمائِه وصفاتِه، والوَحيِ والنُّبوَّةِ، والملائِكةِ والجِنِّ، والقَدَرِ والبَعثِ وأحوالِ الآخِرةِ، ونحوِ هذه الأمورِ التي يستحيلُ على العقلِ إدراكُ كُنهِها وحقائِقِها، ولا تخضَعُ للتصَوُّرِ والاستقراءِ العقليِّ، ولا للتَّجارِبِ الحِسِّيَّةِ.
5- الاستِهانةُ بأحكامِ اللهِ وشَرعِه، والجرأةُ على الفتوى، والقولُ على اللهِ بغيرِ عِلمٍ؛ في الحلالِ والحرامِ، والأخلاقِ والتَّشريعاتِ والعباداتِ، وعدَمُ التَّسليمِ له فيها أو في شيءٍ منها، وذلك بالمعارَضةِ والتَّبديلِ والتَّحريفِ، والزِّيادةِ والنَّقصِ، والاستِهزاءِ بأحكامِ اللهِ، والتَّشكيكِ في دينِه.
6- الجُرأةُ على إثارةِ الشُّبُهاتِ والآراءِ الشَّاذَّةِ في الدِّينِ عُمومًا والعقيدةِ بخاصَّةٍ، وما يخالِفُ إجماعَ المُسلِمين.
7- تميَّزت المدرَستانِ بالتَّرويجِ للمِلَلِ، وإحياءِ النِّحَلِ الضَّالَّةِ والمذاهِبِ والأهواءِ والفِرَقِ بَينَ المُسلِمين، وتمجيدِها والدِّعايَّةِ لها باسمِ التَّسامُحِ الدِّينيِّ، وحُرِّيَّةِ الفِكرِ والاعتقادِ؛ ولذلك رَوَّجت المُعتَزِلةُ للرَّفضِ، وأحيَت مذاهِبَ القَدَريَّةِ والجهميَّةِ والمُرجِئةِ، ومقالاتِ الخوارجِ والمُشَبِّهةِ، ثمَّ جاءت العقليَّةُ الحديثةُ أيضًا تُحيي تلك المذاهِبَ والاتِّجاهاتِ من هذا المُنطَلَقِ؛ مُنطَلَقِ حُرِّيَّةِ الفِكرِ والاعتقادِ! وهذه هي شُبهةُ الشَّيطانِ.. بل زادت العقليَّةُ الحديثةُ في تهوُّرِها؛ حيثُ أخذ بعضُ رُوَّادِها بالدَّعوةِ إلى التَّسامُحِ مع جميعِ الفِرَقِ والدِّياناتِ.. لغَرَضِ التَّوازُنِ في سماءِ الفِكرِ الجديدِ، كما يدَّعي محجوبُ بنُ ميلادٍ [1672] يُنظر: ((سبل السنة السوية)) لابن ميلاد (ص: 24-25). وأمثالُه، وكما يعمَلُ الجاروديُّ مع الدّياناتِ الكِتابيَّةِ.
8- كذلك يتَّفِقُ الجميعُ -أصحابُ الفِرَقِ العقلانيَّةِ القديمةِ والاتِّجاهاتِ العقليَّةِ الحديثةِ- على احتقارِ أهلِ السُّنَّةِ، والتَّهوينِ من شأنِهم، ورَمْيِهم بالتَّعصُّبِ وضِيقِ التَّفكيرِ والجهلِ، بالرَّغمِ من اعترافِهم جميعًا بأنَّ أهلَ السُّنَّةِ هم أهلُ القُرآنِ والحديثِ، بل إنَّ العقلانيِّينَ يَعيبونَهم بهذا، ونِعْمَ الوصفُ لهم وَصفُهم بالنَّصِّيِّين وأهلِ النَّقلِ! فهذه الأوصافُ أُطلِقَت على أهلِ السُّنَّةِ مِن قِبَلِ العقلانيِّين قديمًا وحديثًا، بل وصَل ببعضِهم الغُلُوُّ إلى إطلاقِ السَّلفيِّين على أهلِ السُّنَّةِ باعتبارِه مَسَبَّةً، كما فعَل الدَّملوجيُّ! وماذا سيقولُ هو وأمثالُه لو عَلِم أنَّ هذا ما يعتَزُّ به أهلُ الحقِّ، أي: وَصفَهم بالسَّلَفيَّة؟!
9- الدَّعوةُ إلى تفسيرِ القرآنِ والسُّنَّةِ بالأهواءِ، وتأويلِها تأويلًا عقلانيًّا جديدًا حسَبَ كُلِّ عَصرٍ دونَ اعتبارٍ للمَنهَجِ الشَّرعيِّ للاستدلالِ، ولا لتفسيرِ السَّلَفِ والصَّحابةِ، ودونَ التَّقيُّدِ بالمُصطَلحاتِ الشَّرعيَّةِ وقواعِدِ التَّفسيرِ والقواعِدِ الأصوليَّةِ، ودَلالاتِ اللُّغةِ، وكانت المدرستانِ تميلانِ إلى النُّزوعِ في تفسيرِ النُّصوصِ إلى الرُّموزِ والمجازاتِ الفلسفيَّةِ، والصُّوفيَّةِ [1673] يُنظر: ((شبهات التغريب)) للجندي (ص: 36). والباطنيَّةِ والمادِّيَّةِ، وهذا ما درَجَت عليه فعلًا فِرَقٌ تأثَّرت بهذا المَنهَجِ؛ كالصُّوفيَّةِ والباطنيَّةِ، والرَّافِضةِ والشِّيعةِ، والمُعتَزِلةِ وأهلِ الكلامِ، ثمَّ أصحابِ العقليَّةِ الحديثةِ في هذا العَصرِ.
10- كما أنَّ كِلتا المدرستَينِ تَنزِعان إلى التَّجديدِ والتَّغييرِ في أصولِ العقيدةِ، وأصولِ التَّشريعِ الثَّابتةِ، ومناهِجِ التَّلقِّي ومناهِجِ الاستِدلالِ، دونَ اعتبارٍ للنُّصوصِ الواردةِ عن اللهِ ورَسولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ودونَ اعتبارٍ لمناهِجِ السَّلَفِ في ذلك كُلِّه، والدَّعوةِ إلى اتِّباعِ غَيرِ سَبيلِ المؤمِنينَ الذي توعَّد اللهُ مَن خالفه، فقال سُبحانَه: وَمَنْ يُشَاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ مَا تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدَى وَيَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ مَا تَوَلَّى وَنُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَسَاءَتْ مَصِيرًا [النساء: 115] .
??- اعتبارُ هزيمةِ الفِرَقِ المُنحَرِفةِ في القديمِ والجديدِ، وانتصارِ أهلِ السُّنَّةِ، نَكسةً تاريخيَّةً وضررًا بالإسلامِ والمُسلِمين، وعامِلًا من عوامِلِ التَّخلُّفِ والجُمودِ [1674] يُنظر: ((شبهات التغريب)) للجندي (ص: 34- 36)، ((ثورة الإسلام)) لأبي شادي (ص: 48- 49)، ((هذا هو الإسلام)) للدملوجي (ص: 39، 53، 61). .
وأكثَرُ ما تتبيَّنُ العَلاقةُ بَينَ المدرستَينِ في تمجيدِ كُتَّابِ العقليَّةِ الحديثةِ للفِرَقِ المنحَرِفةِ القديمةِ، وأسَفِهم عليها والبكاءِ على أطلالِها، والعَمَلِ على إحيائِها، وارتباطِهم الوثيقِ بتراثِها والعنايةِ بخِدمتِه وإخراجِه، والإشادةِ بأصولِ المُعتَزِلةِ ومقالاتِهم والتَّرويجِ لها، وهذا ما تُثبتُه نصوصُهم للتأكيدِ على أنَّ العَلاقةَ بَينَ المدرسَتَينِ -الحديثةِ والقديمةِ- ليست عَلاقةَ تعاطُفٍ وتقارُبٍ فقط، بل إنَّها عَلاقةُ تَلمَذةٍ وانتماءٍ لا لفِرقةِ المُعتَزِلةِ فحَسْبُ، بل لأكثَرِ الفِرَقِ الغابرةِ، حتى تلك الفِرَقِ الباطنيَّةِ الشَّاذَّةِ؛ كالقرامِطةِ والحُلوليَّةِ، وإخوانِ الصَّفا.. أمَّا الفِرقةُ التي خُصَّت بالتَّأييدِ الفائِقِ من أكثَرِ رُوَّادِ العقليَّةِ الحديثةِ، فهي المُعتَزِلةُ، ولا غَرْوَ؛ فهي الفِرقةُ التي رفَعَت لواءَ العقلانيَّةِ، واستوعبَت كثيرًا من آراءِ الفلاسفةِ وأهلِ الكلامِ من أصداءِ الرُّسُلِ والوَحيِ قَبلَ الإسلامِ وبَعدَه، ثمَّ إنَّها خلَّفت تُراثًا عقليًّا ضخمًا متكامِلًا تَغلغَل في صميمِ التَّراثِ الإسلاميِّ، وشَمِل التَّفسيرَ والأصولَ، والعقائِدَ وغيرَها، ولم يَسلَمْ فيه إلَّا علومُ السَّلَفِ؛ لأنَّها تُمثِّلُ الإسلامَ النَّقيَّ الصَّافيَ الذي تكفَّل اللهُ بحِفظِه، وأخبر الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ببقاءِ أهلِه على الحقِّ ظاهِرين.
 أمَّا تراثُ المُعتَزِلةِ فهو يُشَكِّلُ بمجموعِه رصيدًا عظيمًا للعقلانيَّةِ الحديثةِ، ثمَّ إنَّ المُعتَزِلةَ هي التي مهَّدت لقيامِ الفِرَقِ الكلاميَّةِ؛ كالأشاعرةِ والكُلَّابيَّةِ والماتُريديَّةِ ونحوِها؛ ممَّا جعَل كثيرًا من روَّادِ العقليَّةِ الحديثةِ يَميلُ إليهم مَيلًا عاطفيًّا أيضًا بحُكمِ ارتباطِهم بهذه الفِرَقِ.
كما أنَّ من أهَمِّ العوامِلِ التي ربطَت بعضَ من يُسَمَّون بالمُفَكِّرين المُسلِمين المُحْدَثين بالمُعتَزِلةِ وغيِرهم مِن الفِرَقِ: الجَهلَ بالعقيدةِ الإسلاميَّةِ، وأصولِ الدِّينِ ومناهِجِ السَّلَفِ.
وهذه بعضُ النُّصوصِ التي تُبَيِّنُ قوَّةَ العَلاقةِ بَينَ المدرستَينِ العَقليَّتينِ القديمةِ والحديثةِ.
قال فاروق الدَّملوجيُّ في كتابِه "هذا هو الإسلامُ": (والحقيقةُ أنَّ رجالَ المُعتَزِلةِ -باستثناءِ المغالين منهم والمُفرِّطين، والمُغرِضين والضَّالِّين- كانوا أحرارًا في آرائِهم وفي تأويلاتِهم، فلم يَقِفوا عِندَ حَدٍّ، ولم يَرْدَعْهم قيدٌ، وحكَّموا العقلَ في جميعِ القضايا، وأوَّلوا المنقولاتِ كافَّةً حَسَبما يقتضيه الزَّمَنُ والحالُ، فقالوا كَلِمتَهم المشهورةَ: إذا تعارَضَ العقلُ والنَّقلُ وجَب التَّأويلُ لِما يقتضيه العقلُ، وكان جُلُّ مَقصَدِهم تخليصَ الدِّينِ الإسلاميِّ من التَّبلبُلِ والفلسفةِ والمذاهِبِ المتضاربةِ والمنتَشِرةِ في العالَمِ الإسلاميِّ كُلِّه، وجَعْلَ الدِّيانةِ الإسلاميَّةِ أكثَرَ صفاءً ومرونةً، وأشَدَّ مِراسًا وحُجَّةً؛ لتتوافَقَ مع المعقولاتِ في كُلِّ عصرٍ وزمانٍ، ويهضِمَها الوِجدانُ البَشَريُّ، ويستسيغَها الذَّوقُ في كُلِّ وقتٍ وآنٍ) [1675] ((هذا هو الإسلام)) (ص: 49). !
لعَلَّ المؤلِّفَ قد نَسِيَ أنَّ التَّبلبُلَ والفلسفةَ والمذاهِبَ لم تنتَشِرْ بهذا المفهومِ الذي عناه إلَّا بَعدَ ظهورِ المُعتَزِلةِ! وأنَّ لهم اليَدَ الطُّولى في البلبلةِ والفلسفةِ والمذهبيَّةِ! ولْيُراجِعِ التَّاريخَ -إن شاء- هو وأساتذتُه.
ويبدو -بزعمِه- أنَّ الدِّيانةَ الإسلاميَّةَ قَبلَ المُعتَزِلةِ لا يَهضِمُها الوِجدانُ ولا يستسيغُها الذَّوقُ!
وقال: (وكان الأشاعِرةُ ومن تمذهَبَ بمذهَبِهم في أهلِ السُّنَّةِ والجماعةِ يَلعَنون الفلاسِفةَ والمُعتَزِلةَ، وأهلَ الفِكرِ ومن يذهَبُ مَذهَبَهم، ويُحرِقون كتُبَهم تقرُّبًا للجمهورِ الجاهِلِ، وزُلفى إلى اللهِ.. وبهذه الطَّريقةِ النَّكِدةِ انطفأت الآراءُ الحُرَّةُ من رُؤوسِ المُفَكِّرين؛ فكانت السَّبَبَ في سُقوطِ العالَمِ الإسلاميِّ من شاهِقِ عِزّه، ولم يَزَلْ مُنحَدِرًا لا يرتقي) [1676] ((هذا هو الإسلام)) (ص: 61). !
(وشَرَع المُعتَزِلةُ لأوَّلِ مرَّةٍ بالعالَمِ الإسلاميِّ في تحكيمِ العقلِ في جميعِ المسائِلِ المفروضةِ عليهم، فأوَّلوا نصوصَ القرآنِ تَبَعًا لِما يقتضيه العقلُ والمنطِقُ، لا كما يريدُه الإلهيُّون والسَّلَفيُّون؛ أصحابُ المَدرَسةِ القديمةِ، وهم أهلُ السُّنَّةِ والجماعةِ، والحنابِلةُ والمتصَوِّفةُ؛ من الجُمودِ والوقوفِ على حَدِّ اللَّفظِ والنَّصِّ وظاهِرِ الشَّرعِ دونَ زيادةٍ أو نقصانٍ، أو تأويلٍ أو تفسيرٍ) [1677] ((هذا هو الإسلام)) (ص: 39). !
(ولو كان قد انتَشَر الاعتزالُ في البلادِ الإسلاميَّةِ من أقصاها إلى أقصاها لَما حصَلَت هذه النَّكَباتُ، ولو لم يحصُلِ الارتجاعُ والانتكاسُ والجمودُ على المنقولاتِ، لكان العالَمُ الإسلاميُّ غيرَ ما هو عليه اليومَ) [1678] ((هذا هو الإسلام)) (ص: 53). !
وقال محجوبُ بنُ ميلادٍ في كتابِه "في سُبُلِ السُّنَّةِ الإسلاميَّةِ": (ويكفي الاعتزالَ فَخرًا أنْ ضَمَّ في صفوفِه شخصيَّاتٍ بارزةً وعُقولًا جبَّارةً؛ كواصِلِ بنِ عَطاءٍ، وأبي الهُذَيلِ العَلَّافِ، والنَّظَّامِ، وأبي عَليٍّ الأسْواريِّ، وأبي يعقوبَ الشَّحَّامِ، وبِشرِ بنِ المُعتَمِرِ، والجاحِظِ، وأبي عليٍّ الجُبَّائيِّ شَيخِ أبي الحسَنِ الأشعريِّ، وأبي موسى المُرْدارِ، وثُمامةَ بنِ الأشرَسِ، والجَعفَرينِ، وأبي الحُسَينِ الخيَّاطِ، وابنِ القاسِمِ البَلْخيِّ، وابنِ فارسٍ، والزَّمخشَريِّ، وأمثالهِم العديدينَ؛ فقد كان المُعتَزِلةُ المحَرِّكَ القَويَّ الذي أطعَم التَّفكيرَ الإسلاميَّ وغذَّاه، وبعث فيه حيويَّةً رائعةً، وأكسَبه جُرأةً سَطَّرت صفحاتٍ هي من أنفَسِ صَفَحاتِ التَّفكيرِ الإسلاميِّ، وأجرَت ينابيعَ فِكريَّةً ماؤهُا من أصفى المياه وأعذَبِها) [1679] ((في سبل السنة الإسلامية)) (ص: 93- 94). !
وهكذا يُشيدون بأئمَّةِ الضَّلالةِ والفِرَقِ أو يُشيدون بما وصَفوه من تشويهِ العقيدةِ والدِّينِ!
كما أنَّ المؤلِّفَ (محجوب) يرى إحياءَ جميعِ الفِرَقِ؛ مُعتَزِلةً ورافضةً، وشيعةً وخوارجَ ومُرجِئةً، وأنَّ لكُلٍّ منها أن يَزعُمَ أنَّه سُنِّيٌّ! [1680] يُنظر: ((في سبل السنة الإسلامية)) (ص: 23- 25). . وهذا هو الجَهلُ والضَّلالُ. نسألُ اللهَ السَّلامةَ.
ويرى الدُّكتورُ زكي نحيب محمود (أنَّ أهمَّ جماعةٍ يمكِنُ لعَصرِنا أن يَرِثَها في وِجهةِ نَظَرِها... هي جماعةُ المُعتَزِلةِ التي جعَلت العقلَ مَبدأَها الأساسيَّ كُلَّما أشكَل أمرٌ..) [1681] ((تجديد الفكر العربي)) (ص: 117- 118). .
وقال الدُّكتورُ أحمد زكي أبو شادي مُنَوِّهًا ومعتَزًّا بإخوانِ الصَّفا -وهم من غُلاةِ الفلاسِفةِ الباطنيَّةِ الجَهميَّةِ:
(من أولئك الفُضَلاءِ الحُكَماءِ الذين ازدانت بهم المائةُ الرَّابعةُ من الهِجرةِ كما ازدان بهم الإسلامُ، والذين اجتمَعوا على القُدسِ والطَّهارةِ -على حَدِّ تعبيرِ أبي حيَّانَ التَّوحيديِّ- تفتَّقَت أذهانُهم على رُوحانيَّةِ الإسلامِ ورجاحتِه الحقيقيَّينِ، فصاحوا: إنَّ الشَّريعةَ الإسلاميَّةَ قد دُنِّسَت بالجهالةِ، واختلَطت بالضَّلالاتِ، ولا سبيلَ إلى غَسلِها وتطهيرِها إلَّا بالفلسفةِ) [1682] ((ثورة الإسلام)) (ص: 48- 49). ! واستمَرَّ يَكيلُ المدحَ لهم، ثمَّ قال: (من العيبِ الفاضِحِ بَعدَ مرورِ هذه القُرونِ الطَّويلةِ أن ننسى قُدوتَهم المثاليَّةَ والصُّورةَ النَّقيَّةَ الرَّائعةَ التي رسَموها للإسلامِ الصَّحيحِ من ناحيَتَيِ السُّلوكِ والفِكرِ. إنَّ المُسلِمَ الحقيقيَّ هو من آمَن بالوصايا الأخلاقيَّةِ السَّابقةِ الذِّكرِ، وقد سَنَّها وطبقَّها دونَ تذبذُبٍ) [1683] ((ثورة الإسلام)) (ص: 49). .
فتأمَّلْ هذا التَّلبيسَ العجيبَ والتَّصوُّرَ المنكوسَ، والتَّمويهَ الظَّاهِرَ الذي: هو أنَّ مذهَبَ إخوانِ الصَّفا الباطِنيَّ الإلحاديَّ المجوسيَّ صورةٌ للإسلامِ الصَّحيحِ!
وقال زُهدي حسن جار الله في كتابِه "المُعتَزِلة": (واجِبٌ على كُتَّابِ العَرَبِ ورجالِ الفِكرِ فيهم أن يُوَجِّهوا إلى المُعتَزِلةِ جُزءًا كبيرًا من عنايتِهم وجهودِهم؛ ذلك بأنَّ كُتَّابَ السُّنَّةِ الأقدَمين بسَبَبِ كراهِيَتِهم للاعتِزالِ تحامَلوا على المُعتَزِلةِ، ولم يَذكُروهم إلَّا مع التَّقبيحِ والتَّشنيعِ، فأعطَونا عنهم فِكرةً سَيِّئةً وصورةً مُشَوَّهةً، كما أنَّ الكُتَّابَ المُعاصِرين لم يلتَفِتوا إليهم ولم يأبَهوا لهم، فبَقِيَ المُعتَزِلةُ محرومين من التَّقديرِ مُفتَقِرين إلى من يُظهِرُ حقيقتَهم، ويُعطيهم المكانةَ اللَّائقةَ بهم في التَّاريخِ. يضافُ إلى هذا أنَّ النَّهضةَ العربيَّةَ الحديثةَ شبيهةٌ في ظروفِها وأحوالِها بالنَّهضةِ العربيَّةِ القديمةِ التي تلَت الفُتوحَ الإسلاميَّةَ، والتي لَعِب فيها المُعتَزِلةُ دورًا خطيرًا، وإذًا فلا بُدَّ في نهضتِنا هذه من ظُهورِ رُوحِ الاعتزالِ أو لا بُدَّ من إحياءِ تلك الرُّوحِ؛ ولهذا كان دَرسُ المُعتَزِلةِ ضروريًّا لنا وحيويًّا) [1684] يُنظر: مقدمة كتاب: ((المعتزلة)). !
وقال عبدُ السَّتَّارِ الرَّاوي في تبريرِ الاعتزالِ: (إنَّ انبثاقَ الحَركةِ الاعتِزاليَّةِ كان شرطًا تاريخيًّا وتعبيرًا عن مَرحلةٍ اجتِماعيَّةٍ وسياسيَّةٍ، فرَضَتْها الصِّراعاتُ المذهبيَّةُ) [1685] ((العقل والحرية)) (ص: 13). .
 وهكذا نجِدُ هؤلاء العَقلانيِّينَ يَقلِبون الحقائِقَ ويَعكِسون القضيَّةَ؛ ممَّا يؤدِّي إلى تجريمِ السَّلَفِ الصَّالحِ الذين أنكروا بِدَعَ المُعتَزِلةِ وحَذَّروا منها بحَقٍّ!
وقال مُحمد عمارة: (إنَّنا إذا شِئْنا أن نُقَدِّمَ لأجيالِنا الحاضِرةَ والمُستقبَلةَ تُراثًا يمجِّدُ العقلَ، ويُؤَصِّلُ فِكرَنا العقليَّ للتقَدُّمِ، ويُشيعُ في صفوفِنا مُناخًا يساعِدُ على ازدهارِ التَّفكيرِ العِلميِّ، فلا بدَّ لنا من البحثِ عن البقايا التي تركَها الزَّمَنُ وخلَّفَتْها أحداثُه من تراثِ المدارِسِ الفِكريَّةِ العربيَّةِ الإسلاميَّةِ التي أعلَت من قَدْرِ العَقلِ، ورفَعَت من قيمتِه، والتي قدَّمَته وقدَّمَت ثمراتِ تفكيرِه على مدلولاتِ ظواهِرِ النُّصوصِ... وفي مُقَدِّمةِ هذه المدارِسِ الفِكريَّةِ المُعتَزِلةُ والفلاسِفةُ) [1686] ((نظرة جديد إلى التراث)) (ص: 16). .
وهكذا يُريدُ أن يَربِطَ المُسلِمين اليومَ بأهلِ الأهواءِ والافتراقِ والبِدَعِ، بل والفلاسِفةِ المفاليسِ؛ أصحابِ التِّيهِ والضَّياعِ والشَّكِّ والاضطِرابِ!
وها هو يقولُ مَرَّةً أخرى: (كما أنَّنا إذا شِئْنا أن نُزيلَ من حياتِنا الآثارَ الضَّارَّةَ للتَّواكُلِ والسَّلبيَّةِ، بل الأنانيَّةِ، وأن نُشيعَ رُوحَ المسؤوليَّةِ لدى إنسانِنا المُسلِمِ المُعاصِرِ، فلا بُدَّ وأن نَدعَمَ قِيَمَ الحُرِّيَّةِ والمسؤوليَّةِ، التي نُقَدِّمُها له اليومَ... وبذلك التُّراثِ الغنيِّ الذي قدَّمه المُعتَزِلةُ ومن وافقهم في مَيدانِ حُرِّيَّةِ الإنسانِ ومسؤوليَّتِه عن أعمالِه ونتائجِها، وكيف أنَّه حُرٌّ مختارٌ صانِعٌ لأعمالِه، بل خالِقٌ لها على سبيلِ الحقيقةِ لا المجازِ.. أي أنَّه صانِعٌ للحياةِ والحضارةِ والتَّاريخِ) [1687] ((نظرة جديدة إلى التراث)) (ص: 17). .
وقال محمَّد عمارة كذلك في تقديمِه لتحقيقِ "رسائِلُ العَدلِ والتَّوحيدِ": (فالمُعتَزِلةُ أهلُ العَدلِ والتَّوحيدِ مثلًا، وهم أكثَرُ المدارِسِ الفِكريَّةِ تعبيرًا عن أصالةِ الشَّخصيَّةِ العربيَّةِ الإسلاميَّةِ، والذين استخدَموا المَنهَجَ العقليَّ في البَحثِ دونَ أن يكونوا أسرى للفِكرِ اليُونانيِّ، ودونَ أن ينفَصِلوا عن قضايا العقيدةِ التي كانت تزخَرُ بها المجتَمَعاتُ العربيَّةُ الإسلاميَّةُ في عُصورِهم، والذين كانوا رِجالَ فِكرٍ وسياسةٍ وثَوراتٍ وعِلمٍ وهندسةٍ وزُهدٍ؛ هذه المَدرَسةُ لا تزالُ آثارُها الكبرى حبيسةَ المخطوطاتِ، مُوَزَّعةً في مختَلِفِ المكتباتِ، والكثيرُ ممَّا طُبِع من هذه الآثارِ لم يَلْقَ العنايةَ الكافيةَ في التَّحقيقِ والدَّرسِ والتَّقديمِ، ولم تُثَرْ حولَ نُصوصِه المناقشاتُ الضَّروريَّةُ واللَّازمةُ للاستفادةِ من هذه النُّصوصِ، وذلك على الرَّغمِ من قِلَّةِ هذه النُّصوصِ التي بَقِيَت لأهلِ الاعتزالِ؛ حيث إنَّ الجانِبَ الأكبَرَ من آثارِهم قد أُبيد بفِعلِ أعدائِهم منذُ قُرونٍ. والخوارِجُ بفِرَقِهم المختَلِفةِ، والذين يُمَثِّلون قِسمةً من أهَمِّ قَسَماتِ الفِكرِ العَرَبيِّ الإسلاميِّ، لا زِلْنا نقرَأُ في كُلِّ بحثٍ أو مقالٍ يَعرِضُ لهم أو يُشيرُ لأحَدِهم: أنَّ نُدرةَ المراجِعِ عنهم إنَّما تحولُ دونَ إنصافِهم، وأنَّنا نأخُذُ آراءَهم وأخبارَهم من مُؤَلَّفاتِ أعدائِهم ومُناهِضيهم، يحدُثُ هذا ونقرأُه بينما عَشَراتُ المكتباتِ في مختَلِفِ بلادِ العالمِ تَحفِلُ بالعديدِ من الآثارِ الفِكريَّةِ التي كتبَها عُلماؤهم، والتي فيها -رَغْمَ قِلَّتِها النِّسبيَّةِ- الكثيرُ من مقالاتِهم وفِقهِهم وقَسَماتِهم الفِكريَّةِ المُمَيِّزةِ لهم عن باقي المدارِسِ والتَّيَّاراتِ) [1688] ((رسائل العدل والتوحيد)) تحقيق عمارة (ص: 22- 23). ويُنظر: الاتجاه العقلاني لدى المفكرين الإسلاميين رسالة دكتوراه، للدكتور سعيد بن عيضة الزهراني. .
وهكذا يريدُ الجَمعَ بَينَ المتناقِضاتِ، ثمَّ هو يخلِطُ بَينَ جميعِ الفِرَقِ الكُبرى، وبَينَ أهلِ الأهواءِ وأهلِ الحَقِّ حينَ يقولُ:
(فلا بُدَّ إذًا مِن أن نُوجِدَ التَّخطيطَ والتَّنفيذَ اللَّذَينِ بهما نستطيعُ الوصولَ إلى تحقيقِ هذا الهدَفِ؛ هَدَفِ وجودِ الآثارِ الفِكريَّةِ المُعَبِّرةِ بصِدقٍ وأمانٍ ووفاءٍ وموضوعيَّةٍ عن المدارِسِ الفِكريَّةِ المتعَدِّدةِ في تراثِنا، من الشِّيعةِ، والأشاعِرةِ، والنُّصوصِيِّينَ أهلِ الأثَرِ والحديثِ، والمُعتَزِلةِ، والخوارِجِ، مع الاهتمامِ بالقَسَماتِ التَّفصيليَّةِ والفَرعيَّةِ التي توجَدُ داخِلَ كُلِّ مَدرَسةٍ من هذه المدارِسِ، والتي يقَدِّمُ وُجودُها وازدهارُها وتميُّزُها دليلَ خُصوبةٍ لفِكرِنا العربيِّ الإسلاميِّ، وبُرهانَ حَيويَّةٍ لهذا الفِكرِ، وشاهدًا مادِّيًّا على أثَرِ الحُرِّيَّةِ الفِكريَّةِ التي طبَّقها هؤلاء الأسلافُ الأعلامُ، التي هي جديرةٌ بالاحتذاءِ والاقتداءِ) [1689] ((رسائل العدل والتوحيد)) تحقيق عمارة (ص: 23). !

انظر أيضا: