موسوعة الفرق

المَطلَبُ الثَّاني: وَحدةُ المُنطَلَقِ وتَكرارُ الجِنايةِ


من سُننِ اللهِ تعالى في أهلِ البِدَعِ التَّفرُّقُ والافتراقُ، فما أن تظهَرَ الفِرقةُ وتتكوَّنَ حتى تنقَسِمَ إلى فِرَقٍ شتَّى، والمُعتَزِلةُ شأنُها شأنُ بقيَّةِ الفِرَقِ ظهَرت وبرَزت وقَوِيَت في عهدِ المأمونِ واستقوَت به على ترويجِ باطِلِها أربعةَ عَشَرَ عامًا، ثمَّ بدأت بالانكسارِ بَعدَ تولِّي المتوكِّلِ للخلافةِ في سنةِ 232ه، ثمَّ قَوِيت مرَّةً أخرى في عهدِ بني بُوَيهِ سنة 334ه في بلادِ فارِسَ بَعدَ تلاقُحِ أفكارِها مع الفِكرِ الرَّافضيِّ، وتوَلِّي بعضِ رُموزِها مناصِبَ عُليا في دولةِ البُوَيهيِّين، مِثلُ تولِّي رأسِ المُعتَزِلةِ آنذاك القاضي عبدِ الجَبَّارِ أعلى مرتبةٍ في القضاءِ في الرَّيِّ سنةَ 360ه؛ ممَّا جعَل بعضَ الباحثينَ يرى أنَّ هذا التَّناغُمَ بَينَ الفِكرِ الاعتِزاليِّ والرَّافضيِّ مؤشِّرًا على ذَوَبانِ المُعتَزِلةِ في الفِرَقِ الأخرى؛ ولذا عدَّ بعضُ العُلَماءِ القاضيَ عبدَ الجَبَّارِ -وهو رأسُ المُعتَزِلةِ في زمانِه- عدَّه شيعيًّا مُعتَزِليًّا [1690] يُنظر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (16/512). .
بل إنَّ منَ تَتبَّع شيوخَ الرَّافضةِ مُنذُ ذلك التَّاريخِ حتى اليومِ يجِدُ أنَّهم يتَّفِقون مع المُعتَزِلةِ في أهمِّ القضايا الاعتِزاليَّةِ: تقديمِ العَقلِ على النَّصِّ.
لكِنَّ هذا الذَّوَبانَ في الفِرَقِ الأخرى لا يعني نهايةَ الفِكرِ الاعتِزاليِّ؛ فالفِكرُ ما زال قائمًا ويتجَدَّدُ برموزٍ وشَخصيَّاتٍ من الشِّيعةِ والسُّنَّةِ وغيرِهم في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ، والرَّابِطُ الذي يربِطُ أصحابَ هذا الفِكرِ بالمُعتَزِلةِ قديمًا هو اعتمادُ العقلِ مَرجِعًا وحَكَمًا عِندَ تفسيرِ النُّصوصِ الشَّرعيَّة وردُّ ما سواه، هذه هي السِّمةُ الملازِمةُ للمُعتَزِلةِ في كُلِّ زمانٍ ومكانٍ مهما تباعَد تاريخُهم وتجدَّدت رموزُهم.
وما يقولُه المُعتَزِلةُ المُعاصِرون اليومَ في القرآنِ الكريمِ، واعتمادِ العقلِ مُحكِّمًا له: هو ما قاله المُعتَزِلةُ القُدامى عن القرآنِ الكريمِ:
فقد قال القاضي عبدُ الجَبَّارِ: (فاعلَمْ أنَّ الدَّلالةَ أربعةٌ: حُجَّةُ العقلِ، والكتابُ، والسُّنَّةُ، والإجماعُ. ومعرفةُ اللهِ تعالى لا تُنالُ إلَّا بحُجَّةِ العَقلِ) [1691] يُنظر: ((شرح الأصول الخمسة)) (ص: 88). ! وها هو في موضِعٍ آخَرَ يُرَتِّبُ الأدِلَّةَ الشَّرعيَّةَ حَسَبَ تقديسِه للعَقلِ، فقال: (أوَّلُها: العقلُ؛ لأنَّ به يُمَيَّزُ بَينَ الحسَنِ والقبيحِ، ولأنَّ به يُعرفُ أنَّ الكتابَ حُجَّةٌ، وكذلك السُّنَّةُ والإجماعُ؛ فهو الأصلُ في هذا البابِ، وإن كنَّا نقولُ: إنَّ الكتابَ هو الأصلُ من حيثُ إنَّ فيه التَّنبيهَ على ما في العقولِ، كما أنَّ فيه الأدِلَّةَ على الأحكامِ) [1692] يُنظر: ((فضل الاعتزال وطبقات المعتزلة)) (ص: 139). .
وقال الجاحِظُ: (وللأُمورِ حُكمانِ: حُكمٌ ظاهرٌ للحواسِّ، وحُكمٌ باطنٌ للعُقولِ، والعقلُ هو الحُجَّةُ) [1693] يُنظر: ((الحيوان)) (1/207). ، وقال في موضِعٍ آخرَ: (وما الحُكمُ القاطِعُ إلَّا للذِّهنِ، وما الاستبانةُ الصَّحيحةُ إلَّا للعقلِ) [1694] يُنظر: ((رسائل الجاحظ)) (3/58). .
وهذا العَضُدُ الإيجيُّ يقولُ: (لو وُجِد المعارِضُ العقليُّ لقُدِّمَ على الدَّليلِ النَّقليِّ قطعًا) [1695] يُنظر: ((المواقف)) (1/207). !
ومن قرأ في كتابِ "الكَشَّاف" للزَّمخشَريِّ أدرك هذه الحقيقةَ، بل إنَّ كتابَه هذا أضخَمُ وأكبَرُ تفسيرٍ لهم، وقد قرَّر فيه أنَّ العقلَ مُقَدَّمٌ ليس على القرآنِ فقط بل على السُّنَّةِ والإجماعِ والقياسِ! ولا غرابةَ فهو (كبيرُ المُعتَزِلةِ) [1696] قال الذَّهبيُّ عنه: (العلَّامةُ كَبيرُ المُعتَزِلةِ صاحِبُ الكَشَّافِ والمفصَّلِ). ((سير أعلام النبلاء)) (2/151). (داعيةٌ إلى الاعتزالِ) [1697] ((ميزان الاعتدال)) (4/78). ، وشيوخُه من كبارِ المُعتَزِلةِ؛ فأبو مُضَرَ الضَّبِّيُّ هو أوَّلُ من أدخل الاعتِزالَ على أهلِ خَوارِزمَ، وأبو سَعدٍ الجُشَميُّ نَقَل عنه الزَّمخشريُّ كثيرًا في التَّفسيرِ [1698] يُنظر: ((الزمخشريُّ لُغويًّا ومُفسِّرًا)) لشيرازي. .
هذه المواقِفُ من المُعتَزِلةِ القُدامى هي مواقِفُ المُعتَزِلةِ المُعاصِرين ممَّا سيأتي بيانُه، بل تجاوَزه أحيانًا حتَّى وصل إلى حدِّ الإعجابِ بالفِكرِ الاعتِزاليِّ والتَّمجيدِ والتَّقديسِ.
قال عِرفان عبد الحميدِ عن المُعتَزِلة: (المُعتَزِلةُ أوَّلُ مَدرَسةٍ كلاميَّةٍ ظهَرت في الإسلامِ، وكان لها دورٌ كبيرٌ في تطويرِ الفِكرِ الدِّينيِّ والفلسفيِّ فيه؛ فهي التي أوجَدت الأصولَ العقليَّةَ للعقيدةِ الإسلاميَّةِ، وجعَلت للنَّزعةِ العقليَّةِ مكانةً مرموقةً، ورفعَت من شأنِ العقلِ وأحكامِه وقُدرتِه في الوصولِ إلى الحقيقةِ) [1699] ((دراسات في الفِرق والعقائد الإسلامية)) (ص: 125). .
وقال زكي نجيب محمود: (إنَّ أهمَّ جماعةٍ يمكِنُ لعَصرِنا أن يَرِثَها في وجهةِ نَظَرِها هي جماعةُ المُعتَزِلةِ التي جعَلت العَقلَ مَبدأَها الأساسَ كُلَّما أشكَل أمرٌ) [1700] يُنظر: ((تجديد الفكر العربي)) (ص: 117). .
وأخيرًا هذا الاستعراضُ لفِكرِ القومِ وموقِفُهم من كتابِ اللهِ تعالى قديمًا وحديثًا يختَصِرُ لنا المسافةَ التَّاريخيَّةَ بَينَهم في كِلَمتَينِ فقط: "وَحدةُ المُنطَلَقِ، وتَكرارُ الجِنايةِ"؛ فمُنطَلَقُهم واحِدٌ، هو تقديمُ العقلِ وتقديسُه وتعظيمُه عِندَ الأوَّلينَ والآخِرينَ، والجنايةُ واحِدةٌ، هي تعطيلُ النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ اليقينيَّةِ القطعيَّةِ من الكتابِ والسُّنَّةِ، وتعطيلُها يعني تعطيلَ أحكامِها؛ مِثلُ النُّصوصِ الشَّرعيَّةِ في الرِّدَّةِ، والحدودِ، وغَيرِها.

انظر أيضا: