الموسوعة الفقهية

المبحث السَّابع: أن يكون الوضوء بماء طَهور (ماء مطلَق)


يُشترط في صحَّةِ الوضوءِ أن يكونَ بماءٍ طَهورٍ، فلا يصحُّ بغيرِه، وهذا مَذهَبُ الجُمهورِ: المالكيَّة ((الشرح الكبير للشيخ الدردير وحاشية الدسوقي)) (1/ 33)، وينظر: ((الذخيرة)) للقرافي (1/168)، ((القوانين الفقهية)) لابن جزي (ص: 25). ، والشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (1/92)، وينظر: ((الحاوي الكبير)) للماوردي (1/47). ، والحنابلة ((المبدع)) لبرهان الدين ابن مفلح (1/15)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/10). ، وهو مذهبُ الظَّاهريَّة قال ابن حزم: (إنْ سقط عنه اسم الماء جملةً, كالنَّبيذِ وغيره, لم يجُز الوضوء به, ولا الغُسل، والحُكمُ حينئذ التيمُّمُ, وسواءٌ في هذه المسألةِ والتي قبلها, وُجد ماءٌ آخَر أم لم يوجَد... هذا قول مالك، والشافعيِّ، وأحمد، وداود، وغيرهم, وقال به الحسن، وعطاء بن أبي رباح، وسفيان الثوريُّ، وأبو يوسف، وإسحاق، وأبو ثور، وغيرهم). ((المحلى)) (1/195). ، وروايةٌ عن أبي حنيفةَ ((تبيين الحقائق وحاشية الشلبي)) (1/35)، ((أحكام القرآن)) للجصاص (4/27). ، وقولُ أبي يوسف، واختاره الطَّحاويُّ قال الطحاويُّ: (لا يجوز التوضُّؤ به في حالٍ مِن الأحوالِ, وهو قولُ أبي يوسف). ((شرح معاني الآثار)) (1/96). وقال النوويُّ: (أنصف الإمامُ أبو جعفر أحمد بن محمَّد بن سلامة الطحاوي إمام الحنفيَّة في الحديث، والمنتصر لهم؛ حيث قال في أوَّل كتابه: إنَّما ذهب أبو حنيفة ومحمد إلى الوضوء بالنَّبيذ؛ اعتمادًا على حديثِ ابن مسعود، ولا أصلَ له، فلا معنى لتطويلِ كتابي بشيءٍ فيه). ((المجموع)) (1/95). ، وحُكيَ فيه الإجماعُ قال ابن المُنذِر: (أجمعوا على أنَّ الوضوءَ لا يجوز بماءِ الورد، وماءِ الشَّجر، وماء العُصفر، ولا تجوز الطَّهارةُ إلَّا بماء مطلَق، يقع عليه اسمُ الماء، وأجمعوا على أنَّ الوضوءَ بالماء جائز، وأجمعوا على أنَّه لا يجوزُ الاغتسال، ولا الوضوءُ بشيء من هذه الأشرِبة سوى النَّبيذ). ((الإجماع)) (ص: 34). وقال ابن حزم: (أجمعوا أنَّه لا يجوزُ وضوءٌ بشيءٍ من المائعات وغيرها، حاشَا الماءَ والنَّبيذ). ((مراتب الإجماع)) (ص: 17). وقال ابن تيميَّة: (قد ذكر العلماء عن ابن أبي ليلى- وهو من أجلِّ مَن يَحكي ابنُ حزم قولَه- أنَّه يجزئُ الوضوءُ بالمعتصر، كماء الورد ونحوه، كما ذكروا ذلك عن الأصمِّ، لكنَّ الأصمَّ ليس ممَّن يعدُّه ابنُ حزم في الإجماع). ((نقد مراتب الإجماع)) (ص: 17). وقال القرطبيُّ: (أجمعوا على أنَّ الوضوءَ والاغتسالَ لا يجوزُ بشيءٍ من الأشربة سوى النبيذِ عند عدمِ الماء، وقوله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا **النساء: 43** يردُّه، والحديث الذي فيه ذِكر الوُضوءِ بالنَّبيذ رواه ابنُ مسعود، وليس بثابت؛ لأنَّ الذي رواه أبو زيدٍ، وهو مجهولٌ لا يُعرف بصُحبةِ عبد الله؛ قاله ابنُ المُنذِر وغيره). ((تفسير القرطبي)) (5/230). وقال النوويُّ: (رفْع الحدَثِ وإزالة النَّجَس لا يصحُّ إلَّا بالماءِ المطلَق، فهو مذهَبُنا، لا خلاف فيه عندنا، وبه قال جماهير السَّلف والخلف من الصَّحابة فمَن بعدَهم، وحَكى أصحابُنا عن محمَّد بن عبد الرَّحمن بن أبي ليلى وأبي بكر الأصمِّ: أنَّه يجوز رفْع الحدَث وإزالة النَّجس بكلِّ مائعٍ طاهر، قال القاضي أبو الطيِّب: إلَّا الدَّمع؛ فإنَّ الأصمَّ يوافِقُ على منْع الوضوءِ به، وقال أبو حنيفة: يجوز الوضوء بالنَّبيذِ على شرْط). ((المجموع)) (1/92، 93). وقال أيضًا: (أمَّا قول الغزاليِّ في الوسيط: طهارة الحدَث مخصوصة بالماء بالإجماع، فمحمول على أنَّه لم يبلغْه قولُ ابن أبي ليلى إن صحَّ عنه... وقد قال ابن المُنذِر في الإشراف وكتاب الإجماع: أجمع أهلُ العلم على أنَّه لا يجوزُ الوضوء بماء الورد والشجر والعصفر وغيره، ممَّا لا يقع عليه اسمُ ماء، وهذا يوافق نقْلَ الغزاليِّ). ((المجموع)) (1/93).
الأدلَّة: 
أوَّلًا: من الكتاب
1- قول الله تعالى: فَلَمْ تَجِدُوا مَاء فَتَيَمَّمُوا [النساء: 43]
وجه الدَّلالة:
أنَّه نصَّ على الانتقالِ إلى التُّراب عند عدَمِ الماء، فدلَّ على أنَّه لا يجوزُ التطهُّر بغيرهما؛ فمَن توضَّأ بالنَّبيذ، فقد ترَك المأمورَ به ((المجموع)) للنووي (1/92، 94)، ((المغني)) لابن قدامة (1/10).
2- قوله تعالى: وَأَنزَلْنَا مِنَ السَّمَاءِ مَاءً طَهُورًا [الفرقان: 48]
وجه الدَّلالة:
أنَّ قوله تعالى: طَهُورًا على وزنِ فَعول، وهو يأتي للذي يُفعَل به الفِعلُ، نحو الحَنوط والسَّحور والبَخور، والمعنى: أنَّ الماء هو الذي يُتطهَّرُ به، فينحصر المطهِّرُ فيه بسبب تخصيصِ الشَّرعِ له بالذِّكر، ومنْعِ القياسِ في الأسبابِ ((الذخيرة)) للقرافي (1/168).
3- قوله تعالى: وَيُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّمَاءِ مَاءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ [الأنفال: 11]
وجه الدَّلالة:
أنَّه نصٌّ في كون الماء هو الذي يُتطهَّر به ((الذخيرة)) للقرافي (1/168).
ثانيًا: مِن السُّنَّةِ
عن عِمرانَ بن حُصين رَضِيَ اللهُ عنه: ((أنَّ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم صلَّى ثمَّ رأى رجلًا معتزلًا لم يُصلِّ مع القومِ، فقال: يا فلانُ، ما منعك أن تُصلِّيَ مع القوم؟ فقال: يا رسولَ الله، أصابتْني جَنابةٌ ولا ماءَ، فقال: عليك بالصَّعيدِ؛ فإنَّه يكفيك )) رواه البخاري (348)، واللفظ له، ومسلم (682).
وجه الدَّلالة:
أنَّ الطَّهارةَ لو كانت تُجزِئُ بغير الماء، لأشبَه أن يقولَ له: اطلب نبيذ كذا، أو شرابَ كذا ((الأوسط)) لابن المُنذِر (1/364).
ثالثًا: أنَّ الصَّحابةَ رَضِيَ اللهُ عنهم كانوا يَعدَمونَ الماء في أسفارِهم ومعهم الدُّهنُ وغيرُه من المائعاتِ، وما نُقِل عن أحدٍ منهم الوضوءُ بغير ماءٍ ((المجموع)) للنووي (1/93).
مطلب: هل يُشترطُ أن يكون الوضوءُ بماءٍ مباح؟
لا يُشترطُ لصحَّة الوضوءِ أن يكونَ الماءُ مباحًا، فيصحُّ التطهُّرُ بالماء المسروق أو المغصوبِ، مع الإثمِ، وهذا مَذهَبُ الجُمهورِ: الحنفيَّة ((البناية شرح الهداية)) للبابرتي (1/759)، ((حاشية ابن عابدين)) (1/341). ، والمالكيَّة ((حاشية الدسوقي)) (1/144)، وينظر: ((شرح مختصر خليل)) للخرشي (1/181). ، والشَّافعيَّة ((المجموع)) للنووي (1/251).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّ الماءَ المسروقَ أو المغصوبَ استوفى أركانَ الطَّهارة وشروطَها؛ لذلك صحَّ التطهُّرُ به.
ثانيًا: أنَّ النهي إذا كان عائدًا إلى غيرِ ذات المنهيِّ عنه، فإنَّه لا يقتضي الفسادَ، وهنا الأمر كذلك، فلم ينهَ الشَّارعُ عن التطهُّر بالماءِ المغصوب، وإنَّما نهى عن الغَصبِ جملةً، فيكون نهيُ الشارعِ خارجَ ذات المنهيِّ عنه، فلا يفسد العَمل.

انظر أيضا: