الموسوعة الفقهية

المبحث الثَّالث: النِّيَّة


المطلب الأوَّل: حُكم النِّيَّة
النِّيَّة شرطٌ لصحَّة الوضوءِ؛ وهو مَذهَبُ الجُمهورِ: قال ابن رشد: (اختلَف علماءُ الأمصار؛ هل النيَّة شرطٌ في صحَّةِ الوضوء أم لا- بعدَ اتِّفاقهم على اشتراط النيَّة في العبادات؛ لقوله تعالى: وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ، ولقولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّما الأعمالُ بالنيَّات)) الحديث المشهور؟ فذهب فريقٌ منهم إلى أنَّها شرْطٌ، وهو مذهب الشافعيِّ، ومالك، وأحمد، وأبي ثور، وداود. وذهب فريقٌ آخر إلى أنَّها ليست بشرْطٍ، وهو مذهب أبي حنيفة، والثوريِّ؛ وسبب اختلافِهم تردُّدُ الوضوء بين أن يكون عبادةً محضة: أعني غيرَ معقولة المعنى، وإنما يُقصَد بها القُربةُ له فقط كالصَّلاةِ وغيرِها، وبين أن يكونَ عبادةً معقولةَ المعنى كغَسْل النَّجاسةِ، فإنَّهم لا يختلفون أنَّ العبادة المحضة مفتقرةٌ إلى النيَّة، والعبادة المفهومة المعنى غير مفتقرةٍ إلى النيَّة، والوضوءُ فيه شبَهٌ من العبادتين، ولذلك وقَع الخلافُ فيه؛ وذلك أنَّه يجمَعُ عبادةً ونظافة، والفِقه أن يُنظَر بأيِّهما هو أقوى شبهًا، فيُلحَق به). ((بداية المجتهد)) (1/8-9). ، المالكيَّة ((الكافي)) لابن عبدِ البَرِّ (1/164)، وينظر: ((القوانين الفقهية)) لابن جزي (ص: 19). ، والشَّافعيَّة ((روضة الطالبين)) للنووي (1/47)، ((مغني المحتاج)) للشربيني (1/47). ، والحنابلة ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/85)، وينظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/82). ، وهو مذهبُ الظاهريَّة ((بداية المجتهد)) لابن رشد (1/8).
الأدلَّة:
أوَّلًا: من الكتاب
1- قوله تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرَافِقِ وَامْسَحُوا بِرُؤُوسِكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَإِنْ كُنْتُمْ جُنُبًا فَاطَّهَّرُوا [المائدة: 6]
وجه الدَّلالة:
أنَّ معنى الآية: فاغسلوا وجوهَكم للصَّلاة، وهذا معنى النيَّة ((المجموع)) للنووي (1/313)، ويُنظر: ((المغني)) لابن قدامة (1/83).
ثانيًا: مِن السُّنَّةِ
عمومُ حديثِ عُمرَ بنِ الخطَّاب رَضِيَ اللهُ عنه، حيث قال: سمعتُ رسولَ الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقول: ((إنَّما الأعمالُ بالنِّيَّة، وإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نوى قال البَغويُّ: (قوله: ((إنَّما لامرئٍ ما نوى))، فيه إيجابُ تعيين النيَّة). ((شرح السنة)) (1/402). وقال ابن عبدِ البَرِّ: (هذا يقتضي أن يكون كلُّ عملٍ بغير نيةٍ لا يُجزئ). ((الاستذكار)) (1/264). وقال ابن حزم: (فهذا أيضًا عمومٌ لكلِّ عملٍ, ولا يجوز أن يُخصَّ به بعضُ الأعمال دون بعضٍ بالدَّعوى). ((المحلى)) (1/73). )) رواه البخاري (1) واللفظ له، ومسلم (1907).
المطلب الثَّاني: الجهرُ بالنِّيَّة
مَحَلُّ النِّيَّة القَلبُ، ولا يُشرَعُ النُّطقُ بها، وهذا مَذهَبُ المالكيَّة ((الذخيرة)) للقرافي (1/240)، ((القوانين الفقهية)) لابن جزي (ص: 42). ، وهو قولٌ للحنفيَّة ((البحر الرائق)) لابن نجيم (1/293)، ((حاشية ابن عابدين)) (1/108). ، والمنصوصُ عن أحمد ((كشاف القناع)) للبهوتي (1/87). ، واختاره ابن تيميَّة قال ابن تيميَّة: (ولكنْ تنازعَ العُلَماء؛ هل يُستحبُّ اللَّفظُ بالنيَّة؟ على قولين: فقال طائفةٌ مِن أصحاب أبي حنيفة، والشافعي، وأحمد: يُستحبُّ التلفُّظُ بها؛ لكونِه أوكدَ. وقالت طائفةٌ من أصحابِ مالك، وأحمد، وغيرِهما: لا يُستحب التلفُّظ بها؛ لأنَّ ذلك بدعة لم يُنقَل عن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ولا أصحابِه، ولا أمرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحدًا من أمَّته أن يلفِظَ بالنيَّة، ولا علَّم ذلك أحدًا من المسلمين، ولو كان هذا مشروعًا لم يهمِلْه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه، مع أنَّ الأمَّة مبتلاةٌ به كلَّ يومٍ وليلة. وهذا القول أصحُّ، بل التلفُّظ بالنيَّة نقْصٌ في العقل والدِّين: أمَّا في الدِّين فلأنَّه بدعةٌ، وأمَّا في العقل؛ فلأنَّ هذا بمنزلةِ مَن يريد أكْل الطَّعامِ، فقال: أنوي بوضْعِ يدي في هذا الإناءِ أني آخُذُ منه لُقمةً، فأضَعُها في فمِي فأمضغها، ثم أبلَعُها لأشبع، فهذا حُمقٌ وجهلٌ؛ وذلك أنَّ النيَّة تَتبَعُ العِلمَ، فمتى عَلِمَ العبد ما يفعل كان قد نواه ضرورةً، فلا يُتصوَّر مع وجودِ العِلم به أن لا تحصُلَ نيَّة، وقد اتَّفقَ الأئمَّة على أنَّ الجهرَ بالنيَّة وتكريرَها ليس بمشروعٍ، بل مَن اعتادَه، فإنَّه ينبغي له أن يؤدَّبَ تأديبًا يمَنعُه عن التعبُّدِ بالبِدَع، وإيذاءِ النَّاس برفْعِ صَوتِه، والله أعلم). ((الفتاوى الكبرى)) (1/214). وقال أيضًا: (الجهرُ بلفظِ النية أيضًا منهيٌّ عنه عند الشافعي وسائر أئمَّة الإسلام، وفاعلُ ذلك مسيءٌ، وإن اعتقد ذلك دينًا فقد خرج عن إجماعِ المُسلمين، ويجب نهيه عن ذلك، وإن عُزِلَ عن الإمامة إذا لم يَنْتِه كان له وجهٌ). ((مجموع فتاوى ابن تيمية)) (22/256). ، وابنُ القيِّم قال ابن القيِّم: (ولم يكن يقولُ في أوَّلِه: نويتُ رفعَ الحدث، ولا استباحةَ الصَّلاة، لا هو، ولا أحدٌ من أصحابه البتَّة، ولم يُروَ عنه في ذلك حرفٌ واحد، لا بإِسناد صحيح، ولا ضعيف). ((زاد المعاد)) (1/196، 201). ، وهو ظاهرُ اختيارِ الكمالِ ابنِ الهُمام قال الكمال ابن الهمام: (قال بعض الحفَّاظ: لم يثبت عن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بطريقٍ صحيحٍ ولا ضعيفٍ، أنَّه كان يقول عند الافتتاح: أُصلِّي كذا، ولا عن أحدٍ من الصَّحابة والتَّابعين، بل المنقولُ أنَّه كان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إذا قام إلى الصَّلاة كبَّر، وهذه بدعةٌ). ((فتح القدير)) (1/266، 267). وقال ابن نجيم: (ظاهر ما في فتح القدير اختيارُ أنَّه بِدعة). ((البحر الرائق)) (1/293). ، واختاره ابنُ باز قال ابن باز: (ليس له التلفُّظ بالنيَّة، لا في الصَّلاة، ولا في الوضوء؛ لأنَّ النيَّة محلُّها القلب؛ فإنَّه يأتي إلى الصَّلاة بنيَّة الصَّلاة ويكفي، يقوم للوضوء بنيَّة الوضوء ويكفي، وليس هناك حاجةٌ إلى أن يقول: نويتُ أن أتوضَّأ، أو: نويت أن أصلِّي، أو: نويت أن أصومَ، أو: نويت أن أحجَّ، أو ما أشبه ذلك؛ إنَّما النيَّة محلُّها القَلب؛ يقول النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((إنَّما الأعمالُ بالنيَّات، وإنَّما لكلِّ امرئٍ ما نوى))، ولم يكن عليه الصَّلاة والسَّلام ولا أصحابه يتلفَّظون بالنيَّة في الصَّلاة، ولا في الوضوء، وعلينا أن نتأسَّى بهم في ذلك، ولا نُحدِث في دِيننا ما لم يأذَنْ به الله، يقول عليه الصَّلاة والسَّلام: ((مَن عمِل عملًا ليس عليه أمرُنا، فهو ردٌّ))، يعني: فهو مردودٌ، وبهذا يُعلَم أنَّ التلفُّظ بدعةٌ، التلفُّظ بالنيَّة بدعة). ((فتاوى نور على الدرب لابن باز بعناية الشويعر)) (5/79). ، وابن عثيمين قال ابن عثيمين: (وأمَّا القول: بأنَّه يُسنُّ النُّطق بها جهرًا؛ فهذا أضعفُ وأضعف، وفيه مِن التَّشويش على النَّاس ولا سيَّما في الصَّلاة مع الجماعة ما هو ظاهر، وليس هناك حاجةٌ إلى التلفُّظ بالنيَّة؛ لأنَّ الله يعلمُ بها). ((الشرح الممتع)) (1/195). ، وحُكِيَ الإجماعُ على ذلك قال ابن تيميَّة: (نيَّة الطَّهارة- من وضوء أو غُسل أو تيمُّم- والصَّلاةِ والصِّيام، والحجِّ والزَّكاة، والكفَّارات، وغيرِ ذلك من العباداتِ؛ لا تفتقر إلى نُطقِ اللِّسانِ، باتِّفاق أئمَّة الإسلام، بل النيَّة محلُّها القلبُ دون اللِّسان باتِّفاقِهم). ((مجموع الفتاوى)) (22/230). وقال أيضًا: (محلُّ النيَّة القلب باتِّفاق الأئمَّة الأربعة وغيرهم، إلَّا بعضَ المتأخِّرين؛ أوجب التلفُّظ بها، وهو مسبوقٌ بالإجماع). ((مختصر الفتاوى المصرية)) (ص: 9).
وذلك للآتي:
أوَّلًا: أنَّ الجهرَ بالنيَّة لم يُنقَلْ عن رسول الله صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ولا عن أصحابه، ولا أمرَ النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحدًا من أمَّته أن يلفِظَ بالنيَّة، ولا علَّم ذلك أحدًا من المسلمينَ، ولو كان هذا مشروعًا لم يهملْه النبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه ((الفتاوى الكبرى)) لابن تيمية (1/214)، ((زاد المعاد)) لابن القيم (1/196، 201)، ((فتح القدير)) للكمال ابن الهمام (1/266، 267).
ثانيًا: أنَّ النيَّةَ مِن متعلِّقاتِ القَلب، فلا معنى لاشتراط النُّطقِ بها قال الطحطاوي: (لا يُشترط النُّطق بالنيَّة؛ لأنَّها من متعلِّقات القلب التي لا يُشترط لها النُّطق، وقد أجمَعَ العُلَماءُ على أنَّه لو نوى بقلبه ولم يتكلَّم بنيَّته، فإنَّه يجوز). ((حاشية الطحطاوي)) (ص: 148).

انظر أيضا: