موسوعة اللغة العربية

المَطلَبُ الَّثامِنُ: عَنْتَرةُ بنُ شَدَّادٍ العَبْسيُّ


هو عَنْتَرةُ بنُ شَدَّادِ بنِ مُعاوِيةَ بنِ قُرادِ بنِ مَخْزومِ بنِ مالِكِ بنِ غالِبِ بنِ قُطَيْعةَ بنِ عَبْسٍ، مِن شُعَراءِ الطَّبَقةِ السَّادِسةِ الَّتي لها قَصيدةٌ واحِدةٌ، وإن كانَ له شِعْرٌ كَثيرٌ، إلَّا أنَّ مُعلَّقتَه نادِرةٌ فأُلحِقَ بأصْحابِ الواحِدةِ [250] يُنظر: ((طبقات فحول الشعراء)) لابن سلام الجمحي (1/ 151). .
كانَ عَنْتَرةُ ابْنًا لشَدَّادٍ مِن أمَةٍ سَوْداءَ له تُسمَّى زَبيبةَ، وكانَتِ العَربُ تَأنَفُ أن تُلحِقَ أبْناءَها مِن الإماءِ بها، غيْرَ أنَّ عَنْتَرةَ اسْتَطاعَ أن يَنالَ حُرِّيَّتَه ويُثبِتَ نَسَبَه لأبيه في مَوقِفٍ واحِدٍ، وذلك حينَ أغارَتْ بعضُ القَبائِلِ على بَني عَبْسٍ، فأصابوا مِنهم، ولَحِقَهم العَبْسيُّونَ، وكانَ عَنْتَرةُ معَهم، فقالَ شَدَّادٌ: كُرَّ يا عَنْتَرةُ، فقالَ: أنا عَبْدٌ، والعَبْدُ لا يُحسِنُ الكَرَّ، إنَّما يُحسِنُ الحِلابَ والصَّرَّ، فقالَ شَدَّادٌ: كُرَّ وأنتَ حُرٌّ، فقامَ وهو يُنشِدُ:
أنا الهَجينُ عَنْتَرهْ
كلُّ امْرِئٍ يَحْمي حِرَهْ
أسْوَدَهُ وأحْمَرَهْ
والشَّعَراتِ المُشْعَرهْ
الوارِداتِ مِشْفَرَهْ
وقاتَلَ عَنْتَرةُ يَوْمَئذٍ قِتالًا حَسَنًا، انْتَزعَ به حُرِّيَّتَه، فأثْبَتَ أبوه نَسَبَه مِنه.
وقد كانَ عَنْتَرةُ فارِسًا نَبيلًا، يَجمَعُ بيْنَ الشَّجاعةِ والفُتوَّةِ وبيْنَ الحُبِّ الشَّريفِ النَّبيلِ، فقدْ وَلِهَ بعِشْقِ عَبْلةَ بِنْتِ مالِكٍ، وتَغنَّى بحُبِّها، وظَنَّ أنَّ حُرِّيَّتَه الَّتي نالَها وثُبوتَ نَسَبِه تُدْنيه مِن زَواجِها، غيْرَ أنَّ ذلك لم يَحدُثْ، فقدْ تَزوَّجَتْ مِن رَجُلٍ غيْرِه، وأغْلَبُ الظَّنِّ أنَّ عَنْتَرةَ ماتَ مِن غيْرِ أن يَتَزوَّجَ، فقدِ انْشَغلَ بالحُروبِ والغَزَواتِ.
وتَدُلُّنا أبْياتُه وأشْعارُه على مَكارِمِ أخْلاقِه، فلم تكنْ هِمَّتُه في الحُروبِ والمَغازي أن يَنالَ مِن الغَنائِمِ كما يَنالُ الآخَرونَ، بل كلُّ هَمِّه نُصْرةُ قَوْمِه والدِّفاعُ عنهم.
كما حرَصَ عَنْتَرةُ على إبْرازِ الجانِبِ العَفيفِ مِنه، فهو على قوَّتِه واقْتِدارِه لم يُغْوِ فَتاةً، ولا يَدَعُ الخَمْرَ تَذهَبُ به كلَّ مَذهَبٍ، بلْ إذا شَرِبَ لم يُسرِفْ في الشُّرْبِ:
فإذا شَرِبْتُ فإنَّني مُسْتهلِكٌ
مالي وعِرضي وافِرٌ لم يُكلَمِ
وإذا صَحَوْتُ فما أُقصِّرُ عن نَدًى
وكما علِمْتِ شَمائِلي وتَكرُّمي
وعنْدَما كانَ الشُّعَراءُ يَتَغزَّلونَ بالمرأةِ ويَذكُرونَ مَحاسِنَها ومَفاتِنَها، وكانَ بعضُهم يَتَغزَّلُ غَزَلًا ماجِنًا، فيَتَلصَّصُ على النِّساءِ ويَدخُلُ عليهنَّ في غَفْلةِ أزْواجِهنَّ، فإنَّ عَنْتَرةَ لم يكنْ كذلك، ويَكْفيه قولُه [251] ((ديوان عنترة بن شداد)) (ص: 308). :
أغْشى فَتاةَ الحَيِّ عنْدَ حَليلِها
وإذا غَزا في الجَيْشِ لا أغْشاها
وأغُضُّ طَرْفي ما بدَتْ لي جارتي
حتَّى يُواريَ جارتي مَأواها
إنِّي امْرُؤٌ سَمْحُ الخَليقةِ ماجِدٌ
لا أُتْبِعُ النَّفْسَ اللَّجوجَ هَواها
ولَئِنْ سألْتَ بذاك عَبْلةَ خَبَّرَتْ
أنْ لا أريدُ مِن النِّساءِ سِواها
وأُجيبُها إمَّا دَعَتْ لعَظيمةٍ
وأُعينُها وأكُفُّ عمَّا ساها
وقدِ اخْتُلِفَ في سَبَبِ مَوْتِ عَنْتَرةَ، فقيلَ: إنَّه أغارَ على بَني نَبْهانَ مِن طَيِّئٍ، وكانَ شَيْخًا كَبيرًا، فطَرَدَ لهم طَريدةً ومَضى بها وهو يَرْتَجِزُ، فأدْرَكَه أحَدُ بَني نَبْهانَ فرَماه فقُتِلَ.
وقيلَ: غَزا طَيِّئًا معَ قَوْمِه عَبْسٍ، فانْهَزَمَتْ عَبْسٌ وخَرَّ عَنْتَرةُ عن فَرَسِه، ولم يَقدِرْ أن يَركَبَه مِن كُبْرِه، فرَماه أحَدُ بَني طَيِّئٍ فقَتَلَه.
وقيلَ: كانَ قد أسَنَّ واحْتاجَ، فخَرَجَ إلى رَجُلٍ مِن غَطَفانَ يَتَقاضى بَكْرًا له عليه، فهاجَتْ عليه ريحٌ فأسْقَطَتْه عن فَرَسِه فماتَ [252] يُنظر: ((الأغاني)) لأبي الفرج الأصفهاني (8/ 386)، ((شرح المعلقات السبع)) للزوزني (ص: 237). .
أمَّا مُعلَّقتُه فالَّذي حمَلَه على نَظْمِها وتَأليفِها أنَّ رَجُلًا مِن بَني عَبْسٍ سابَّ عَنْتَرةَ وعيَّرَه بأمِّه وسَوادِه، وأنَّه لا يقولُ الشِّعْرَ، فرَدَّ عليه عَنْتَرةُ قائِلًا: واللهِ إنَّ النَّاسَ ليَترافَدونَ بالطُّعْمةِ، فما حضَرْتَ مَرفِدَ النَّاسِ أنتَ ولا أبوك ولا جدُّك قَطُّ، وإنَّ النَّاسَ ليُدْعَونَ في الغاراتِ فيُعْرَفونَ بتَسْويمِهم، فما رَأيْناك في خَيْلٍ مُغيرةٍ في أوائِلِ النَّاسِ قَطُّ، وإنَّ اللَّبْسَ لَيكونُ بيْنَنا، فما حضَرْتَ أنتَ ولا أبوك ولا جدُّك خُطَّةَ فَصْلٍ، وإنَّما أنتَ فَقْعٌ نَبَتَ بقَرْقَرٍ، وإنِّي لأحْضُرُ البأسَ، وأُوفي المَغنَمَ، وأعِفَّ عنِ المَسألةِ، وأجودُ بما مَلَكَتْ يَدي، وأفصِلُ الخُطَّةَ الصَّمْعاءَ، وأمَّا الشِّعْرُ فستَعلَمُ. ثُمَّ أنْشَدَ بعْدَ ذلك مُعلَّقتَه تلك [253] ((الشعر والشعراء)) لابن قتيبة (1/244). .
وقد بدَأَ عَنْتَرةُ مُعلَّقتَه بالوُقوفِ على الأطْلالِ والبُكاءِ عليها، ثُمَّ تَذكُّرِ الأحِبَّةِ، ثُمَّ دخَلَ في الغَزَلِ، وفيه ذَكَرَ عَبْلةَ ووَصَفَ حبَّه لها، ثُمَّ قَصَدَ إلى عَزْمِه وهو الفَخْرُ حيثُ أطالَ فيه. والمُعلَّقةُ على بَحْرِ الكامِلِ ورَوِيُّها الميمُ، وهي في أرْبَعةٍ وسَبْعينَ بَيْتًا عنْدَ الزَّوْزنيِّ، وفي غيْرِه خَمْسةٌ وسَبْعونَ.
ومَطلَعُ مُعلَّقتِه [254] ((ديوان عنترة بن شداد)) (ص: 182). :
هلْ غادَرَ الشُّعَراءُ مِن مُتَرَدَّمِ
أمْ هلْ عَرَفْتَ الدَّارَ بعْدَ تَوَهُّمِ
أعْياكَ رَسْمُ الدَّارِ لمْ يَتَكَلَّمِ
حتَّى تَكَلَّمَ كالأَصَمِّ الأعْجَمِ
ولقدْ حَبَسْتُ بِها طَويلًا ناقَتي
أَشْكُو إلى سُفْعٍ رَوَاكِدَ جُثَّمِ
يا دارَ عَبْلةَ بِالجَواءِ تَكَلَّمي
وعِمي صَباحًا دارَ عَبْلةَ واسْلَمي
فوَقَفْتُ فيها ناقَتي وكأنَّها
فَدَنٌ لأَقْضِيَ حاجةَ المُتَلَوِّمِ
وتَحُلُّ عَبْلةُ بالجَواءِ وأهْلُنا
بِالحَزْنِ فالصَّمانِ فالمُتَثَلَّمِ
حُيِّيتَ مِن طَلَلٍ تَقادَمَ عَهْدُهُ
أقْوَى وأَقْفَرَ بعْدَ أُمِّ الهَيثَمِ
حَلَّتْ بأرْضِ الزَّائِرينَ فأصْبَحَتْ
عَسِرًا عليَّ طِلابُكِ ابْنةَ مَخْرَمِ
عُلِّقْتُها عَرَضًا وأقْتُلُ قَوْمَها
زَعْمًا لَعَمْرُ أبيكَ ليسَ بمَزعَمِ
ولقدْ نَزَلْتِ فلا تَظُنِّي غيْرَهُ
مِنِّي بِمَنزِلةِ المُحَبِّ المُكْرَمِ
كيف المَزارُ وقدْ تَرَبَّعَ أهْلُها
بِعُنَيْزتَينِ وأهْلُنا بالغَيلَمِ
إن كنْتِ أزْمَعْتِ الفِراقَ فإنَّما
زُمَّتْ رِكَابُكمُ بِلَيْلٍ مُظلِمِ
ما راعَني إلَّا حَمولةُ أهْلِها
وَسْطَ الدِّيارِ تَسَفُّ حَبَّ الخِمْخِمِ
ومِنه:
أَثْني عليَّ بِما عَلِمْتِ فإنَّنِي
سَمْحٌ مُخالَطَتي إذا لمْ أُظلَمِ
فإذا ظُلِمْتُ فإنَّ ظُلْمي باسِلٌ
مُرٌّ مَذاقتُهُ كطَعْمِ العَلقَمِ
ولقدْ شَرِبْتُ مِن المُدامةِ بعْدَما
رَكَدَ الهَواجِرُ بالمَشوفِ المُعلَمِ
بزُجاجةٍ صَفْراءَ ذاتِ أسِرَّةٍ
قُرِنَتْ بأزْهَرَ في الشِّمالِ مُفَدَّمِ
فإذا شَرِبْتُ فإنَّني مُسْتَهلِكٌ
مالي وعِرْضي وافِرٌ لمْ يُكلَمِ
وإذا صَحَوْتُ فما أُقَصِّرُ عنْ نَدًى
وكما عَلِمْتِ شَمائِلي وَتَكَرُّمي
وحَليلِ غانِيةٍ تَرَكْتُ مُجَدَّلًا
تَمْكو فَريصتُهُ كشِدْقِ الأَعْلَمِ
سَبَقَتْ يَدايَ لهُ بِعاجِلِ طَعْنةٍ
ورَشاشِ نافِذةٍ كلَوْنِ العَنْدَمِ
هَلَّا سَألْتِ الخَيْلَ يا ابْنةَ مالِكٍ
إن كنْتِ جاهِلةً بما لمْ تَعلَمي
إذْ لا أَزالُ على رِحالةِ سابِحٍ
نَهْدٍ تَعاوَرُهُ الكُماةُ مُكَلَّمِ
طَورًا يُجَرَّدُ للطِّعانِ وتارةً
يَأْوي إلى حَصِدِ القِسِيِّ عَرَمْرمِ
يُخْبِرْكِ مَن شَهِدَ الوَقيعةَ أنَّني
أغْشى الوَغى وأعِفُّ عنْدَ المَغنَمِ
ولقدْ ذَكَرْتُكِ والرِّماحُ نَواهِلٌ
مِنِّي وبِيضُ الهِنْدِ تَقطُرُ مِن دَمي

انظر أيضا: