موسوعة اللغة العربية

المَطلَبُ الأوَّلُ: امْرُؤُ القَيْسِ


هو: امْرُؤُ القَيْسِ بنِ حُجْرِ بنِ الحارِثِ الكِنْديُّ، مِن بَني آكِلِ المُرارِ، يَمانيُّ الأصْلِ، مَوْلِدُه بنَجْدٍ، أو بمِخلافِ السَّكاسِكِ باليَمَنِ، اشْتَهرَ بلَقَبِه، واخْتَلفَ المُؤَرِّخونَ في اسمِه، فقيل: حُنْدُجٌ، وقيلَ: مُلَيكةُ، وقيلَ: عَدِيٌّ. وكانَ أبوه مَلِكَ أسَدٍ وغَطَفانَ، وخالُه المُهَلْهِلَ الشَّاعِرَ، فلَقَّنَه الشِّعْرَ، فقالَه وهو غُلامٌ، وجَعَلَ يُشبِّبُ ويَلْهو ويُعاشِرُ صَعاليكَ العَربِ، فبَلَغَ ذلِك أباه، فنَهاه عن سيرتِه فلم يَنْتَهِ، فأبْعَدَه إلى حَضْرَمَوْتَ، مَوطِنِ آبائِه وعَشيرتِه، وهو في نَحْوِ العِشرينَ مِن عُمرِه، فأقامَ زُهاءَ خَمْسِ سنينَ، ثُمَّ جعَلَ يَتنقَّلُ معَ أصْحابِه في أحْياءِ العَربِ، يَشرَبُ ويَطرَبُ، ويَغْزو ويَلْهو.
وكانَ أبوه قد ساءَتْ سيرتُه في بَني أسَدٍ، فثاروا عليه وقَتَلوه، فبَلَغَ ذلك امْرَأَ القَيْسِ وهو جالِسٌ للشَّرابِ، فقالَ: رحِمَ اللهُ أبي! ضيَّعَني صَغيرًا، وحمَّلَني دَمَه كَبيرًا، لا صَحْوَ اليَوْمَ ولا سُكْرَ غدًا! اليَوْمَ خَمْرٌ وغَدًا أمْرٌ، وأنْشَدَ يقولُ:
خَليلَيَّ ما في اليَوْمِ مَصْحًى لشارِبٍ
ولا في غَدٍ إذ كانَ ما كانَ مَشرَبُ
ثُمَّ قامَ فاسْتَنْهضَ القَبائِلَ لقِتالِ بَني أسَدٍ، فاجْتَمعَ له شيءٌ يَسيرٌ، فدارَتْ بيْنَه وبيْنَ بَني أسَدٍ مُناوَشاتٌ وقَتَلَ منهم شيئًا، غيْرَ أنَّه لم يَكتَفِ بهذا، فتَفرَّقَ عنه أكْثَرُ جَيْشِه، وكانَتْ حُكومةُ فارِسَ ساخِطةً على بَني آكِلِ المُرارِ (آباءِ امْرِئِ القَيْسِ)، فأوْعَزَتْ إلى المُنذِرِ (مَلِكِ العِراقِ) بطَلَبِ امْرِئِ القَيْسِ، فطلَبَه، فابْتَعدَ وتَفرَّقَ عنه أنْصارُه، فطافَ قَبائِلَ العَربِ حتَّى انْتَهى إلى السَّمَوْألِ، فأجارَه فأقامَ عنْدَه مُدَّةً، ثُمَّ أرادَ أن يَسْتَعينَ بالرُّومِ على الفُرْسِ، فقَصَدَ الحارِثَ بنَ أبي شَمِرٍ الغَسَّانيَّ، فسيَّرَه هذا إلى قَيْصرِ الرُّومِ، فوَشى عليه بعضُ النَّاسِ عنْدَ المَلِكِ، فأعْطاه حُلَّةً مَسْمومةً، فلبِسَها وهو في طَريقِه في أنْقَرةَ، فظهَرَتْ في جِسْمِه قُروحٌ؛ لِذلك سُمِّيَ بذي القُروحِ، فماتَ بسَبَبِها في أنْقَرةَ [216] ينظر: ((الشعر والشعراء)) لابن قتيبة (1/ 107)، ((الأعلام)) للزركلي (2/11). .
وذهَبَ بعضُ النَّاسِ إلى تَفْضيلِه على جَميعِ الشُّعَراءِ؛ قالَ لَبيدُ بنُ رَبيعةَ: أشْعَرُ النَّاسِ ذو القُروحِ، يَعْني امْرَأَ القَيْسِ، وقالَ عنه جَريرٌ: "اتَّخَذَ الخَبيثُ ‌الشِّعْرَ ‌نَعْلَينِ يَطؤُهما كيف يَشاءُ!" [217] ينظر: ((الشعر والشعراء)) لابن قتيبة (1/ 107)، ((أشعار الشعراء الستة الجاهليين)) للأعلم الشنتمري (ص:62). .
وقدْ سبَقَ امْرُؤُ القَيْسِ إلى أشْياءَ ابْتَدَعَها، واسْتَحْسَنَها العَربُ، واتَّبَعَتْه عليها الشُّعَراءُ، مِن اسْتيقافِه صَحْبَه في الدِّيارِ، ورِقَّةِ النَّسيبِ، وقُرْبِ المَأخَذِ [218] ينظر: ((الشعر والشعراء)) لابن قتيبة (1/107). .
ومُعلَّقتُه أوَّلُ المُعلَّقاتِ وأقْدَمُها، وهي أشْهَرُ قَصائِدِ امْرِئِ القَيْسِ، وهي على بَحْرِ الطَّويلِ، ورَوِيُّها حَرْفُ اللَّامِ، وعَدَدُ أبْياتِها سَبْعةٌ وسَبْعونَ بَيْتًا في رِوايةِ الأصْمَعيِّ، وزادَ بعضُهم فيها أرْبَعةَ أبْياتٍ كما في شَرْحِ المُعلَّقاتِ للزَّوْزنيِّ؛ ليكونَ المَجْموعُ واحِدًا وثَمانينَ بَيْتًا، وقيلَ: الأبْياتُ الزِّيادةُ لتَأبَّطَ شرًّا، وليستْ له، ومَطلَعُ المُعلَّقةِ قولُه:
قِفا نَبْكِ مِن ذِكرى حَبيبٍ ومَنزِلِ
بِسِقْطِ اللِّوى بيْنَ الدَّخولِ فحَوْمَلِ
فتُوضِحَ فالمِقْراةِ لم يَعْفُ رَسْمُها
لِما نَسَجَتْها مِن جَنوبٍ وشَمْألِ
رُخاءً تَسُحُّ الرِّيحُ في جَنَباتِها
كَساها الصَّبا سَحْقَ المُلاءِ المُذَيَّلِ
تَرَى بَعَرَ الآرامِ في عَرَصاتِها
وقيعانِها كأنَّهُ حَبُّ فُلْفُلِ
كأنِّي غَداةَ البَيْنِ يَوْمَ تَحَمَّلوا
لدى سَمُراتِ الحَيِّ ناقِفُ حَنظَلِ
وُقوفًا بِها صَحْبي عليَّ مَطِيَّهُمْ
يَقولونَ: لا تَهلِكْ أَسًى وتَجَمَّلِ
ومِنها:
أفاطِمُ مَهْلًا بعْضَ هذا التَّدَلُّلِ
وإن كُنْتِ قد أَزْمَعْتِ صَرْمي فأجْمِلي
أَغَرَّكِ منِّي أنَّ حُبَّكِ قاتِلي
وأنَّكِ مَهْما تأْمُري القَلْبَ يَفعَلِ
وأنَّكِ قَسَّمتِ الفُؤادَ فنِصفُهُ
قَتيلٌ ونِصفٌ في حَديدٍ مُكَبَّلِ
فإنْ تَكُ قَدْ سَاءَتْكِ منِّي خَليقَةٌ
فَسُلِّي ثِيابي مِن ثِيابِكِ تَنْسُلِ
وما ذَرَفَتْ عَيناكِ إلَّا لتَضْرِبي
بِسَهْمَيكِ في أَعْشارِ قَلْبٍ مُقَتَّلِ
ومِنها:
ولَيلٍ كمَوْجِ البَحْرِ أَرْخى سُدولَهُ
عَلَيَّ بأَنْواعِ الهُمومِ ليَبتَلي
فَقُلْتُ لهُ لمَّا تَمَطَّى بِجَوْزِهِ
وأَرْدَفَ أَعْجازًا وناءَ بكَلْكَلِ
ألَا أيُّها اللَّيلُ الطَّويلُ ألَا انْجَلِ
بصُبْحٍ وما الإصْباحُ مِنكَ بأمْثَلِ
فيا لَكَ مِن لَيْلٍ كأنَّ نُجومَهُ
بِكُلِّ مُغارِ الفَتْلِ شُدَّتْ بِيَذْبُلِ
وقدْ أغْتَدي والطَّيرُ في وُكُناتِها
بمُنجَرِدٍ قَيْدِ الأوابِدِ هَيْكَلِ
مِكَرٍّ مِفَرٍّ مُقْبِلٍ مُدْبِرٍ معًا
كجُلْمودِ صَخْرٍ حَطَّهُ السَّيْلُ مِن عَلِ [219] يُنظر: ((ديوان امرؤ القيس)) (ص: 21).

انظر أيضا: