موسوعة اللغة العربية

المَبْحَثُ الأوَّلُ: حُكمُ الاستِشهادِ بالقُرآنِ الكَريمِ


اختلف العُلَماءُ في حُكمِ الاستِشهادِ بالقُرآنِ الكريمِ في الكِتاباتِ وسائِرِ الكَلامِ، وأكثَرُ أهلِ العِلْمِ على جوازِه ما لم يُحَلْ عن لَفْظِه أو يُغَيَّرْ مِن معناه، وقد استَشهَدَ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالقُرآنِ وضَمَّنه رِسالاتِه، كما كَتَب إلى هِرَقْلَ: ((بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، من محمَّدٍ عَبدِ اللهِ ورَسولِه، إلى هِرَقْلَ عَظيمِ الرُّومِ، سَلامٌ على مَنِ اتَّبَع الهُدى، أمَّا بَعْدُ: فإنِّي أدعوك بدعايةِ الإسلامِ، أسلِمْ تَسْلَمْ، وأسلِمْ يُؤتِك اللهُ أجْرَك مرَّتَينِ، فإن توَلَّيتَ فعليك إثْمُ الأَريسِيِّينَ، ويَا أَهْلَ الْكِتَابِ تَعَالَوْا إِلَى كَلِمَةٍ سَوَاءٍ بَيْنَنَا وَبَيْنَكُمْ أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ وَلَا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئًا وَلَا يَتَّخِذَ بَعْضُنَا بَعْضًا أَرْبَابًا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ [آل عمران: 64] )) [44] أخرجه البُخاريُّ (2941) واللفظ له، ومسلمٌ (1773) من حديثِ سُفيانَ بنِ حَربٍ رَضِيَ اللهُ عنه. .
وأملى أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنه في آخِرِ حَياتِه عَهْدًا بالخِلافةِ على عُثْمانَ بنِ عَفَّانَ، فقال: (اكتُبْ: بِسْمِ اللهِ الرَّحمنِ الرَّحيمِ، هذا ما أوصى به أبو بَكرِ بنُ أبي قُحافةَ عِنْدَ آخِرِ عَهْدِه بالدُّنْيا خارِجًا منها، وأوَّلِ عَهْدِه بالآخِرةِ داخِلًا فيها، حينَ يَصدُقُ الكاذِبُ، ويؤدِّي الخائِنُ، ويُؤمِنُ الكافِرُ، إنِّي استخلفْتُ بَعْدي عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ؛ فإنْ عَدَل فذاك ظنِّي به ورَجائي فيه، وإنْ بدَّل وجارَ فلا أعلَمُ الغَيْبَ، ولكُلِّ امرِئٍ ما اكتَسَب، وَسَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ [الشعراء: 227] ) [45] أخرجه البيهقي (17018) واللفظ له، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (44/251) باختلاف يسير. .
وبلغَ الحَسَنَ البَصْرِيَّ أنَّ الحَجَّاجَ بنَ يُوسُفَ يُنكِرُ على رَجُلٍ الاستِشهادَ بالقُرآنِ، فقال الحَسَنُ: أنسِيَ نَفْسَه حينَ كَتَب إلى عَبدِ المَلِكِ بنِ مَرْوانَ: بلَغَني أنَّ أميرَ المُؤمنينَ عَطَس، فشمَّته مَن حضر، فرَدَّ عليهم، يَا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزًا عَظِيمًا [النساء: 73] [46] يُنظر: ((نهاية الأرب في صناعة الأدب)) للنويري (7/29). ؟! أي: كيف يُنكِرُ الاستِشهادَ الصَّحيحَ بالقُرآنِ الكريمِ، وهو نَفْسُه كان يَستشهِدُ به في المعاني غَيرِ اللَّائِقةِ بالقُرآنِ!
على أنَّه لا يجوزُ الاستِشهادُ بكُلِّ ما أراد اللهُ به نَفْسَه إلَّا بإضافتِه للهِ سُبحانَه؛ فلا يجوزُ للرَّجُلِ أن يتكَلَّمَ عن نَفْسِه مَثَلًا، ثمَّ يقولَ: بَلَى وَرُسُلُنَا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ [الزخرف: 80] ، أو يقولَ: وَنَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ [ق: 16] ؛ لِما في ذلك من إساءةِ الأدَبِ مع اللهِ تعالَى [47] يُنظر: ((حسن التوسل إلى صناعة الترسل)) لابن فهد (ص: 4)، ((صبح الأعشى في صناعة الإنشاء)) للقلقشندي (1/230). وقدْ كان السَّلفُ رضوانُ اللهِ عليهم يَكرهونَ استعمالَ القُرآنِ بديلًا للكلامِ بيْن النَّاسِ؛ قال أبو عُبيدٍ القاسمُ بنُ سلَّامٍ في قولِ إبراهيمَ النَّخَعيِّ: (كانوا يَكرهون أنْ يَتلوَ الرَّجُلُ الآيةَ عِندَ الشيءِ يَعرِضُ مِن أمْرِ الدُّنيا، وهذا كالرَّجُلِ يُريدُ لِقاءَ صاحبِه، أو يهُمُّ بالحاجةِ، فتأتيه مِن غيرِ طلَبٍ، فيقول كالمازحِ: جِئْتَ عَلَى قَدَرٍ يَا مُوسَى! وهذا مِن الاستخفافِ بالقرآنِ. ومِنه قولُ ابنِ شهابٍ الزُّهريِّ: لا تُناظِرْ بكِتابِ اللهِ، ولا بسُنَّةِ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّمَ). يُنظر: ((فضائل القرآن)) للقاسم بن سلام (ص: 124). وقال ابن قدامة في ((المغني)) (3/203): (ولا يجوزُ أنْ يُجعلَ القُرآنُ بدلًا مِن الكلامِ؛ لأنَّه استِعمالٌ له في غَيرِ ما هو له؛ فأشبَه استعمالَ المصحَفِ في التَّوَسُّدِ ونحوِه). .

انظر أيضا: