موسوعة اللغة العربية

تمهيدٌ: حِفظُ القُرآنِ الكَريمِ


ينبغي للكاتِبِ أن يكونَ حافِظًا لكِتابِ اللهِ تعالى، فاهِمًا لمعانيه، مُتدَبِّرًا لبلاغتِه وسُموقِ لُغَتِه، يُحسِنُ الاستِشهادَ بالآياتِ والاقتِباسَ منها؛ فإنَّ اللهَ إنَّما تحدَّى فُصَحاءَ العَرَبِ ونَوابِغَهم ببَديعِ بيانِه؛ فأذعَنوا لبلاغتِه، وخَضَعوا عِرْفانًا لفَضْلِه، وعَجْزًا عن الإتيانِ بسورةٍ مِثْلِه، على ما هم عليه مِنِ استقامةِ اللِّسانِ واعتِدالِ الأُسلوبِ وجَودةِ البَيانِ.
قال شِهابُ الدِّينِ ابنِ فَهدٍ: (فأوَّلُ ما يَبدَأُ به مَن يُريدُ الكِتابةَ: حِفْظُ كِتابِ اللهِ تعالى ومُداومةُ قِراءتِه، ومُلازَمةُ دَرْسِه وتدَبُّرُ مَعانيه؛ حتَّى لا يزالَ مُصَوَّرًا في فِكْرِه، دائرًا على لِسانِه، ممثَّلًا في قَلْبِه، ذاكِرًا له في كُلِّ ما يَرِدُ عليه مِنَ الوقائعِ الَّتي يحتاجُ إلى الاستِشهادِ به فيها، ويفتَقِرُ إلى إقامةِ الأدِلَّةِ القاطِعةِ عليها، وكفى بذلك مُعينًا له في قَصْدِه، ومُغْنيًا له عن غَيرِه، قال اللهُ تعالى: مَا فَرَّطْنَا فِي الْكِتَابِ مِنْ شَيْءٍ [الأنعام: 38] ) [40] يُنظر: ((حسن التوسل إلى صناعة الترسل)) لابن فهد (ص: 2). .
وتصديقُ ذلك أنَّ الحُسَينَ بنَ الفَضْلِ كان يتتَبَّعُ أمْثالَ العَرَبِ وأقوالَهم فيَستخرِجُ لها نَظيرًا مِنَ القُرآنِ، فقيلَ له: إنَّك تُخرِجُ أمْثالَ العَرَبِ والعَجَمِ مِنَ القُرآنِ، فهل تَجِدُ في كِتابِ اللهِ: "خَيرُ الأُمورِ أوساطُها"؟ قال: نعم، في أربَعةِ مواضِعَ: قَولُه تعالى: بَقَرَةٌ لَا فَارِضٌ وَلَا بِكْرٌ عَوَانٌ بَيْنَ ذَلِكَ [البقرة: 68] ، وقَولُه تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان: 67] ، وقَولُه تعالى: وَلَا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلَى عُنُقِكَ وَلَا تَبْسُطْهَا كُلَّ الْبَسْطِ [الإسراء: 29] ، وقَولُه تعالى: وَلَا تَجْهَرْ بِصَلَاتِكَ وَلَا تُخَافِتْ بِهَا وَابْتَغِ بَيْنَ ذَلِكَ سَبِيلًا [الإسراء: 110] .
قيل: فهل تَجِدُ في كِتابِ اللهِ: "مَن جَهِل شيئًا عاداه"؟ قال: نَعَمْ، في مَوضِعَينِ: بَلْ كَذَّبُوا بِمَا لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَلَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ [يونس: 39] ، وَإِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هَذَا إِفْكٌ قَدِيمٌ [الأحقاف: 11] .
قيل: فهل تَجِدُ في كِتابِ اللهِ: "احذَرْ شَرَّ مَن أحسَنْتَ إليه"؟ قال: نَعَمْ وَمَا نَقَمُوا إِلَّا أَنْ أَغْنَاهُمُ اللَّهُ وَرَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ [التَّوبة: 74] .
قيل: فهل تَجِدُ في كِتابِ اللهِ: "ليس الخَبَرُ كالعِيانِ"؟ قال: في قَولِه تعالى: أَوَلَمْ تُؤْمِنْ قَالَ بَلَى وَلَكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي [البقرة: 260] .
قيل: فهل تَجِدُ: "في الحَرَكاتِ البَرَكاتُ"؟ قال: في قَولِه تعالى: وَمَنْ يُهَاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُرَاغَمًا كَثِيرًا وَسَعَةً [النساء: 100] .
قيل: فهل تَجِدُ "كما تَدينُ تُدانُ"؟ قال: في قَولِه تعالى: مَنْ يَعْمَلْ سُوءًا يُجْزَ بِهِ [النساء: 123] .
قيل: فهل تَجِدُ فيه قَولَهم: "حينَ تَلْقَى تَدْري"؟ قال: وَسَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذَابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا [الفرقان: 42] .
قيل: فهل تَجِدُ فيه "لا يُلدَغُ المؤمِنُ مِن جُحْرٍ مَرَّتَينِ"؟ قال: هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلَّا كَمَا أَمِنْتُكُمْ عَلَى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ [يوسف: 64] .
قيل: فهل تَجِدُ فيه: "من أعان ظالِمًا سُلِّط عليه"؟ قال: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَيَهْدِيهِ إِلَى عَذَابِ السَّعِيرِ [الحج: 4] .
قيل: فهل تَجِدُ فيه قَولَهم: "لا تَلِدُ الحَيَّةُ إلَّا حَيَّةً"؟ قال: قَولُه تعالى: وَلَا يَلِدُوا إِلَّا فَاجِرًا كَفَّارًا [نوح: 27] .
قيل: فهل تَجِدُ فيه: "للحِيطانِ آذانٌ"؟ قال: وَفِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ [التَّوبة: 47] .
قيل: فهل تَجِدُ فيه: "الجاهِلُ مَرزوقٌ والعالِمُ مَحرومٌ"؟ قال: مَنْ كَانَ فِي الضَّلَالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمَنُ مَدًّا [مريم: 75] .
قيل: فهل تَجِدُ فيه "الحَلالُ لا يأتيك إلَّا قُوتًا، والحَرامُ لا يأتيك إلَّا جُزافًا"؟ قال: إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتَانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعًا وَيَوْمَ لَا يَسْبِتُونَ لَا تَأْتِيهِمْ [الأعراف: 163] [41] يُنظر: ((الإتقان في علوم القرآن)) للسيوطي (4/ 48). .
وقيل لرَجُلٍ: أين تجِدُ في القُرآنِ: "الجارُ قَبْلَ الدَّارِ"؟ فقال: في قَولِه تعالى: وَضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قَالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتًا فِي الْجَنَّةِ [التَّحريم: 11] ، أي: قالت: "عندك" قَبْلَ أن تقولَ: "بيتًا"، فطَلَبَت الجارَ قَبْلَ الدَّارِ [42] يُنظر: ((حسن التوسل إلى صناعة الترسل)) لابن فهد (ص: 3). .
ومِن شَرَفِ الكِتابِ العَزيزِ أنَّ في الاستِشهادِ به إقامةَ الحُجَّةِ وقَطْعَ النِّزاعِ وإذعانَ الخَصْمِ، كما رُوِيَ أنَّ الحَجَّاجَ قال لبَعْضِ العُلَماءِ: أنت تزعُمُ أنَّ الحُسَينَ رَضِيَ اللهُ عنه مِن ذُرِّيَّةِ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فَأْتِني على ذلك بشاهدٍ من كِتابِ اللهِ تعالى وإلَّا قتَلْتُك، فقرأ: وَتِلْكَ حُجَّتُنَا آتَيْنَاهَا إِبْرَاهِيمَ عَلَى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجَاتٍ مَنْ نَشَاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ * وَوَهَبْنَا لَهُ إِسْحَاقَ وَيَعْقُوبَ كُلًّا هَدَيْنَا وَنُوحًا هَدَيْنَا مِنْ قَبْلُ وَمِنْ ذُرِّيَّتِهِ دَاوُودَ وَسُلَيْمَانَ وَأَيُّوبَ وَيُوسُفَ وَمُوسَى وَهَارُونَ وَكَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ * وَزَكَرِيَّا وَيَحْيَى وَعِيسَى وَإِلْيَاسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ [الأنعام: 83-85] ، قال: وعيسى مِن ذُرِّيَّةِ إبراهيمَ، وهو ابنُ بِنْتِه، فأُسكِتَ الحَجَّاجُ [43] يُنظر: ((حسن التوسل إلى صناعة الترسل)) لابن فهد (ص: 4). !
والحَجَّاجُ لم يُرِدْ أنَّ الحُسَينَ ليس مِن وَلَدِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وإنَّما يُريدُ أنَّه ليس مِن ذُرِّيَّتِه؛ إذِ الذُّرِّيَّةُ -في زَعْمِه- أبناءُ الذُّكورِ دونَ الإناثِ، فأجاب العالِمُ بأنَّ اللهَ ذكَرَ مِن ذُرِّيَّةِ إبراهيمَ عيسى، عليهما السَّلامُ، وعيسى لا أبَ له، فيكونُ مِن ذُرِّيَّتِه عن طريقِ أُمِّه مَرْيَمَ.
وفَضائِلُ حِفْظِ القُرآنِ على الكاتِبِ لا تُعَدُّ ولا تُحْصى؛ ففَضْلًا عن ثَوابِ قِراءةِ القُرآنِ وحِفْظِه، وما أعدَّه اللهُ للقارِئِ والحافِظِ، ففي بابِ الكِتابةِ يُعَدُّ القُرآنُ ثَرْوةً لُغَويَّةً هائِلةً، بما يحويه مِن أفصَحِ الألفاظِ وأجزَلِ التَّراكيبِ، وما فيه من جَواهِرِ البَلاغةِ ودُرَرِ الفَصاحةِ؛ فإنَّ القارِئَ إذا استوعَبَ أُسلوبَ القُرآنِ استطاع أن يَستخرِجَ تلك الجواهِرَ والدُّرَرَ فيُودِعَها نَظْمَه ونَثْرَه، كما أنَّ الكاتِبَ إذا ضمَّن كَلامَه الآياتِ في أماكِنِها اللَّائِقةِ بها ومواضِعِها المُناسِبةِ لها، فإنَّه لا شُبهةَ فيما يَصيرُ للكَلامِ بذلك مِنَ الفَخامةِ والجَزالةِ والرَّونَقِ.

انظر أيضا: