موسوعة الأخلاق والسلوك

تاسعًا: أخطاءٌ شائعةٌ حَولَ الجِدِّيَّةِ والحَزمِ


1- الاعتِقادُ أنَّ الجِدِّيَّةَ كَلِمةٌ مُرادِفةٌ للغُلُوِّ، وأنَّ الحَزمَ يعني العُنفَ، وأنَّ الجادَّ الحازِمَ لا يكونُ إلَّا كذلك، وهذا اعتِقادٌ خَطَأٌ؛ فالجِدِّيَّةُ لا تتنافى مع الاعتدالِ والوَسَطيَّةِ التي مَيَّز اللهُ سُبحانَه بها أمَّةَ الإسلامِ؛ قال تعالى: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَاكُمْ أُمَّةً وَسَطًا لِتَكُونُوا شُهَدَاءَ عَلَى النَّاسِ وَيَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيدًا [البقرة: 143] .
فالجِدُّ والحَزمُ والقُوَّةُ شَيءٌ، والعُنفُ والتنَطُّعُ والغُلُوُّ شَيءٌ آخَرُ.
2-الاعتِقادُ أنَّ الجِدِّيَّةَ والحَزمَ في تعليمِ الأطفالِ وتربيتِهم تعني القَسوةَ الزَّائِدةَ عليهم، وهذا اعتقادٌ خَطَأٌ، فشَتَّانَ ما بَينَ الأمرينِ؛ فالقَسوةُ والعُنفُ لهما آثارٌ سَيِّئةٌ؛ قال ابنُ خَلدونَ: (الشِّدَّةُ على المتعَلِّمين مُضِرَّةٌ بهم؛ وذلك أنَّ إرهافَ الحَدِّ بالتَّعليمِ مُضِرٌّ بالمتعَلِّمِ، سِيَّما في أصاغِرِ الوُلْدِ؛ لأنَّه من سوءِ المَلَكةِ، ومن كان مَرْباه بالعَسْفِ والقَهرِ من المتعَلِّمين أو المماليكِ أو الخَدَمِ، سَطا به القَهرُ وضَيَّق عن النَّفسِ في انبِساطِها، وذَهَب بنَشاطِها، ودعاه إلى الكَسَلِ وحَمَل على الكَذِبِ والخُبْثِ، وهو التَّظاهُرُ بغيرِ ما في ضَميرِه خوفًا من انبِساطِ الأيدي بالقَهرِ عليه، وعَلَّمَه المكرَ والخديعةَ لذلك، وصارت له هذه عادةً وخُلُقًا، وفسَدَت معاني الإنسانيَّةِ التي له) [2671] ((المقدمة)) (3/1119). .
وقال محمَّدٌ البشيرُ الإبراهيميُّ: (لِيَحذَرِ المعَلِّمون الكرامُ من سُلوكِ تلك الطَّريقةِ العتيقةِ التي كانت شائعةً بَينَ مُعَلِّمي القرآنِ، وهي أخذُ الأطفالِ بالقَسوةِ والترهيبِ في حِفظِ القرآنِ؛ فإنَّ تلك الطَّريقةَ هي التي أفسَدت هذا الجيلَ، وغَرَست فيه رذائِلَ مُهلِكةً، إنَّ القسوةَ والإرهابَ والعُنفَ تحمِلُ الأطفالَ على الكَذِبِ والنِّفاقِ، وتَغرِسُ فيهم الجُبنَ والخوفَ، وتُبَغِّضُ إليهم القِراءةَ والعِلمَ، وكُلُّ ذلك معدودٌ في جناياتِ المعَلِّمين الجاهِلين بأصولِ التَّربيةِ) [2672] ((آثار الإمام محمد البشير الإبراهيمي)) (2/113). .
3- الجِدِّيَّةُ لا تعني مَنْعَ النَّفسِ حُظوظَها من المباحاتِ
قال ابنُ الجوزيِّ: (أعجَبُ الأشياءِ مجاهَدةُ النَّفسِ؛ لأنَّها تحتاجُ إلى صناعةٍ عجيبةٍ؛ أقوامٌ أطلقوها فيما تحِبُّ، فأوقعَتْهم فيما كَرِهوا، وإنَّ أقوامًا بالغوا في خِلافِها حتى منَعوها حَقَّها وظَلَموها، وأثَّر ظُلمُهم لها في تعَبُّداتِهم؛ فمنهم: من أساء غِذاءَها، فأثَّر ذلك ضَعفَ بَدَنِها عن إقامةِ واجبِها، ومنهم: من أفردَها في خَلوةٍ أثمَرَت الوَحشةَ من النَّاسِ، وآلَت إلى تَركِ فَرضٍ أو فَضلٍ؛ من عيادةِ مريضٍ، أو بِرِّ والدةٍ.
وإنَّما الحازِمُ من تعلَمُ منه نفسُه الجِدَّ وحِفظَ الأصولِ؛ فإذا فسَح لها في مباحٍ لم تتجاسَرْ أن تتعدَّاه، فيكونُ معها كالمَلِكِ إذا مازَح بعضَ جُندِه فإنَّه لا ينبَسِطُ إليه الغلامُ، فإنِ انبَسَط ذَكَر هَيبةَ المَملَكةِ. فكذلك المحقِّقُ يُعطيها حَظَّها، ويستوفي منها ما عليها) [2673] ((صيد الخاطر)) (ص: 156، 157). .

انظر أيضا: