موسوعة الأخلاق والسلوك

أ- نماذِجُ من تواضُعِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم


كان رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم جمَّ التَّواضُعِ، لا يعتريه كِبرٌ ولا بطَرٌ على رفعةِ قَدْرِه وعُلُوِّ منزلتِه، يخفِضُ جناحَه للمُؤمِنين ولا يتعاظَمُ عليهم، ويجلِسُ بَيْنَهم كواحدٍ منهم، ولا يُعرَفُ مجلِسُه من مجلسِ أصحابِه؛ لأنَّه كان يجلِسُ حيثُ ينتهي به المجلِسُ، ويجلِسُ بَيْنَ ظهرانَيهم فيجيءُ الغريبُ فلا يدري أيُّهم هو حتى يسألَ عنه، روى أبو داودَ في سُنَنِه عن أبي ذَرٍّ وأبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنهما قالا: ((كان رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يجلِسُ بَيْنَ ظَهرَيْ أصحابِه فيجيءُ الغريبُ فلا يدري أيُّهم هو حتى يسأل، فطلَبْنا إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أن نجعَلَ له مجلِسًا يَعرِفُه الغريبُ إذا أتاه...)) [2273] رواه أبو داود (4698)، والنسائي (4991). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (4698)، وصحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (4698). .
وقال له رجلٌ: يا محمَّدُ، يا سَيِّدَنا وابنَ سَيِّدِنا، وخيرَنا وابنَ خَيرِنا، فقال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا أيُّها النَّاسُ عليكم بتقواكم، لا يَستهوينَّكم [2274] أي: لا يوقِعَنَّكم في مهواه. يُنظَر: ((التنوير شرح الجامع الصغير)) للصنعاني (7/ 319). الشَّيطانُ، أنا محمَّدُ بنُ عبدِ اللَّهِ عبدُ اللَّهِ ورسولُه، واللَّهِ ما أحِبُّ أن ترفعوني فوقَ منزلتي التي أنزلني اللَّهُ)) [2275] رواه أحمد (12551) واللفظ له، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (10077) من حديثِ أنس رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الألباني في ((غاية المرام)) (127)، والوادعي على شرط مسلم في ((الصحيح المسند)) (132)، وصحَّح إسنادَه محمد ابن عبد الهادي في ((الصارم المنكي)) (459) وقال: (على شرط مسلم)، وأحمد شاكر في ((عمدة التفسير)) (1/611)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (12551) وقال: (على شرط مسلم). .
- وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من تواضُعِه يتفقَّدُ أحوالَ أصحابِه ويقومُ بزيارتِهم؛ فعن عبدِ اللَّهِ بنِ عمرٍو رَضِيَ اللَّهُ عنهما: ((أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ذُكِر له صومي، فدخل عليَّ فألقيتُ له وسادةً من أَدَمٍ [2276] أدم: الجلد المدبوغ. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (10/313). حشوُها ليفٌ، فجلس على الأرضِ، وصارت الوسادةُ بيني وبينه، فقال: أما يكفيك من كُلِّ شهرٍ ثلاثةُ أيَّامٍ؟ قال: قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، قال: خمسًا. قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، قال: سبعًا. قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، قال: تسعًا. قلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، قال: إحدى عشرةَ. ثمَّ قال النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: لا صومَ فوقَ صومِ داودَ عليه السَّلامُ شَطرَ الدَّهرِ. صُمْ يومًا وأفطِرْ يومًا)) [2277] أخرجه البخاري (1980) واللفظ له، ومسلم (1159). .
وكان يتفقَّدُهم حتَّى في الغزَواتِ والمعاركِ، ومن ذلك ما رواه مسلمٌ في صحيحِه من حديثِ أبي بَرزةَ: ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان في مغزًى له، فأفاء اللَّهُ عليه، فقال لأصحابِه: هل تفقِدون من أحدٍ؟ قالوا: نعم فُلانًا وفلانًا وفلانًا. ثمَّ قال: هل تفقِدون من أحدٍ. قالوا: نعم فلانًا وفلانًا وفلانًا. ثمَّ قال: هل تفقِدون من أحدٍ؟ قالوا: لا. قال: لكنِّي أفقُد جُلَيبيبًا، فاطلبوه. فطُلِب في القتلى، فوجَدوه إلى جنبِ سبعةٍ قد قتَلَهم ثمَّ قتَلوه، فأتى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فوقف عليه، فقال: قَتَل سبعةً ثمَّ قَتَلوه، هذا مني وأنا منه، هذا مني وأنا منه. قال: فوضعَه على ساعِدَيه ليس له إلَّا ساعدَا النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: فحُفِر له ووُضِع في قبرِه)) [2278] أخرجه مسلم (2472). .
- وكان من تواضُعِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، القيامُ بخِدمةِ أصحابِه؛ فعن أبي قتادةَ في قصَّةِ نومِهم عن صلاةِ الفجرِ، وفيها: ((...قال: ودعا بالميضأةِ [2279] المِيضأةُ: إناءٌ يستعمَلُ للوضوءِ مِثلُ المِطهَرةِ، وقيل: هي ما يسَعُ قَدْرَ ما يُتوضَّأُ به. يُنظَر: ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) للمازري(2/ 77). ، فجَعَل رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصُبُّ وأبو قتادةَ يسقيهم -أي: أصحابَه- فلم يَعْدُ أن رأى النَّاسُ ماءً في المِيضأةِ تكابُّوا [2280] أي: ازدَحموا على المِيضأةِ مُكِبًّا بعضُهم على بعضٍ. يُنظَر: ((الكاشف عن حقائق السنن)) للطيبي (12/3786). عليها. فقال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أحسِنوا المَلأَ [2281] الملَأَ: الخُلُقَ والعِشرةَ. يُنظَر: ((شرح مسلم)) للنووي (5/188). كلُّكم سيَرْوى. قال: ففعلوا. فجعل رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصُبُّ وأسقيهم حتَّى ما بقي غيري وغيرُ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: ثمَّ صَبَّ رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: لي اشرَبْ. فقُلتُ: لا أشرَبُ حتَّى تشرَبَ يا رسولَ اللَّهِ. قال: إنَّ ساقيَ القومِ آخِرُهم شُربًا. قال: فشَرِبتُ، وشَرِب رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قال: فأتى النَّاسُ الماءَ جامِّين رِواءً [2282] جامِّين رِواءً: مستريحين قد رَوُوا من الماءِ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (12/106). ) [2283] أخرجه مسلم (681). .
- ومن تواضُعِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه إذا مرَّ على الصِّبيانِ سلَّم عليهم؛ فعن أنسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه: ((أنَّه مرَّ على صبيانٍ فسَلَّم عليهم، وقال: كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يفعلُه)) [2284] أخرجه البخاري (6247) واللفظ له، ومسلم (2168). .
وعن أنسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه أيضًا قال: (كان رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يزورُ الأنصارَ فيُسَلِّمُ على صبيانِهم، ويمسَحُ برؤوسِهم ويدعو لهم) [2285] رواه الترمذي بعد حديث (2696) دون ذكر لفظه، والنسائي في ((السنن الكبرى)) (8349) واللفظ له، وابن حبان (459) من حديثِ أنس رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه ابنُ حبان، والبغوي في ((شرح السنة)) (2306)، والألباني في ((صحيح الجامع)) (4947)، وصحَّح إسنادَه شعيب الأرناؤوط في تخريج ((صحيح ابن حبان)) (459). .
وعن أنسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: ((إن كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليخالِطُنا حتَّى يقولَ لأخٍ لي صغيرٍ: يا أبا عُمَيرٍ، ما فَعَل النُّغَيرُ؟)) [2286] أخرجه البخاري (6129) واللفظ له، ومسلم (2150). .
- ومن تواضُعِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه كان يشارِكُ في خِدمةِ أهلِه في البيتِ؛ فعن الأسودِ قال: ((سألتُ عائشةَ: ما كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يصنعُ في بيتِه؟ قالت: كان يكونُ في مهنةِ أهلِه -تعني خدمةَ أهلِه-، فإذا حضرَت الصَّلاةُ خرج إلى الصَّلاةِ)) [2287] أخرجه البخاري (676). .
- وكان من تواضُعِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أنَّه يركبُ الحِمارَ ويُردفُ [2288] يقال: أردَفَه: أي: أركبه خَلْفَه. يُنظَر: ((مختار الصحاح)) لزين الدين الرازي (ص: 121). غيرَه وراءَه؛ فعن أسامةَ بنِ زيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه: ((أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم رَكِب على حمارٍ، على إكافٍ عليه قطيفةٌ فَدَكيَّةٌ [2289] القطيفةُ: نوعٌ من الأكسيةِ. وفَدَكيَّةٌ منسوبةٌ إلى فَدَكٍ: بلدةٍ معروفةٍ. يُنظَر: ((كشف المشكل من حديثِ الصحيحين)) لابن الجوزي (4/ 17)، ((شرح النووي على مسلم)) (12/ 157). ، وأردف أسامةَ وراءَه)) [2290] أخرجه البخاري (5964) واللفظ له، ومسلم (1798). .
- وعن عُبَيدِ بنِ حُنَينٍ أنَّه سَمِع ابنَ عبَّاسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما يحدِّثُ أنَّه قال: ((مكثتُ سنةً أُريدُ أن أسألَ عمَرَ بنَ الخطَّابِ عن آيةٍ، فما أستطيعُ أن أسألَه هيبةً له، حتى خرج حاجًّا فخرجتُ معه...)) [2291] أخرجه البخاري (4913). . الحديثَ. وفيه: ((وإنَّه -أي: رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم- لعلى حصيرٍ ما بينه وبينه شيءٌ وتحتَ رأسِه وسادةٌ من أدَمٍ حَشوُها ليفٌ، وإنَّ عِندَ رجلَيه قَرَظًا [2292] القَرَظُ: شَجَرٌ يُدبَغُ به، وقيل: هو وَرَقَ السَّلَمِ يُدبَغُ به الأدَمُ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (7/454). مصبوبًا، وعند رأسِه أُهُبٌ [2293] جمعُ إهابٍ، وهو الجِلدُ قبل الدِّباغِ على قولِ الأكثرينَ، وقيل: الجِلدُ مُطلَقًا. يُنظَر: ((شرح النووي على مسلم)) (10/ 87). مُعَلَّقةٌ، فرأيتُ أثَرَ الحصيرِ في جَنبِه فبَكَيتُ، فقال: ما يبكيك؟ فقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّ كِسرى وقيصَرَ فيما هما فيه، وأنت رسولُ اللَّهِ! فقال: أمَا ترضى أن تكونَ لهم الدُّنيا ولنا الآخرةُ)) [2294] أخرجه البخاري (4913). .
- ومن تواضُعِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: استجابتُه للدَّعوةِ، وقَبولُه الهديَّةَ مهما قلَّت قيمتُها، روى البخاريُّ من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لو دُعِيتُ إلى ذراعٍ أو كُراعٍ لأجبْتُ، ولو أُهدِيَ إليَّ ذراعٌ أو كُراعٌ لقَبِلتُ)) [2295] أخرجه البخاري (2568). .
قال الشَّاعِرُ:
يا جاعِلًا سُنَنَ النَّبيِّ
شِعارَه ودثارَهُ [2296] الشِّعارُ: هو الثَّوبُ الذي يلي شَعرَ البَدَنِ. والدِّثارُ: هو الثَّوبُ الذي فوقَ الشِّعارِ. يُنظَر: ((مرقاة المفاتيح)) للملا الهروي (9/4009).
متمسِّكًا بحديثِه
متتَبِّعًا أخبارَهُ
سُنَنَ الشَّريعةِ خُذْ بها
متوسِّمًا آثارَهُ
وكذا الطَّريقةُ فاقتَبِسْ
في سُبلِها أنوارَهُ
قد كان يَقري ضَيفَهُ
كرمًا ويحفَظُ جارَهُ
ويجالِسُ المسكينَ يؤ
ثِرُ قُربَه وجِوارَهُ
الفَقرُ كان رداءَهُ
والجوعُ كان شعارَهُ
يُلقى بغُرَّةِ ضاحِكٍ
مستبشِرًا زوَّارُهُ
بَسَط الرِّداءَ كرامةً
لكريمِ قومٍ زارهُ
ما كان مختالًا ولا
مَرِحًا يجرُّ إزارَهُ
قد كان يركَبُ بالرَّديـ
ـفِ من الخضوعِ حمارَهُ
من مهنةٍ هو أو صلا
ةٍ ليلَه ونهارَهُ
فتراه يحلُبُ شاةَ منـ
ـزلِه ويوقِدُ نارَهُ
ما زال كَهْفَ مُهاجريـ
ـه ومُكرِمًا أنصارَهُ
بَرًّا بمحسِنِهم مقيـ
 ـلًا للمسيءِ عِثارَهُ
يهَبُ الذي تحوي يدا
ه لطالِبٍ إيثارَهُ
زكَّى عن الدُّنيا الدَّنـ
ـيةِ رَبُّه مِقدارَهُ
جَعَل الإلهُ صلاتَه
أبدًا عليه نثارَهُ
فاختَرْ من الأخلاقِ ما
كان الرَّسولُ اختارهُ
لتَعُدْ سنيًّا وتو
شِك أن تبوأَ دارَهُ [2297]((نهاية الأرب في فنون الأدب)) للنويري (18/176). .

انظر أيضا: