موسوعة الأخلاق والسلوك

د- نماذِجُ من تواضُعِ العُلَماءِ المتقَدِّمين وغيرِهم


- كان أبو بكرِ بنُ الأنباريِّ مع حفظِه زاهدًا متواضِعًا، حكى أبو الحَسَنِ الدَّارُقطنيُّ أنَّه حضره في مجلسٍ أملاه يومَ جمُعةٍ فصَحَّف اسمًا أورده في إسنادِ حديثٍ، إمَّا كان حبَّانَ، فقال: حَيَّانُ، أو حيَّانَ، فقال: حبَّانُ، قال أبو الحسَنِ: فأعظَمتُ أن يُحمَلَ عن مثلِه في فَضلِه وجلالتِه وَهَمٌ، وهِبتُه أن أوقِفَه على ذلك، فلمَّا انقضى الإملاءُ تقدَّمتُ إلى المستملي وذكَرتُ له وَهَمَه، وعرَّفتُه صوابَ القولِ فيه، وانصرَفْتُ.
ثمَّ حضرتُ الجمُعةَ الثَّانيةَ مجلِسَه، فقال أبو بكرٍ للمُستملي: عرِّفْ جماعةَ الحاضرينَ أنَّا صحَّفْنا الاسمَ الفلانيَّ لمَّا أملينا حديثَ كذا في الجمُعةِ الماضيةِ، ونبَّهَنا ذلك الشَّابُّ على الصَّوابِ، وهو كذا، وعَرِّفْ ذلك الشَّابَّ أنَّا رجَعْنا إلى الأصلِ فوجَدْناه كما قال [2350] يُنظَر: ((تاريخ بغداد)) للخطيب البغدادي (4/ 301). .
- وقال أبو بكرِ بنُ العربيِّ: (أخبَرَني محمَّدُ بنُ قاسِمٍ العُثمانيُّ غيرَ مرَّةٍ: وصلْتُ الفُسطاطَ مرَّةً، فجِئْتُ مجلِسَ الشَّيخِ أبي الفَضلِ الجَوهَريِّ، وحضرْتُ كلامَه على النَّاسِ، فكان ممَّا قال في أوَّلِ مجلِسٍ جلسْتُ إليه: إنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طلَّق وظاهَر وآلى، فلمَّا خرَج تبِعْتُه حتَّى بلغْتُ معَه إلى منزلِه في جماعةٍ، فجلَس معَنا في الدِّهليزِ، وعرَّفهم أمري؛ فإنَّه رأى إشارةَ الغُربةِ، ولم يَعرفِ الشَّخصَ قَبلَ ذلك في الوارِدينَ عليه، فلمَّا انفضَّ عنه أكثَرُهم قال لي: أراك غريبًا، هل لك مِن كلامٍ؟ قلْتُ: نعَم، قال لجُلسائِه: أفرِجوا له عن كلامِه، فقاموا، وبقيتُ وحدي معَه، فقلْتُ له: حضرْتُ المجلِسَ اليومَ مُتبرِّكًا بك، وسمعْتُك تقولُ: آلى رسولُ اللهِ صلَّى الله عليه وسلَّم، وصدَقْتَ، وطلَّق رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وصدَقْتَ، وقلْتَ: وظاهَر رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهذا لم يكنْ، ولا يصِحُّ أن يكونَ؛ لأنَّ الظِّهارَ مُنكَرٌ مِن القولِ وزورٌ؛ وذلك لا يجوزُ أن يقعَ مِن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فضمَّني إلى نَفسِه، وقبَّل رأسي، وقال لي: أنا تائِبٌ مِن ذلك، جزاك اللهُ عنِّي مِن مُعلِّمٍ خيرًا. قال: ثُمَّ انقلَبْتُ عنه، وبكَّرْتُ إلى مجلِسِه في اليومِ الثَّاني، فألفَيتُه قد سبَقني إلى الجامِعِ، وجلَس على المِنبَرِ، فلمَّا دخلْتُ مِن بابِ الجامِعِ ورآني نادى بأعلى صوتِه: مرحبًا بمُعلِّمي؛ أفسِحوا لمُعلِّمي، فتطاوَلَت الأعناقُ إليَّ، وحدَّقَت الأبصارُ نحوي! وتعرِفُني يا أبا بكرٍ -يشيرُ إلى عظيمِ حيائِه؛ فإنَّه كان إذا سَلَّم عليه أحدٌ أو فاجأه خَجِل لعظيمِ حيائِه، واحمَرَّ حتى كأنَّ وجهَه طُلِيَ بجُلَّنارٍ [2351] أي: زَهرِ الرُّمَّانِ. يُنظَر: ((تاج العروس)) للزبيدي (10/ 456). - قال: وتبادَر النَّاسُ إليَّ يرفعونَني على الأيدي، ويتدافَعوني حتَّى بلغْتُ المِنبَرَ، وأنا لعِظَمِ الحياءِ لا أعرفُ في أيِّ بُقعةٍ أنا مِن الأرضِ، والجامِعُ غاصٌّ بأهلِه، وأسال الحياءُ بدني عرَقًا، وأقبَل الشَّيخُ على الخَلقِ، فقال لهم: أنا مُعلِّمُكم، وهذا مُعلِّمي؛ لمَّا كان بالأمسِ قلْتُ لكم: آلى رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وطلَّق، وظاهَر، فما كان أحدٌ منكم فَقِه عنِّي ولا ردَّ عليَّ، فاتَّبعني إلى منزلي، وقال لي كذا وكذا. وأعاد ما جرى بيني وبَينَه، وأنا تائِبٌ عن قولي بالأمسِ، وراجِعٌ عنه إلى الحقِّ؛ فمَن سمِعه ممَّن حضَر فلا يُعوِّلْ عليه، ومَن غاب فليُبلِّغْه مَن حضَر؛ فجزاه اللهُ خيرًا، وجعَل يحفلُ في الدُّعاءِ والخَلقُ يُؤمِّنونَ).
قال ابنُ العَربيِّ: (فانظُروا -رحمكم اللَّهُ- إلى هذا الدِّينِ المتينِ، والاعترافِ بالعِلمِ لأهلِه على رؤوسِ الملإِ من رجلٍ ظهَرَت رياستُه، واشتَهَرت نفاستُه، لغريبٍ مجهولِ العَينِ لا يُعرَفُ مَن ولا مِن أين؛ فاقتدوا به ترشُدوا) [2352] ((أحكام القرآن)) (1/ 248، 249). .
- وعن الحُسَينِ بنِ إسحاقَ، قال: قلتُ للبُحتريِّ: النَّاسُ يزعُمون أنَّك أشعَرُ من أبي تمَّامٍ! فقال: (واللَّهِ ما ينفعُني هذا القولُ ولا يضيرُ أبا تمَّامٍ، واللَّهِ ما أكلتُ الخُبزَ إلَّا به، ولوَدِدتُ أنَّ الأمرَ كما قالوا، ولكِنِّي واللَّهِ تابعٌ له، لائذٌ به، آخذٌ منه، نسيمي يركُدُ عِندَ هوائِه، وأرضي تنخَفِضُ عِندَ سمائِه!) [2353] ((تاريخ بغداد)) للخطيب (9/ 160). .
- وعن عليِّ بنِ عيسى بنِ عليٍّ النَّحويِّ، قال: كان أبو بكرِ بنُ السَّرَّاجِ يُقرأُ عليه كتابُ الأصولِ الذي صنَّفه، فمَرَّ فيه بابٌ استحسنه بعضُ الحاضرينَ، فقال: هذا واللَّهِ أحسَنُ من كتابِ المُقتَضَبِ!
فأنكَرَ عليه أبو بكرٍ ذلك، وقال: لا تقُلْ هذا، وتمثَّلَ ببيتٍ -وكان كثيرًا مما يتمثَّلُ فيما يجري له من الأمورِ بأبياتٍ حَسَنةٍ- فأنشد حينَئذٍ:
ولكِنْ بكَتْ قبلي فهاجَ ليَ البُكا
بُكاها فقُلتُ الفَضلُ للمُتقَدِّمِ [2354] ((تاريخ بغداد)) للخطيب (3/ 264). ويُنظَر: ((طبقات النحويين واللغويين)) للزبيدي (ص: 49، 50). .
- وقال عبدُ القادِرِ الرَّهاويُّ في أبي موسى المدينيِّ: (حصَّل أبو موسى من المسموعاتِ بأصبهانَ ما لم يحصِّلْ أحدٌ في زمانِه، وانضمَّ إلى ذلك الحفظُ والإتقانُ، وله التَّصانيفُ التي أربى فيها على المتقَدِّمين، مع الثِّقةِ والعِفَّةِ، كان له شيءٌ يسيرٌ يتربَّحُ به، وينفِقُ منه، ولا يقبَلُ من أحدٍ شيئًا قطُّ، أوصى إليه غيرُ واحدٍ بمالٍ، فيردُّه، فكان يُقالُ له: فرِّقْه على من ترى، فيمتَنعُ، وكان فيه من التَّواضُعِ بحيث أنَّه يقرئُ الصَّغيرَ والكبيرَ، ويرشِدُ المبتدئَ، رأيتُه يحفِّظُ الصِّبيانَ القرآنَ في الألواحِ، وكان يمنعُ من يمشي معه، فعلتُ ذلك مرَّةً فزجرني، وتردَّدتُ إليه نحوًا من سنةٍ ونصفٍ، فما رأيتُ منه ولا سمعتُ عنه سقطةً تعابُ عليه) [2355] يُنظَر: ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (21/ 155، 156). .
- ولمَّا جاء ابنُ الحاجِّ الفاسيُّ (توفي: 737 هـ) ليقرأَ على أبي محمدِ بنِ أبي جمرةَ، قال له ابنُ أبي جمرةَ أوَّلَ ما جاء: أما تقرأُ على العُلَماءِ؟ فقال ابنُ الحاجِّ: أريدُ أن أقرأَ عليك، فقال له: كيف تتركُ العُلَماءَ وتأتي تقرأُ على مثلي؟! فقال: أريدُ أن أقرأَ عليك، فقال: استَخِرِ اللَّهَ تعالى، قال: فاستخرتُ اللَّهَ تعالى ثمَّ جئتُ إليه فقُلتُ: أقرَأُ؟ قال: عزَمتَ؟ قلتُ: نعم، فقال لي: لا يخطُرْ بخاطِرِك ولا يمُرَّ ببالِك أنَّك تقرأُ على عالمٍ، ولا أنَّك بَيْنَ يَدَي شيخٍ! إنما نحن إخوانٌ مجتَمِعون نتذاكَرُ أشياءَ من أحكامِ اللَّهِ تعالى، فعلى أيِّ لسانٍ خلق اللَّهُ الصَّوابَ والحَقَّ قَبِلْناه وإن كان صبيًّا من المكتَبِ [2356] يُنظَر: ((ذكريات مشاهير رجال المغرب)) لعبد اللهِ كنون (1/440، 441). !
تواضُعُ ابنِ تَيميَّةَ:
قال البزَّارُ وهو يذكُرُ تواضُعَ ابنِ تَيميَّةَ: (وأمَّا تواضُعُه فما رأيتُ ولا سمعتُ بأحدٍ من أهلِ عصرِه مثلِه في ذلك؛ كان يتواضَعُ للكبيرِ والصَّغيرِ، والجليلِ والحقيرِ، والغنيِّ الصَّالحِ والفقيرِ، وكان يُدني الفقيرَ الصَّالحَ ويكرِمُه ويؤنِسُه، ويباسِطُه بحديثِه المستحلى زيادةً على مثلِه من الأغنياءِ، حتَّى إنَّه ربما خدَمه بنفسِه وأعانه بحَملِ حاجتِه جبرًا لقَلبِه وتقرُّبًا بذلك إلى رَبِّه.
 وكان لا يسأمُ ممَّن يستفتيه أو يسألُه، بل يُقبِلُ عليه ببشاشةِ وَجهٍ، ولينِ عريكةٍ [2357] العريكةُ: الطَّبيعةُ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (10/466). ، ويقِفُ معه حتى يكونَ هو الذي يفارِقُه، كبيرًا كان أو صغيرًا، رجلًا أو امرأةً، حرًّا أو عبدًا، عالمًا أو عاميًّا، حاضرًا أو باديًا، ولا يجبَهُه ولا يحرِجُه ولا يُنفِّرُه بكلامٍ يوحِشُه، بل يجيبُه ويُفهمُه ويُعرِّفُه الخطأَ من الصَّوابِ بلُطفٍ وانبساطٍ، وكان يلزَمُ التَّواضُعَ في حضورِه من النَّاسِ، ومَغيبِه عنهم في قيامِه وقعودِه، ومَشيِه ومجلِسِه ومجلِسِ غيرِه.
وحكى البزَّارُ عن بعضِ أصحابِه قال: ولقد بالغ معي في حالِ إقامتي بحضرتِه في التَّواضُعِ والإكرامِ -يعني ابنَ تَيميَّةَ- حتَّى إنَّه لا يذكُرُني باسمي، بل يُلَقِّبُني بأحسَنِ الألقابِ، وأظهر لي من الأخلاقِ والمبالغةِ في التَّواضُعِ بحيثُ إنَّه كان إذا خرَجْنا من منزِلِه بقصدِ القراءةِ، يحمِلُ هو بنفسِه النُّسخةَ، ولا يدَعُ أحدًا منَّا يحمِلُها عنه، وكنتُ أعتذِرُ إليه من ذلك خوفًا من سوءِ الأدبِ، فيقولُ: لو حمَلتُه على رأسي لكان ينبغي، ألَا أحمِلُ ما فيه كلامُ رسولِ اللَّهِ صلى اللَّه وعليه وسلم؟!
وكان يجلِسُ تحتَ الكرسيِّ ويَدَعُ صَدْرَ المجلِسِ، حتى إني لأستحي من مجلسِه هناك، وأعجَبُ من شِدَّةِ تواضُعِه، وكان هذا حالَه في التَّواضُعِ والتَّنازُلِ والإكرامِ لكُلِّ من يَرِدُ عليه أو يصحَبُه أو يلقاه، حتَّى إنَّ كُلَّ من لقيه يحكي عنه من المبالغةِ في التَّواضُعِ نحوًا ممَّا حكيتُه وأكثَرَ من ذلك، فسبحانَ مَن وفَّقه وأعطاه، وأجراه على خِلالِ الخيرِ وحَباه!) [2358] ((الأعلام العلية)) للبزار (ص: 50). .
وقال ابنُ القَيِّمِ: (ولقد شاهدتُ من شيخِ الإسلامِ ابنِ تَيميَّةَ قدَّس اللَّهُ روحَه من ذلك أمرًا لم أشاهِدْه من غيرِه، وكان يقولُ كثيرًا: ما لي شيءٌ، ولا مني شيءٌ، ولا فيَّ شيءٌ، وكان كثيرًا ما يتمثَّلُ بهذا البيتِ:
أنا المُكَدِّي [2359] يقال: أكدى الرَّجُلُ: قَلَّ خيرُه، وقيل: المُكدي من الرِّجالِ: الذي لا يثوبُ له مالٌ ولا يَنمي. يُنظَر: ((لسان العرب)) (15/ 216). وابنُ المُكَدِّي
وهكذا كان أبي وجَدِّي
وكان إذا أُثني عليه في وجهِه يقولُ: واللَّهِ إنِّي إلى الآن أجَدِّدُ إسلامي كُلَّ وقتٍ، وما أسلَمتُ بعدُ إسلامًا جيِّدًا) [2360] ((مدارج السالكين)) لابن القيم (1/ 520). .

انظر أيضا: