موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- نماذِجُ من تواضُعِ الصَّحابةِ رِضوانُ اللَّه عليهم


اقتداءً بالنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان الصَّحابةُ رِضوانُ اللَّهِ عليهم يقومون بما كان يقومُ به النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من الأعمالِ الجليلةِ والخُلُقِ الكريمِ من التَّواضُعِ وخَفضِ الجناحِ.
(وصفوةُ القولِ أنَّهم رَضِيَ اللَّهُ عنهم ساروا على نهجِ الرَّسولِ الكريمِ، فلم يستكبرْ منهم أحدٌ، أو يستنكِفْ عن القيامِ بتلك الأعمالِ اليسيرةِ النَّافعةِ مهما عظُمَت مكانةُ الواحدِ منهم) [2298] ((الأخلاق الإسلامية)) لجمال نصار (ص: 237) بتصرف. .
قال السَّمرقَنديُّ: (فهؤلاء أصحابُ رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان خُلُقُهم التَّواضُعَ، وكانوا أعزَّاءَ عِندَ الخَلقِ، وعند الملائكةِ، وعندَ اللَّهِ سُبحانَه وتعالى) [2299] ((تنبيه الغافلين)) (ص: 188). .
تواضُعُ أبي بَكرٍ الصِّدِّيقِ رَضِيَ اللَّهُ عنه:
- (لما استُخلِف أبو بكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللَّهُ عنه أصبح غاديًا إلى السُّوقِ، وكان يحلُبُ للحيِّ أغنامَهم قبل الخلافةِ، فلمَّا بويعَ قالت جاريةٌ من الحيِّ: الآن لا يحلُبُ لنا. فقال: بلى لأحلُبَنَّها لكم، وإني لأرجو ألَّا يُغَيِّرَني ما دخلتُ فيه) [2300]رواه ابنُ سعد في ((الطبقات الكبرى)) (3430)، والطبري في ((التاريخ)) (13/64)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (30/323) مطوَّلًا. .
- وكان يقولُ: (ودِدتُ أني شَعرةٌ في جَنبِ عبدٍ مُؤمِنٍ) [2301] رواه أحمد في ((الزهد)) (560). .
قال هذا وهو من المبشَّرين بالجنَّةِ، وهو الصِّدِّيقُ العظيمُ صاحِبُ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وخليفتُه من بعدِه!
تواضُعُ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنه:
- عن طارِقِ بنِ شِهابٍ، قال: (خرج عُمَرُ بنُ الخطَّابِ إلى الشَّامِ ومعنا أبو عُبَيدةَ بنُ الجرَّاحِ، فأتوا على مخاضةٍ [2302] المخاضةُ: ما جاز النَّاسُ فيه مُشاةً ورُكبانًا، وهو الموضِعُ الذي يتخضخَضُ ماؤه فيُخاضُ عِندَ العبورِ. يُنظَر: ((تاج العروس)) للزبيدي (18/322). وعُمَرُ على ناقةٍ له، فنزل عنها وخلَع خفَّيه فوضعَهما على عاتِقِه، وأخذ بزمامِ ناقتِه فخاض بها المخاضةَ، فقال أبو عُبَيدةَ: يا أميرَ المُؤمِنين، أنت تفعلُ هذا، تخلَعُ خُفَّيك وتضعُهما على عاتقِك، وتأخُذُ بزمامِ ناقتِك، وتخوضُ بها المخاضةَ! ما يسُرُّني أنَّ أهلَ البَلَدِ استشرَفوك. فقال عُمَرُ: أَوَّهْ [2303] أَوَّهْ: كَلِمةٌ يقولُها الرَّجُلُ عِندَ الشِّكايةِ والتوجُّعِ. يُنظَر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (1/ 82). ! لو يَقولُ ذا غيرُك أبا عبيدةَ جعَلْتُه نكالًا لأمَّةِ محمَّدٍ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! إنَّا كنَّا أذَلَّ قومٍ، فأعزَّنا اللَّهُ بالإسلامِ، فمهما نطلُبِ العِزَّةَ بغيرِ ما أعزَّنا اللَّهُ به أذلَّنا اللَّهُ) [2304] رواه الحاكم (207). صحَّحه على شرط الشيخين الحاكم، والألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (1/117). .
ورُوِيَ عن قيسِ بنِ أبي حازمٍ أنَّه قال: (لمَّا قَدِم عُمَرُ بنُ الخطَّابِ إلى الشَّامِ تلقَّاه عُلَماؤها وكُبَراؤها فقيل: اركَبْ هذا البِرذَونَ يَرَك النَّاسُ. فقال: إنَّكم ترون الأمرَ من هاهنا، إنَّما الأمرُ من هاهنا -وأشار بيَدِه إلى السَّماءِ- خَلُّوا سبيلي) [2305] يُنظَر: ((تنبيه الغافلين)) للسمرقندي (ص: 187)، ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (44/ 4). .
- عن أبي محذورةَ قال: (كنتُ جالسًا عِندَ عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، إذ جاء صفوانُ بنُ أميَّةَ بجَفنةٍ [2306] الجَفنةُ كالقصعةِ. يُنظَر: ((الصحاح)) للجوهري (5/ 2092). يحمِلُها نفرٌ في عباءةٍ، فوضعوها بَيْنَ يَدَيْ عُمَرَ، فدعا عُمَرُ ناسًا مساكينَ وأرِقَّاءَ من أرقَّاءِ النَّاسِ حولَه، فأكلوا معه، ثمَّ قال عِندَ ذلك: فعل اللَّهُ بقومٍ -أو قال: لحى اللَّهُ قومًا- يرغبون عن أرقَّائِهم أن يأكلوا معهم! فقال صفوانُ: أمَا واللَّهِ ما نرغبُ عنهم، ولكِنَّا نستأثرُ عليهم، لا نجِدُ واللَّهِ من الطَّعامِ الطَّيِّبِ ما نأكُلُ ونُطعِمُهم) [2307] أخرجه البخاري في ((الأدب المفرد)) (201)، والحسين بن حرب في ((البر والصلة)) (182). صحَّح إسناده الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (148). .
- وعن عُروةَ بنِ الزُّبَيرِ رَضِيَ اللَّهُ عنهما قال: (رأيتُ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ رَضِيَ اللَّهُ عنه على عاتقِه قِربةُ ماءٍ، فقلتُ: يا أميرَ المُؤمِنين، لا ينبغي لك هذا! فقال: لمَّا أتاني الوفودُ سامعين مطيعين دخَلَت نفسي نَخوةٌ، فأردتُ أن أكسِرَها!) [2308]ذكره القشيري في ((الرسالة القشيرية)) (1/279). .
تواضُعُ عُثمانَ رَضِيَ اللَّهُ عنه:
قال الحسَنُ: (رأيتُ عثمانَ بنَ عَفَّانَ يَقيلُ في المسجدِ وهو يومئذٍ خليفةٌ، ويقومُ وأثَرُ الحصى بجَنبِه، فنقولُ: هذا أميرُ المُؤمِنين، هذا أميرُ المُؤمِنين!) [2309]رواه أحمد في ((الزهد)) (675)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/60). .
عن ميمونِ بنِ مِهرانَ قال: (أخبرني الهمدانيُّ أنَّه رأى عثمانَ بنَ عفَّانَ رَضِيَ اللَّهُ عنه على بغلةٍ، وخَلْفَه عليها غلامُه نائِلٌ، وهو خليفةٌ) [2310]رواه أحمد في ((الزهد)) (672)، وأبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/60). .
تواضُعُ عليٍّ رَضِيَ اللَّهُ عنه:
- عن عَمرِو بنِ قَيسٍ المُلائِّي عن رجلٍ منهم قال: (رُئِيَ على عليِّ بنِ أبي طالبٍ إزارٌ مرقوعٌ، فقيل له: تلبَسُ المرقوعَ؟! فقال: يقتدي به المُؤمِنُ، ويخشَعُ به القَلبُ) [2311]رواه هناد في ((الزهد)) (2/368) واللفظ له، وابن أبي الدنيا في ((إصلاح المال)) (394). .
وفي لفظٍ آخَرَ: عوتِبَ عليٌّ رَضِيَ اللَّهُ عنه في لَبوسِه فقال: (إنَّ لَبوسي هذا أبعدُ من الكِبرِ، وأجدَرُ أن يقتديَ بي المسلِمُ) [2312] رواه أحمد في ((فضائل الصحابة)) (908) مطوَّلًا، وابن أبي الدنيا في ((إصلاح المال)) (393). .
تواضُعُ عبدِ اللَّهِ بنِ سَلامٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه:
- عن عبدِ اللَّهِ بنِ حنظلةَ: أنَّ عبدَ اللَّهِ بنَ سلامٍ مرَّ في السُّوقِ وعلى رأسِه حُزمةُ حَطبٍ، فقال: أدفَعُ به الكِبرَ، إني سمعتُ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: ((لا يدخُلُ الجنَّةَ مَن كان في قلبِه مثقالُ حبَّةٍ من خردلٍ مِن كبرٍ)) [2313] رواه الطبراني (14/308) (14946)، والحاكم (5757) واللفظ له، والبيهقي في ((شعب الإيمان)) (8199). صحَّحه الألباني في ((سلسلة الأحاديث الصحيحة)) (3257)، وشعيب الأرناؤوط المرفوع منه في تخريج ((سير أعلام النبلاء)) (2/419)، وصحَّح إسنادَه الحاكم، والبوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (7/375)، وحسَّنه المنذري في ((الترغيب والترهيب)) (4/40)، والهيثمي في ((مجمع الزوائد)) (1/104). .
تواضُعُ سلمانَ الفارسيِّ رَضِيَ اللَّهُ عنه:
وذُكِر عن سَلمانَ الفارسيِّ رَضِيَ اللَّهُ عنه أنَّه كان أميرًا بالمدينةِ، فاشترى رجلٌ من عظمائِها شيئًا، فمرَّ به سلمانُ، فحَسِبَه عِلجًا [2314] العِلجُ: الرَّجُلُ من كُفَّارِ العَجَمِ. يُنظَر: ((الصحاح)) للجوهري (1/ 330). ، فقال: تعالَ فاحمِلْ هذا، فحمَلَه سلمانُ، فجعل يتلقَّاه النَّاسُ ويقولون: أصلَح اللَّهُ الأميرَ، نحن نحمِلُ عنك! فأبى أن يدفَعَ إليهم. فقال الرَّجُلُ في نفسِه: وَيحَك! إني لم أُسخِّرْ إلَّا الأميرَ! فجعَلَ يعتذِرُ إليه ويقولُ: لم أعرِفْك أصلحك اللَّهُ! فقال: انطَلِقْ، فذهب به إلى منزلِه، ثمَّ قال: لا أسَخِّرُ أحدًا أبدًا) [2315] يُنظَر: ((تنبيه الغافلين)) للسمرقندي (ص: 188). .
تواضُعُ عَمَّارِ بنِ ياسرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه:
ورُوِيَ عن عمَّارِ بنِ ياسرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما أنَّه كان أميرًا بالكوفةِ، فخرج إلى حانوتِ العلَّافِ فاشترى منه القَتَّ، وأخذ البائِعُ جانبَ الحُزمةِ، فجعل يمُدُّ كُلُّ واحدٍ منهما يَدَه، حتى صار نصفُ القَتِّ في يدِ هذا، ونصفُه في يدِ هذا، ثمَّ جعله على عاتقِ عَمَّارٍ، فذهب به إلى مَنزِلِه [2316] يُنظَر: ((تنبيه الغافلين)) للسمرقندي (ص: 188). .
تواضُعُ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه:
ورُويَ عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه أنَّه بعثه عمَرُ بنُ الخطَّابِ أميرًا على البحرينِ، فدخل البحرينِ وهو راكبٌ على حمارٍ، وجعل يقولُ: طَرِّقوا للأميرِ، طَرِّقوا للأميرِ [2317] يُنظَر: ((تنبيه الغافلين)) للسمرقندي (ص: 188). ! ورُئيَ وهو أميرُ المدينةِ وعلى ظَهرِه حُزمةُ حَطبٍ وهو يقولُ: طَرِّقوا للأميرِ [2318] يُنظَر: ((الرسالة القشيرية)) (1/ 280)، ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (67/ 373). !
تواضُعُ أبي الدَّرداءِ رَضِيَ اللَّهُ عنه:
عن أمِّ الدَّرداءِ، قالت: (لقد رأيتُ أبا الدَّرداءِ ينفُخُ النَّارَ تحتَ قِدْرِنا هذه حتى تسيلَ دموعُ عينَيه) [2319] رواه أحمد في ((الزهد)) (742). .
تواضُعُ أمِّ الدَّرداءِ رَضِيَ اللَّهُ عنها:
وعن إبراهيمَ بنِ أبي عبلةَ قال: (رأيتُ أمَّ الدَّرداءِ مع نساءِ المساكينِ جالسةً ببيتِ المَقدِسِ) [2320]رواه ابنُ أبي الدنيا في ((التواضع والخمول)) (105). .
تواضُعُ ذي الكَلاعِ:
قال علوانُ بنُ داودَ البَجَليُّ: حدَّثني شيخٌ من هَمْدانَ عن أبيه قال: (بعثني قومي في الجاهليَّةِ بخَيلٍ أهدوها لذي الكَلاعِ [2321] وذو الكَلاعِ مُختَلَفٌ في صُحبتِه. يُنظَر: ((الإصابة في تمييز الصحابة)) لابن حجر (2/ 356). ، فأقمتُ ببابِه سنةً لا أصِلُ إليه، ثمَّ أشرف إشرافةً على النَّاسِ من غرفةٍ له، فخرُّوا له سجودًا، ثمَّ جلس فلقيتُه بالخيلِ، فقَبِلَها، ثمَّ لقد رأيتُه بحمصَ وقد أسلَم يحمِلُ بالدِّرهَمِ اللَّحمَ، فيبتَدِرُه قومُه ومواليه فيأخُذونَه منه فيأبى تواضُعًا! وقال:
أفٍّ لذي الدُّنيا إذا كانت كذا
أنا منها كُلَّ يومٍ في أذى
ولقد كنتُ إذا ما قيلَ مَن
أنعَمُ النَّاسِ معاشًا قيلَ ذا
ثمَّ بُدِّلتُ بعَيشٍ شِقوةً
حبَّذا هذا شقاءً حَبَّذا [2322]رواه ابنُ أبي الدنيا في ((التواضع والخمول)) (98).

انظر أيضا: