موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- التَّضْحيةُ عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم


كانت حياةُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كلُّها تَضحياتٌ في سبيلِ اللهِ وإبلاغِ دعوةِ رَبِّه سُبحانَه وتعالى؛ فعن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((لقد أُخِفْتُ في اللهِ وما يُخافُ أحَدٌ، ولقد أُوذِيتُ في اللهِ وما يُؤذى أحَدٌ، ولقد أَتَت عَلَيَّ ثلاثون من بَينِ يومٍ وليلةٍ وما لي ولبلالٍ طَعامٌ يأكُلُه ذو كَبِدٍ إلَّا شَيءٌ يُواريه إبْطُ بِلالٍ!)) [1692] رواه الترمذي (2472)، وأحمد (14055) واللَّفظُ لهما، وابن ماجه (151) باختلافٍ يسيرٍ. صحَّحه ابن حبان (6560)، وابن القيم في ((عدة الصابرين)) (1/299)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (2472)، والوادعي في ((الصحيح المسند)) (80)، وقال الترمذيُّ: حَسَنٌ غريبٌ. .
تضحيتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بتَركِ مَوطِنِه مهاجِرًا إلى المدينةِ:
عن عبدِ اللهِ بنِ عَدِيِّ بنِ الحَمراءِ قال: ((رأيتُ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وهو على راحِلَتِه واقِفٌ بالحَزْوَرةِ [1693] الحَزْوَرةُ: موضِعٌ كان به سوقُ مكَّةَ، ويقالُ: إنَّما قيل لها: حَزْوَرةٌ، لمكانِ تَلٍّ صغيرٍ هنالك. يُنظر: ((الميسر في شرح مصابيح السنة)) للتوربشتي (2/ 642). ، يقولُ: واللهِ إنَّك لخيرُ أرضِ اللهِ، وأحَبُّ أرضِ اللهِ إلى اللهِ، ولولا أنِّي أُخرِجْتُ منكِ ما خرَجْتُ)) [1694] أخرجه الترمذي (3925)، وابن ماجه (3108) واللَّفظُ له، وأحمد (18715). صحَّحه ابن حبان في ((صحيحه)) (3708)، والحاكم في ((المستدرك)) (4270) وقال: على شرط الشَّيخين، وابن حزم في ((المحلى)) (7/289)، وابن عبد البر في ((الاستذكار)) (2/451)، وقال الترمذي: حسنٌ غريبٌ صحيحٌ. . فخرج النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فارًّا بدِينِه، وكذلك أصحابُه، وجلس في الغارِ، وقد نَصَّ اللهُ تعالى على ذلك في سورةِ "التَّوبة" في قَولِه: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثَانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُمَا فِي الْغَارِ إِذْ يَقُولُ لِصَاحِبِهِ لَا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنَا [التوبة: 40] ، فهَجَروا أوطانَهم، وتَرَكوا أرْضَهم وديارَهم، وأهاليَهم وأولادَهم، وقَراباتِهم وإخوانَهم؛ رجاءَ السَّلامةِ بالدِّينِ، والنَّجاةِ مِن فِتنةِ الكافرينَ [1695] يُنظر: ((الجامع لأحكام القرآن)) للقرطبي (10/ 360). .
تضحيتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في سبيلِ الذَّبِّ عن المُسلِمين وحمايتِهم:
عن أبي إسحاقَ قال: جاء رجلٌ إلى البراءِ، فقال: أكُنتُم وَلَّيتُم يومَ حُنَينٍ يا أبا عُمارةَ؟ فقال: أشهَدُ على نَبيِّ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما وَلَّى، ولكِنَّه انطلق أخِفَّاءُ [1696] الأخِفَّاءُ هنا: المُسارِعون المُستَعجِلون. يُنظر: ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) (6/ 130). من النَّاسِ، وحُسَّرٌ [1697] حُسَّرٌ: أي: لا دُروعَ عليهم. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (2/ 242). إلى هذا الحَيِّ من هوازِنَ، وهم قومٌ رُماةٌ، فرَمَوهم برِشْقٍ [1698] الرِّشْقُ: الوَجهُ من الرَّميِ، وهو أن يرميَ القومَ بأجمعِهم. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (2/ 242). من نَبلٍ كأنَّها رِجْلٌ مِن جَرادٍ [1699] الرِّجْلُ من الجرادِ: القِطعةُ منه. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (2/ 242). ، فانكشفوا، فأقبل القومُ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وأبو سُفيانَ بنُ الحارِثِ يقودُ به بَغْلَتَه، فنزل ودعا واستنصَرَ، وهو يقولُ: ((أنا النَّبيُّ لا كَذِبْ أنا ابنُ عَبدِ المُطَّلِبْ. اللَّهُمَّ نَزِّلْ نَصْرَك))، قال البراءُ: (كُنَّا واللهِ إذا احمَرَّ البأسُ نتَّقي به، وإنَّ الشُّجاعَ مِنَّا لَلَّذي يحاذي به، يعني النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم) [1700] أخرجه مسلم (1776) .
تضحيتُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وبَذلُه من أجْلِ دَعوةِ النَّاسِ لرَبِّ العالَمينَ:
عن عُروةَ أنَّ عائشةَ رَضِيَ اللهُ عنها زوجَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حدَّثَتْه أنَّها قالت للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((هل أتى عليكَ يومٌ كان أشَدَّ من يومِ أُحُدٍ؟ فقال: لقَد لَقِيتُ مِن قَومِكِ، وكانَ أشَدَّ ما لَقِيتُ منهم يَومَ العَقَبَةِ؛ إذْ عَرَضْتُ نَفسي على ابنِ عبدِ يَالِيلَ بنِ عبدِ كُلَالٍ، فلم يُجِبْني إلى ما أرَدْتُ، فانطَلَقْتُ وأنا مَهمومٌ على وَجهي، فلم أستَفِقْ إلَّا بقَرنِ الثَّعَالِبِ، فرَفَعتُ رَأسي فإذا أنا بسَحابةٍ قد أظَلَّتني، فنَظَرتُ فإذا فيها جِبريلُ، فناداني، فقال: إنَّ اللهَ عزَّ وجَلَّ قد سمِعَ قَولَ قَومِك لك وما ردُّوا عليك، وقد بَعَث إليك ملَكَ الجِبالِ لتَأمُرَه بما شِئتَ فيهم، قال: فناداني مَلَكُ الجِبالِ وسَلَّم عَلَيَّ، ثمَّ قال: يا محمَّدُ، إنَّ اللهَ قد سمِعَ قَولَ قَومِك لك، وأنا مَلَكُ الجِبالِ، وقد بعثَني ربُّك إليكَ لتَأمُرَني بأمرِك، فما شِئتَ؛ إنْ شِئتَ أن أُطبِقَ عليهم الأخشَبَينِ، فقال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: بل أرجو أن يُخرِجَ اللهُ من أصلابِهم من يعبُدُ اللهَ وَحدَه لا يُشرِكُ به شيئًا)) [1701] أخرجه البخاري (3231) واللَّفظُ له، ومسلم (1795). .

انظر أيضا: