موسوعة الأخلاق والسلوك

ج- التَّضْحيةُ عِندَ الصَّحابةِ


حياةُ الصَّحابةِ مَليئةٌ بمواقِفِ التَّضْحيةِ والفِداءِ، والبَذلِ والعَطاءِ؛ من أجْلِ نُصرةِ دِينِ اللهِ، وهذه نماذِجُ من تضحياتِهم.
أبو بَكرٍ الصِّدِّيقُ رَضِيَ اللهُ عنه:
عن أبي سعيدٍ الخُدْريِّ رَضِيَ اللهُ عنه قال: خَطَب النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فقال: ((إنَّ اللهَ خيَّر عبدًا بَينَ الدُّنيا وبَينَ ما عندَه، فاختار ما عِندَ اللهِ. فبكى أبو بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه! فقُلتُ في نفسي: ما يُبكي هذا الشَّيخَ إن يكُنِ اللهُ خيَّر عبدًا بَينَ الدُّنيا وبَينَ ما عِندَه، فاختار ما عندَ اللهِ؟! فكان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم هو العَبدَ، وكان أبو بكرٍ أعلَمَنا. قال: يا أبا بَكرٍ لا تَبْكِ، إنَّ أمَنَّ النَّاسِ علَيَّ في صُحبتِه ومالِه أبو بكرٍ، ولو كنتُ متَّخِذًا خليلًا من أمَّتي لاتَّخذتُ أبا بكرٍ، ولكِنْ أُخوَّةُ الإسلامِ ومَوَدَّتُه، لا يَبْقَيَنَّ في المسجِدِ بابٌ إلَّا سُدَّ، إلَّا بابَ أبي بكرٍ)) [1702] أخرجه البخاري (466) واللَّفظُ له، ومسلم (2382). .
وعن زيدِ بنِ أسلَمَ عن أبيه قال: سمِعتُ عُمَرَ بنَ الخَطَّابِ يقولُ: ((أمَرَنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يومًا أن نتصَدَّقَ، فوافَق ذلك مالًا عِندَي، فقُلتُ: اليومَ أسبِقُ أبا بكرٍ إن سبَقْتُه يومًا! فجِئتُ بنِصفِ مالي، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما أبقَيْتَ لأهلِك؟، قُلتُ: مِثْلَه، قال: وأتى أبو بكرٍ رَضِيَ اللهُ عنه بكُلِّ ما عِندَه، فقال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ما أبقَيْتَ لأهلِك؟ قال: أبقَيتُ لهم اللهَ ورَسولَه! قُلتُ: لا أسابِقُك إلى شيءٍ أبدًا)) [1703] رواه أبو داود (1678)، والتِّرمذي (3675)، والدارمي (1/480) (1660)، والحاكم (1/574)، وقال التِّرمذي: حسنٌ صحيحٌ. وقال الحاكم: صحيح على شرط مسلم ولم يخرِّجاه. وصحَّحه النَّوويُّ في ((المجموع)) (6/236)، وحسَّنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود))، والوادعي في ((الصَّحيح المسند)) (996). .
عُمَرُ بنُ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ عنه:
عن ابنِ عُمَرَ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ عُمَرَ بنَ الخطَّابِ أصاب أرضًا بخَيبَرَ، فأتى النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يستأمِرُه فيها، فقال: يا رَسولَ اللهِ، إنِّي أصبتُ أرضًا بخيبَرَ لم أصِبْ مالًا قطُّ أنفَسَ عندي منه، فما تأمُرُ به؟ قال: إنْ شِئتَ حَبَسْتَ أصلَها وتصدَّقْتَ بها. قال: فتصدَّقَ بها عُمَرُ أنَّه لا يُباعُ ولا يُوهَبُ ولا يُورَثُ، وتصدَّقَ بها في الفُقَراءِ، وفي القُرْبى، وفي الرِّقابِ، وفي سبيلِ اللهِ، وابنِ السَّبيلِ، والضَّيفِ، لا جُناحَ على من وَلِيَها أن يأكُلَ منها بالمعروفِ، ويُطعِمَ غَيرَ مُتَمَوِّلٍ [1704] غيرَ مُتَمَوِّلٍ: أي: غيرَ متَّخِذٍ منها مالًا، أي: مِلكًا، والمرادُ: أنَّه لا يتمَلَّكُ شيئًا من رِقابِها. يُنظر: ((فتح الباري)) لابن حجر (5/ 401). ). قال: فحدَّثتُ به ابنَ سِيرينَ، فقال: غيرَ مُتَأَثِّلٍ [1705] التَّأثُّلُ: جَعلُ شيءٍ أصلًا، واتخاذُ رأسِ مالٍ، يعني: لا يجوزُ له أن يأخُذَ ذَخيرةً لنفسِه، بل لا يجوزُ له غيرُ القوتِ والكِسوةِ. يُنظر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (3/ 514). مالًا [1706] أخرجه البخاري (2737) واللَّفظُ له، ومسلم (1632). .
أبو طلحةَ رَضِيَ اللهُ عنه:
عن أنَسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه يقولُ: ((كان أبو طلحةَ أكثَرَ الأنصارِ بالمدينةِ مالًا مِن نَخلٍ، وكان أحبُّ أموالِه إليه بَيْرُحَاءَ [1707] هو حائِطٌ يُسَمَّى بهذا الاسمِ. يُنظر: ((شرح النووي على مسلم)) (7/ 84). ، وكانت مُستَقبِلةَ المسجِدِ، وكان رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يدخُلُها ويَشرَبُ من ماءٍ فيها طيِّبٍ، قال أنَسٌ: فلمَّا أُنزِلَت هذه الآيةُ: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ [آل عمران: 92] ، قام أبو طَلحةَ إلى رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رسولَ اللهِ، إنَّ اللهَ تبارك وتعالى يقولُ: لَنْ تَنَالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ، وإنَّ أحبَّ أموالي إليَّ بَيْرُحَاءُ، وإنَّها صَدَقةٌ للهِ، أرجو بِرَّها وذُخْرَها عندَ اللهِ، فضَعْها يا رسولَ اللهِ حيثُ أراك اللهُ. قال: فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: بَخْ [1708] هي كَلِمةٌ تقالُ عندَ المدحِ: قيل: معناها تعظيمُ الأمرِ وتفخيمُه. يُنظر: ((كشف المشكل من حديث الصحيحين)) (3/ 311). ! ذلك مالٌ رابحٌ، ذلك مالٌ رابِحٌ! وقد سَمِعْتُ ما قُلتَ، وإنِّي أرى أن تجعَلَها في الأقرَبينَ. فقال أبو طلحةَ: أفعَلُ يا رسولَ اللهِ. فقسَمها أبو طلحةَ في أقارِبِه وبني عَمِّه)) [1709] أخرجه البخاري (1461) واللَّفظُ له، ومسلم (998). .
الزُّبيرُ بنُ العوَّامِ رَضِيَ اللهُ عنه:
يقولُ ابنُ كثيرٍ وهو يَستعرِضُ غَزوةَ تَبوكَ: (وقد كان فيمَن شَهِد اليرموكَ: الزُّبَيرُ بنُ العوَّامِ، وهو أفضَلُ مَن هناك من الصَّحابةِ، وكان مِن فُرسانِ النَّاسِ وشِجْعانِهم، فاجتَمَع إليه جماعةٌ من الأبطالِ يومَئذٍ، فقالوا: ألا تحمِلُ فنَحمِلَ معك؟ فقال: إنَّكم لا تَثْبُتون، فقالوا: بلى! فحَمَل وحمَلوا، فلمَّا واجَهوا صُفوفَ الرُّومِ أحجَموا وأقدَمَ هو، فاختَرَق صفوفَ الرُّومِ حتَّى خرج من الجانِبِ الآخَرِ، وعاد إلى أصحابِه. ثمَّ جاؤوا إليه مرَّةً ثانيةً، ففعل كما فَعَل في الأُولى، وجُرِح يومَئذٍ جُرحَينِ بَينَ كَتِفَيه، وفي روايةٍ: جُرْحٌ) [1710] ((البداية والنهاية)) (7/15). .
وعن عُروةَ (أنَّ أصحابَ رَسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قالوا للزُّبيرِ: ألَا تَشُدُّ فنَشُدَّ معك؟ قال: إنِّي إن شدَدْتُ كَذَبْتُم. فقالوا: لا نفعَلُ. فحمَلَ عليهم حتى شقَّ صفوفَهم، فجاوَزَهم وما معه أحَدٌ، ثمَّ رَجَع مقبلًا، فأخذوا بلِجامِه، فضَرَبوه ضربَتَيِن: ضربةً على عاتِقِه بينهما ضربةٌ ضُرِبَها يومَ بَدرٍ. قال عُروةُ: فكُنتُ أدخِلُ أصابعي في تلك الضَّرَباتِ ألعَبُ وأنا صغيرٌ! قال: وكان معه عبدُ اللهِ بنُ الزُّبيرِ، وهو ابنُ عَشرِ سِنينَ، فحَمَله على فَرَسٍ ووكَّل به رَجُلًا) [1711]أخرجه البخاري (3975). .
أنَسُ بنُ النَّضرِ رَضِيَ اللهُ عنه:
عن أنَسٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ عمَّه غاب عن بدرٍ، فقال: (غِبتُ عن أوَّلِ قِتالِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم! لَئِن أشهَدَني اللهُ مع النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ليَرَينَّ اللهُ ما أُجِدُّ، فلَقِيَ يومَ أحُدٍ، فهُزِم النَّاسُ، فقال: اللَّهُمَّ إنِّي أعتَذِرُ إليك ممَّا صنع هؤلاء، يعني المُسلِمين، وأبرَأُ إليك ممَّا جاء به المُشرِكون، فتقدَّم بسَيفِه فلَقِيَ سعدَ بنَ مُعاذٍ، فقال: أين يا سَعدُ؟! إنِّي أجِدُ رِيحَ الجنَّةِ دونَ أُحُدٍ! فمضى فقُتِلَ، فما عُرِفَ حتَّى عرَفَتْه أختُه بشامةٍ أو ببَنانِه، وبه بِضعٌ وثمانون مِن طَعنةٍ وضَربةٍ ورَميةٍ بسَهمٍ!) [1712]أخرجه البخاري (4048) واللَّفظُ له، ومسلم (1903). .
جابِرُ بنُ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه:
عن جابِرِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنهما: ((أنَّ عبدَ اللهِ هَلَك، وتَرَك تِسعَ بَناتٍ -أو قال: سَبْعَ- فتزَوَّجْتُ امرأةً ثَيِّبًا، فقال لي رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يا جابِرُ، تزوَّجْتَ؟ قال: قُلتُ: نعمْ، قال: فبِكرٌ أم ثَيِّبٌ؟ قال: قُلتُ: بل ثَيِّبٌ يا رسولَ اللَّهِ، قال: فهَلَّا جاريةٌ تُلاعِبُها وتُلاعِبُك!، أو قال: تُضاحِكُها وتُضاحِكُك، قال: قُلتُ له: إنَّ عبدَ اللهِ هَلَك، وتَرَك تِسعَ بناتٍ -أو سَبعَ- وإنِّي كَرِهْتُ أن آتيَهنَّ أو أجيئَهنَّ بمِثْلِهنَّ، فأحبَبْتُ أن أجيءَ بامرأةٍ تقومُ عليهنَّ وتُصلِحُهنَّ، قال: فبارَكَ اللهُ لك أو قال لي خيرًا)) [1713] أخرجه البخاري (5367)، ومسلم (715) واللَّفظُ له. .
قال ابنُ حَجَرٍ: (فيه فضيلةٌ لجابِرٍ لشَفَقتِه على أخواتِه وإيثارِه مَصلحتَهنَّ على حَظِّ نفسِه) [1714] ((فتح الباري)) (9/123). .

انظر أيضا: