موسوعة الأخلاق والسلوك

 أ- عِندَ الأنبياءِ والمُرسَلين والأُمَمِ السَّابِقةِ


تَضحياتُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ:
تَرْكُ زَوجتِه ووَلَدِه الرَّضيعِ بوادٍ غيرِ ذي زَرعٍ؛ امتِثالًا لأمرِ رَبِّه سُبحانَه:
قال تعالى حكايةً عن إبراهيمَ عليه السَّلامُ: رَبَّنَا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوَادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنَا لِيُقِيمُوا الصَّلَاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَرَاتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ [إبراهيم: 37] .
قال الطَّبَريُّ: (فتأويلُ الكلامِ إذَنْ: رَبَّنا إنِّي أسكَنْتُ بَعضَ وَلَدي بوادٍ غيرِ ذي زَرعٍ، وفي قَولِه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم دليلٌ على أنَّه لم يكُنْ هنالك يومَئذٍ ماءٌ؛ لأنَّه لو كان هنالك ماءٌ لم يَصِفْه بأنَّه غيرُ ذي زَرعٍ، عِندَ بَيتِك الذي حرَّمْتَه على جميعِ خَلْقِك أن يَستَحِلُّوه) [1682] ((جامع البيان)) (13/696) .
وعن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما قال: (ثمَّ جاء بها إبراهيمُ وبابنِها إسماعيلَ وهي تُرضِعُه، حتى وضعَهما عِندَ البَيتِ عِندَ دَوحةٍ [1683] الدَّوحة: الشَّجَرةُ. يُنظر: ((الإفصاح عن معاني الصحاح)) لابن هبيرة (3/ 149). فوقَ زَمْزَمَ في أعلى المسجِدِ، وليس بمكَّةَ يومَئذٍ أحَدٌ، وليس بها ماءٌ، فوضَعَهما هنالِك، ووَضَع عندَهما جِرابًا فيه تمرٌ، وسِقاءً فيه ماءٌ، ثم قَفَّى إبراهيمُ مُنطَلِقًا، فتَبِعَتْه أمُّ إسماعيلَ فقالت: يا إبراهيمُ، أين تذهبُ وتتركُنا بهذا الوادي الذي ليس فيه إنسٌ ولا شيءٌ؟! فقالت ذلك مرارًا، وجَعَل لا يلتَفِتُ إليها، فقالت له: آللهُ أمَرَك بهذا؟ قال: نعَمْ. قالت: إذَنْ لا يُضَيِّعُنا) [1684] أخرجه البخاري (3364) مطوَّلًا. .
أمرُ إبراهيمَ بذَبحِ إسماعيلَ وامتِثالُهما عليهما السَّلامُ:
قال تعالى: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قَالَ يَا بُنَيَّ إِنِّي أَرَى فِي الْمَنَامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ مَاذَا تَرَى قَالَ يَا أَبَتِ افْعَلْ مَا تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شَاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ * فَلَمَّا أَسْلَمَا وَتَلَّهُ لِلْجَبِينِ * وَنَادَيْنَاهُ أَنْ يَا إِبْرَاهِيمُ * قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيَا إِنَّا كَذَلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ [الصافات: 102 - 105] .
قال ابنُ كثيرٍ: (معنى وتَلَّه للجَبينِ أي: صرَعَه على وَجْهِه ليذبَحَه من قفاه، ولا يشاهِدَ وَجهَه عِندَ ذَبحِه؛ ليكونَ أهوَنَ عليه) [1685] يُنظر: ((تفسير القرآن العظيم)) (7/29). .
هِجرةُ إبراهيمَ عليه السَّلامُ مِن وَطَنِه:
قال اللهُ تعالى: قَالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْيَانًا فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ * فَأَرَادُوا بِهِ كَيْدًا فَجَعَلْنَاهُمُ الْأَسْفَلِينَ * وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي سَيَهْدِينِ [الصافات: 97 - 99] .
قال الشَّوكانيُّ: (وَقَالَ إِنِّي ذَاهِبٌ إِلَى رَبِّي أي: مُهاجِرٌ مِن بَلَدِ قومي الذين فعَلوا ما فعَلوا تعصبًا للأصنامِ، وكُفرًا باللهِ، وتكذيبًا لرُسُلِه، إلى حيثُ أمرَني بالمهاجَرةِ إليه، أو إلى حيثُ أتمكَّنُ من عبادتِه سَيَهْدِينِ أي: سيَهديني إلى المكانِ الذي أمرَني بالذَّهابِ إليه، أو إلى مَقصَدي) [1686] ((فتح القدير)) للشوكاني (4/ 462). .
تضحيةُ يُوسُفَ عليه السَّلامُ بحُرِّيَّتِه إرضاءً للهِ سُبحانَه:
قال تعالى: قَالَتْ فَذَلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَلَقَدْ رَاوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَلَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ مَا آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَلَيَكُونًا مِنَ الصَّاغِرِينَ * قَالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَإِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَأَكُنْ مِنَ الْجَاهِلِينَ [يوسف: 32-33] .
تضحيةُ موسى عليه السَّلامُ في سبيلِ طَلَبِ العِلمِ:
قال اللهُ تعالى في قِصَّةِ موسى عليه السَّلامُ مع الخَضِرِ: وَإِذْ قَالَ مُوسَى لِفَتَاهُ لَا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُبًا * فَلَمَّا بَلَغَا مَجْمَعَ بَيْنِهِمَا نَسِيَا حُوتَهُمَا فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَبًا * فَلَمَّا جَاوَزَا قَالَ لِفَتَاهُ آتِنَا غَدَاءَنَا لَقَدْ لَقِينَا مِنْ سَفَرِنَا هَذَا نَصَبًا [الكهف: 60-62] .
وقد كان الهَدَفُ من هذه الرِّحلةِ التي لَقِيَ فيها النَّصَبَ هو طَلَبَ العِلمِ؛ قال اللهُ تعالى: قَالَ لَهُ مُوسَى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلَى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْدًا [الكهف: 66] .
التَّضحيةُ عِندَ الأُمَمِ السَّابِقةِ:
تَضحيةُ سَحَرةِ فِرعَونَ:
قال تعالى مُبَيِّنًا ما دار بَينَ فِرعَونَ والسَّحَرةِ بعدَما تبيَّن لهم صِدقُ موسى عليه السَّلامُ: فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّدًا قَالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هَارُونَ وَمُوسَى * قَالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَأَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلَافٍ وَلَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَلَتَعْلَمُنَّ أَيُّنَا أَشَدُّ عَذَابًا وَأَبْقَى * قَالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلَى مَا جَاءَنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالَّذِي فَطَرَنَا فَاقْضِ مَا أَنْتَ قَاضٍ إِنَّمَا تَقْضِي هَذِهِ الْحَيَاةَ الدُّنْيَا * إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنَا لِيَغْفِرَ لَنَا خَطَايَانَا وَمَا أَكْرَهْتَنَا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَاللَّهُ خَيْرٌ وَأَبْقَى * إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِمًا فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لَا يَمُوتُ فِيهَا وَلَا يَحْيَى * وَمَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِنًا قَدْ عَمِلَ الصَّالِحَاتِ فَأُولَئِكَ لَهُمُ الدَّرَجَاتُ الْعُلَى * جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهَارُ خَالِدِينَ فِيهَا وَذَلِكَ جَزَاءُ مَنْ تَزَكَّى [طه: 70 - 76] .
تضحيةُ الغُلامِ وأصحابِ الأُخدودِ:
قال اللهُ تعالى: قُتِلَ أَصْحَابُ الْأُخْدُودِ * النَّارِ ذَاتِ الْوَقُودِ * إِذْ هُمْ عَلَيْهَا قُعُودٌ * وَهُمْ عَلَى مَا يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ * وَمَا نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ * الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَاللَّهُ عَلَى كُلِّ شَيْءٍ شَهِيدٌ * إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَالْمُؤْمِنَاتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذَابُ جَهَنَّمَ وَلَهُمْ عَذَابُ الْحَرِيقِ [البروج: 4 -10] .
عن صُهَيبٍ رَضِيَ اللهُ عنه أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال في قِصَّةِ غُلامِ أصحابِ الأُخدودِ الذي ضحَّى بنفسِه من أجْلِ أن يؤمِنَ النَّاسُ: ((... فقال للمَلِكِ: إنَّك لستَ بقاتِلي حتى تفعَلَ ما آمُرُك به. قال: وما هو؟ قال: تجمَعُ النَّاسَ في صَعيدٍ واحدٍ، وتَصلُبُني على جِذعٍ، ثمَّ خُذْ سَهمًا مِن كِنانتي [1687] الكِنانةُ: الوِعاءُ الذي فيه السِّهامُ. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (1/ 21). ، ثمَّ ضَعِ السَّهمَ في كَبِدِ [1688] أي: وَسَطَها. يُنظر: ((كشف المشكل)) لابن الجوزي (4/ 209). القوسِ، ثمَّ قُلْ: باسمِ اللهِ ربِّ الغُلامِ، ثمَّ ارْمِني؛ فإنَّك إذا فعَلْتَ ذلك قتَلْتَني. فجَمَع النَّاسَ في صعيدٍ واحدٍ، وصَلَبه على جِذعٍ، ثمَّ أخَذَ سَهمًا من كِنانتِه، ثمَّ وَضَع السَّهمَ في كَبِدِ القوسِ، ثمَّ قال: باسمِ اللهِ ربِّ الغلامِ، ثمَّ رماه، فوقَع السَّهمُ في صُدْغِه [1689] الصُّدغُ: هو ما بَينَ العينِ إلى شَحمةِ الأذُنِ. يُنظر: ((دليل الفالحين)) لابن علان (1/ 168). ، فوَضَع يَدَه في صُدْغِه في مَوضِعِ السَّهمِ، فمات. فقال النَّاسُ: آمنَّا بربِّ الغلامِ، آمنَّا بربِّ الغلامِ، آمنَّا بربِّ الغلامِ! فأُتِيَ المَلِكُ، فقيل له: أرأيتَ ما كُنتَ تَحْذَرُ؟ قد -واللهِ- نَزَل بك حَذَرُك، قد آمن النَّاسُ! فأمر بالأُخْدودِ في أفواهِ السِّكَكِ، فخُدَّتْ، وأضرمَ النِّيرانَ. وقال: مَن لم يرجِعْ عن دينِه فأَحْمُوه فيها، أو قيل له: اقتَحِمْ. ففَعَلوا، حتَّى جاءت امرأةٌ ومعها صبيٌّ لها، فتقاعَسَت أن تقَعَ فيها، فقال لها الغُلامُ: يا أمَّهْ اصْبِري؛ فإنَّك على الحقِّ)) [1690] أخرجه مسلم (3005) مطوَّلًا. .
تضحيةُ أصحابِ الكَهْفِ:
قال اللهُ تعالى: أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحَابَ الْكَهْفِ وَالرَّقِيمِ كَانُوا مِنْ آيَاتِنَا عَجَبًا * إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقَالُوا رَبَّنَا آتِنَا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً وَهَيِّئْ لَنَا مِنْ أَمْرِنَا رَشَدًا [الكهف: 9-10] .
وقال تعالى حكايةً عنهم: وَإِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَمَا يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَيُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقًا [الكهف: 16] .
فقد فرُّوا بدينِهم، وهَجَروا قومَهم وقَراباتِهم وأصدِقاءَهم، وتركوا أموالَهم؛ خَوفَ الفِتنةِ ليَعبُدوا اللهَ وَحدَه، فاتَّخَذوا الكَهفَ مأوًى لهم؛ لِيختَفوا فيه مِن قَومِهم.
تضحيةُ مُؤمِنِ آلِ ياسينَ:
وَجَاءَ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعَى قَالَ يَا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ * اتَّبِعُوا مَنْ لَا يَسْأَلُكُمْ أَجْرًا وَهُمْ مُهْتَدُونَ * وَمَا لِيَ لَا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ * أَأَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمَنُ بِضُرٍّ لَا تُغْنِ عَنِّي شَفَاعَتُهُمْ شَيْئًا وَلَا يُنْقِذُونِ * إِنِّي إِذًا لَفِي ضَلَالٍ مُبِينٍ * إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ * قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قَالَ يَا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ * بِمَا غَفَرَ لِي رَبِّي وَجَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ [يس: 20 - 27] .
(وفي قَولِه: قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ كنايةٌ عن قَتلِه شَهيدًا في إعلاءِ كَلِمةِ اللهِ؛ لأنَّ تعقيبَ مَوعِظتِه بأمرِه بدُخولِ الجنَّةِ دَفعةً بلا انتقالٍ: يفيدُ بدلالةِ الاقتضاءِ أنَّه مات وأنَّهم قَتَلوه لمخالفتِه دينَهم، قال بعضُ المُفَسِّرين: قتلوه رجمًا بالحِجارةِ، وقال بعضُهم: أحرَقوه، وقال بعضُهم: حَفَروا له حُفرةً ورَدَموه فيها حيًّا!
وإنَّ هذا الرَّجُلَ المؤمِنَ قد أُدخِل الجنَّةَ عَقِب موتِه؛ لأنَّه كان من الشُّهَداءِ، والشُّهَداءُ لهم مَزِيَّةُ التَّعجيلِ بدُخولِ الجنَّةِ دُخولًا غيرَ مُوَسَّعٍ) [1691] ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (22/ 370). .

انظر أيضا: