موسوعة الأخلاق والسلوك

أ- من القُرآنِ الكريمِ


1- قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جَاءَكُمْ فَاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ [الحجرات: 6] .
أي: يا أيُّها الذين آمنوا إن جاءَكم أيُّ فاسِقٍ كان بأيِّ خَبَرٍ، فتمَهَّلوا وتوَقَّفوا عن قَبولِ خَبَرِه، حتَّى تتيقَّنوا منه، فتتَبَيَّنوا صِدقَه أو كَذِبَه، وتظهَرَ لكم الحقيقةُ، أَنْ تُصِيُبوا قَوْمًا بِجَهَالَةٍ أي: إنْ جاءَكم فاسِقٌ بنَبَأٍ فتَبَيَّنوا؛ لئلَّا تُصيبوا -خطَأً وجَهلًا منكم- قومًا بُرآءَ ممَّا قُذِفوا به بسَبَبِ تصديقِكم الفاسِقَ في خَبَرِه الكاذِبِ، فَتُصْبِحُوا عَلَى مَا فَعَلْتُمْ نَادِمِينَ أي: فتندَموا -أيها المُؤمِنون- على إصابتِكم القومَ البُرآءَ بأذًى وضَرَرٍ؛ بسبَبِ تعَجُّلِكم في قَبوِل خَبرِ الفاسِقِ، وتركِكم التَّبَيُّنَ والتَّثَبُّتَ [1542] يُنظَر: ((التفسير المحرر - الدرر السنية)) (34/235، 236). .
قال الطَّبَريُّ بعدَ أن بَيَّنَ أنَّ عامَّةَ القُرَّاءِ قَرَؤوا (فتَبَيَّنُوا)، وقرأ أهلُ المدينةِ (فتَثَبَّتُوا)، وأنَّهما قراءتانِ معروفتانِ متقارِبتا المعنى يصيبُ القارئُ بأيَّتِهما قرأَ، وذَكَر عدَّةَ أسبابٍ في نزولِ الآيةِ: (فتَبَيَّنوا، بالباءِ، بمعنى: أمهِلوا حتَّى تَعرِفوا صِحَّتَه، لا تَعْجَلوا بقَبولِه، وكذلك معنى فتَثَبَّتوا) [1543] ((جامع البيان)) (21/349). .
وهذا من الآدابِ التي على أُولي الألبابِ التَّأدُّبُ بها واستعمالُها، وهو أنَّه إذا أخبَرَهم فاسِقٌ بخبَرٍ أن يتَثَبَّتوا في خَبَرِه، ولا يأخُذوه مجَرَّدًا؛ فإنَّ في ذلك خطَرًا كبيرًا، ووقوعًا في الإثمِ؛ فإنَّ خبَرَه إذا جُعِل بمنزلةِ خَبَرِ الصَّادِقِ العَدلِ حُكِم بموجِبِ ذلك ومُقتَضاه، فحَصَل من تَلَفِ النُّفوسِ والأموالِ بغيرِ حَقٍّ بسَبَبِ ذلك الخبرِ ما يكونُ سببًا للنَّدامةِ، بل الواجبُ عِندَ خبرِ الفاسِقِ التَّثَبُّتُ والتَّبَيُّنُ، فإن دلَّت الدَّلائِلُ والقرائنُ على صِدقِه عُمِل به وصُدِّق، وإن دلَّت على كَذِبه كُذِّب ولم يُعمَلْ به [1544] يُنظَر: ((تيسير الكريم الرحمن)) للسعدي (ص: 799). .
وهذه الآيةُ الكريمةُ أصلٌ عظيمٌ في تصَرُّفاتِ وُلاةِ الأمورِ، وفي تعامُلِ النَّاسِ بعضِهم مع بعضٍ؛ من عَدَمِ الإصغاءِ إلى كُلِّ ما يُروى ويُخبَرُ به [1545] يُنظَر: ((التحرير والتنوير)) لابن عاشور (26/ 230، 231). .
2- وقال تعالى مُنَبِّهًا على ضرورةِ تَثَبُّتِ الإنسانِ: وَلَا تَقْفُ مَا لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَالْبَصَرَ وَالْفُؤَادَ كُلُّ أُولَئِكَ كَانَ عَنْهُ مَسْئُولًا [الإسراء: 36] .
قال السَّعديُّ: (أي: ولا تَتبَعْ ما ليس لك به عِلمٌ، بل تَثَبَّتْ في كُلِّ ما تقولُه وتفعَلُه، فلا تظنَّ ذلك يذهَبُ لا لك ولا عليك) [1546] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 457). .
3- وقال تعالى آمِرًا بالتَّثَبُّتِ عِندَ وجودِ الشُّبهةِ: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذَا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَلَا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقَى إِلَيْكُمُ السَّلَامَ لَسْتَ مُؤْمِنًا تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَيَاةِ الدُّنْيَا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغَانِمُ كَثِيرَةٌ كَذَلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كَانَ بِمَا تَعْمَلُونَ خَبِيرًا [النساء: 94] .
فيه الأمرُ بالتَّثَبُّتِ عِندَ الشُّبهةِ، والنَّهيُ عن الإقدامِ عِندَها، وهكذا الواجِبُ على المُؤمِنِ الوقوفُ عِندَ اعتراضِ الشُّبهةِ في كُلِّ فِعلٍ وكُلِّ خَبرٍ [1547] ((تفسير الماتريدي)) (3/331). .
4- وقال تعالى في خَطَرِ نَقلِ الكلامِ دونَ تَثَبُّتٍ منه: إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَتَقُولُونَ بِأَفْوَاهِكُمْ مَا لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَتَحْسَبُونَهُ هَيِّنًا وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ [النور: 15] .
معنى تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ أي: وَسائِلُ التَّلقِّي والعِلمِ لم تكُنْ مُعايَنةً، ولكنْ هي الألسِنةُ، وتقولونَه مُرَدِّدين ما سمِعتُم بأفواهِكم، ولم تؤمِنْ به قلوبُكم، ولم تعايِنوه وتَرَوه، بل انتقَلَت الكَلِماتُ من الألسِنةِ وردَّدتَها الأفواهُ من غيرِ عِلمٍ أو تَثَبُّتٍ؛ فالألسِنةُ قالته من غيرِ عِلمٍ، وردَّدتَه الأفواهُ من غيرِ عِلمٍ، واتَّخَذوه سَمَرًا، يُرَطِّبون فيه المجالِسَ بالإثمِ من غيرِ عِلمٍ، ظنًّا منهم أنَّه هَيِّنٌ لا أثَرَ له ولا إثمَ فيه، وأنَّ التَّفكُّهَ بهذا القولِ هو أمرٌ هَيِّنٌ، وَهُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ، وذِكرُ اسمِ اللَّهِ تعالى توهينٌ لزعمِهم، وبيانٌ لعِظَمِ الإثمِ، وفيه توبيخٌ شديدٌ لهم؛ فليس ما ارتكبوه هَنةً صغيرةً، بل هو جريمةٌ كبيرةٌ [1548] يُنظَر: ((زهرة التفاسير)) لمحمد أبي زهرة (10/ 5160). .
5- وقال تعالى مُنَبِّهًا على ضرورةِ التَّثَبُّتِ من المعلومةِ قبلَ إذاعتِها: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ وَلَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَإِلَى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَلَوْلَا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَرَحْمَتُهُ لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطَانَ إِلَّا قَلِيلًا [النساء: 83] .
وفي هذا إنكارٌ على من يبادِرُ إلى الأمورِ قبلَ تحَقُّقِها، فيُخبِرُ بها ويُفشيها ويَنشُرُها، وقد لا يكونُ لها صِحَّةٌ [1549] ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (2/365). .
6- قال اللَّهُ تعالى: وَتَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقَالَ مَا لِيَ لَا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كَانَ مِنَ الْغَائِبِينَ * لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذَابًا شَدِيدًا أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطَانٍ مُبِينٍ * فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقَالَ أَحَطْتُ بِمَا لَمْ تُحِطْ بِهِ وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ * إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَأُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْءٍ وَلَهَا عَرْشٌ عَظِيمٌ * وَجَدْتُهَا وَقَوْمَهَا يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطَانُ أَعْمَالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لَا يَهْتَدُونَ * أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْءَ فِي السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَيَعْلَمُ مَا تُخْفُونَ وَمَا تُعْلِنُونَ * اللَّهُ لَا إِلَهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ * قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النمل: 20 - 27] .
قال السَّمعانيُّ: (فيه دليلٌ على أنَّ الملوكَ يجِبُ عليهم التَّثَبُّتُ فيما يُخبَرون) [1550] ((تفسير القرآن)) (4/91). .
قال ابنُ عُثَيمين عن قَولِه تعالى: قَالَ سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ (من فوائِدِ الآيةِ الكريمةِ: .... أنَّه ينبغي التَّثَبُّتُ في الخبَرِ، لا سيَّما عِندَ قيامِ الشُّبُهاتِ، وما هي الشُّبهةُ القائمةُ هنا؟ أنَّ الهُدهُدَ قال ذلك مدافَعةً، وإن كان بعيدًا؛ لأنَّه قال: وَجِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ [النمل: 22] ، لكِنْ لمَّا كان هذا مقامَ دِفاعٍ، فإنَّه ينبغي أن يتَثَبَّتَ الإنسانُ أكثَرَ؛ ولهذا قال: سَنَنْظُرُ أَصَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكَاذِبِينَ [النمل: 27] ، مع أنَّه قال: بِنَبَإٍ يَقِينٍ [النمل: 22] ) [1551] ((تفسير ابن عثيمين - سورة النمل)) (ص: 167). .

انظر أيضا: