موسوعة الأخلاق والسلوك

سابعًا: مظاهِرُ وصُوَرُ المُداهَنةِ


1- السُّكوتُ عِندَ مشاهدةِ المعاصي والمناهي مع القُدرةِ على التَّغييرِ بلا ضَرَرٍ دِينيٍّ أو دُنيويٍّ له أو لغيرِه [6611] ((بريقة محمودية)) لأبي سعيد الخادمي (3/ 127). .
2- إظهارُ الرِّضا بما يَصدُرُ من الظَّالِمِ أو الفاسِقِ أو المبتَدِعِ من قولٍ باطلٍ أو عَمَلٍ سَيِّئٍ، فهي بَلادةٌ في النَّفسِ، واستكانةٌ للهوى، وقَبولُ ما لا يرضى به ذو دينٍ أو عقلٍ أو مروءةٍ.
وقد قال القَرافيُّ: (كُلُّ مَن يَشكُرُ ظالِمًا على ظُلمِه أو مبتَدِعًا على بدعتِه أو مُبطِلًا على إبطالِه وباطِلِه، فهي مُداهَنةٌ حرامٌ؛ لأنَّ ذلك وسيلةٌ لتكثيرِ ذلك الظُّلمِ والباطِلِ من أهلِه) [6612] ((الفروق)) (4/236). .
3- الثَّناءُ على الرَّجُلِ في وَجهِه، فإذا انصرَفْتَ عنه أطلَقْتَ لسانَك في ذَمِّه، وهذا من النِّفاقِ المنهيِّ عنه.
4- أن يُلاقيَ المداهِنُ الرَّجُلين بَيْنَهما عداوةٌ، فيُغريَ أحَدَهما بالآخَرِ، ويُظهِرَ لكُلِّ واحدٍ منهما الرِّضا عن معاداتِه لصاحِبِه، ويوافقَه على دعوى أنَّه المحِقُّ، وأنَّ صاحِبَه المُبطِلُ.
5- موالاةُ الكُفَّارِ واليهودِ والنَّصارى، وذلك من أشنَعِ صُوَرِ المُداهَنةِ؛ فموالاةُ الكُفَّارِ وموافقتُهم أو نُصرتُهم، كُلُّ ذلك من المُداهَنةِ.
قال تعالى: لَا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكَافِرِينَ أَوْلِيَاءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَمَنْ يَفْعَلْ ذَلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْءٍ إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقَاةً وَيُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَإِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ [آل عمران: 28] .
قال البَغَويُّ: (ومعنى الآيةِ: أنَّ اللَّهَ تعالى نهى المُؤمِنين عن موالاةِ الكُفَّارِ ومداهنتِهم ومباطنتِهم، إلَّا أن يكونَ الكُفَّارُ غالِبين ظاهِرين، أو يكونَ المُؤمِنُ في قومٍ كُفَّارٍ يخافُهم فيداريهم باللِّسانِ وقلبُه مُطمَئِنٌّ بالإيمانِ؛ دَفعًا عن نفسِه من غيرِ أن يستحِلَّ دمًا حرامًا أو مالًا حرامًا، أو يُظهِرَ الكُفَّارَ على عورةِ المُسلِمين، والتَّقيَّةُ لا تكونُ إلَّا مع خوفِ القَتلِ وسلامةِ النِّيَّةِ؛ قال اللَّهُ تعالى: إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ وَقَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمَانِ [النحل: 106] ، ثمَّ هذا رُخصةٌ، فلو صَبَر حتَّى قُتِل فله أجرٌ عظيمٌ) [6613] ((معالم التنزيل)) (2/26). .
6- مُداهَنةُ بعضِ القُضاةِ للسَّلاطينِ، بإصدارِ أحكامٍ قضائيَّةٍ وَفقَ رَغبتِهم، أو إهمالِ حُقوقِ بعضِ النَّاسِ من أجلِهم.
ومن أجْلِ ذلك حذَّر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من هذا المنصِبِ، وألَّا يتوَلَّاه من لا يرفَعُ رأسًا بدينِ اللَّهِ سُبحانَه وأحكامِه، فيَحكُمُ بالهوى فيَضِلُّ، فقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((القُضاةُ ثلاثةٌ: قاضيانِ في النَّارِ، وقاضٍ في الجنَّةِ: رجُلٌ قضى بغيرِ الحَقِّ فعَلِمَ ذاك، فذاك في النَّارِ، وقاضٍ لا يعلَمُ فأهلَك حقوقَ النَّاسِ فهو في النَّارِ، وقاضٍ قضى بالحَقِّ فذلك في الجنَّةِ)) [6614] أخرجه من طرُقٍ: أبو داود (3573)، والترمذي (1322) واللفظ له، وابن ماجه (2315) من حديثِ بُرَيدةَ بنِ الحُصَيبِ الأسلميِّ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه الطحاوي في ((شرح مشكل الآثار)) (9/209)، وابن الملقِّن في ((البدر المنير)) (9/552)، والألباني في ((صحيح سنن الترمذي)) (1322)، وشعيب الأرناؤوط بطرُقِه وشواهده في تخريج ((سنن أبي داود)) (3573). .
قال أبو حامِدٍ الغَزاليُّ: (ومهما كان السَّلاطينُ ظَلَمةً ولم يَقدِرِ القاضي على القضاءِ إلَّا بمداهنتِهم وإهمالِ بعضِ الحُقوقِ لأجْلِهم ولأجْلِ المتعَلِّقين بهم؛ إذ يعلَمُ أنَّه لو حكَمَ عليهم بالحَقِ لعزلوه أو لم يطيعوه، فليس له أن يتقَلَّدَ القضاءَ، وإن تقَلَّدَ فعليه أن يطالِبَهم بالحقوقِ، ولا يكونُ خَوفُ العَزلِ عُذرًا مُرَخِّصًا له في الإهمالِ أصلًا، بل إذا عُزِل سقَطَت العُهدةُ عنه، فينبغي أن يفرَحَ بالعَزلِ إن كان يقضي للهِ، فإن لم تسمَحْ نفسُه بذلك فهو إذَنْ يقضي لاتِّباعِ الهوى والشَّيطانِ، فكيف يرتقِبُ عليه ثوابًا وهو مع الظَّلَمةِ في الدَّرْكِ الأسفَلِ مِن النَّارِ؟!) [6615] ((إحياء علوم الدين)) (3/325). .
7- مُداهَنةُ الدَّاعيةِ أو الواعِظِ للنَّاسِ طَلبًا للمَحمَدةِ عندَهم، فترى الواحِدَ منهم يطلُبُ الجاهَ والشَّرَفَ والمنزلةَ في قلوبِ النَّاسِ، والأكلِ بالدِّينِ بأيِّ صورةٍ كانت.
8- الإفتاءُ بما يوافِقُ هوى الحُكَّامِ، وليُّ أعناقِ النُّصوصِ وتفسيرُها تفسيراتٍ باطلاتٍ؛ إرضاءً لهم، حتى يبقى المفتي في منصِبِه أو يظفَرَ بمنصِبٍ أعلى، أو يحصُلَ على مكاسِبَ دُنيويَّةٍ له أو لذَويه.
يقولُ القَرافيُّ: (ولا ينبغي للمُفتي إذا كان في المسألةِ قولانِ أحَدُهما فيه تشديدٌ والآخَرُ فيه تخفيفٌ أن يفتيَ العامَّةَ بالتَّشديدِ، والخواصَّ مِن وُلاةِ الأمورِ بالتَّخفيفِ، وذلك قريبٌ من الفُسوقِ والخيانةِ في الدِّينِ، والتَّلاعُبِ بالمُسلِمين، ودليلُ فراغِ القَلبِ من تعظيمِ اللَّهِ تعالى وإجلالِه وتقواه، وعِمارتِه باللَّعِبِ وحُبِّ الرِّياسةِ والتَّقرُّبِ إلى الخَلقِ دونَ الخالِقِ! نعوذُ باللَّهِ تعالى من صفاتِ الغافِلين) [6616] ((الإحكام)) (ص: 250). .
9- مُداهَنةُ فُقَهاءِ السُّوءِ لبَعضِ الحُكَّامِ ومخالطتُهم والتَّردُّدُ عليهم دونَ إنكارٍ، مع عِلمِهم بما هم عليه من الفُسوقِ والفُجورِ.
يقول تقيُّ الدِّينِ الحصنيُّ: (وأشَدُّ النَّاسِ فِسقًا من المُسلِمين فُقَهاءُ السُّوءِ وفُقَراءُ الرِّجسِ الذين يتردَّدون إلى الظَّلَمةِ طَمَعًا في مزبلَتِهم، مع عِلمِهم بما هم عليه من شُربِ الخُمورِ وأنواعِ الفُجورِ وأخذِ المكوسِ، وقَهرِ النَّاسِ على ما تدعوهم إليه أنفُسُهم الأمَّارةُ، وسَفكِ الدِّماءِ وقَمعِ مَن دعاهم إلى ما نزَلَت به الكُتُبُ وأُرسِلَت به الرُّسُلُ، فلا يُغتَرَّ بصُنعِ هؤلاء الأراذِلِ من الفُقَهاءِ) [6617] ((كفاية الأخيار)) (ص: 382). .
10- مُداهَنةُ الإنسانِ في دينِه بسَبَبِ الزَّوجةِ والأولادِ ومحبَّتِه لهم.
قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْوَاجِكُمْ وَأَوْلَادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ [التغابن: 14] .
قال السَّعديُّ: (هذا تحذيرٌ من اللَّهِ للمُؤمِنين من الاغترارِ بالأزواجِ والأولادِ؛ فإنَّ بعضَهم عدوٌّ لكم، والعَدوُّ هو الذي يريدُ لك الشَّرَّ، ووظيفتُك الحَذَرُ ممَّن هذا وصفُه، والنَّفسُ مجبولةٌ على محبَّةِ الأزواجِ والأولادِ، فنَصَح تعالى عبادَه أن توجِبَ لهم هذه المحبَّةُ الانقيادَ لمطالِبِ الأزواجِ والأولادِ، ولو كان فيها ما فيها من المحذورِ الشَّرعيِّ، ورغَّبهم في امتثالِ أوامِرِه، وتقديمِ مَرضاتِه بما عندَه من الأجرِ العظيمِ المُشتَمِلِ على المطالِبِ العاليةِ والمحابِّ الغاليةِ، وأن يؤثِروا الآخِرةَ على الدُّنيا الفانيةِ المنقضيةِ) [6618] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 868). .
11- مُداهَنةُ الحاكِمِ الظَّالمِ بالدُّخولِ عليه وإقرارِه على ظُلمِه؛ فالدُّخولُ على الظَّلَمةِ وتوقيرُهم والثَّناءُ عليهم ومحبَّتُهم: نوعٌ من الرُّكونِ والمُداهَنةِ لهم.
عن عُروةَ قال: (قُلتُ لعبدِ اللَّهِ بنِ عُمرَ: أبا عبدِ الرَّحمنِ، إنَّا ندخُلُ على الإمامِ يقضي بالقَضاءِ نراه جَورًا، فنقولُ: وفَّقك اللَّهُ، وننظُرُ إلى الرَّجُلِ مِنَّا يُثنى عليه! قال: أمَّا نحن معاشِرَ أصحابِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فكُنَّا نَعُدُّ هذا نفاقًا، فما أدري ما تَعُدُّونه أنتم) [6619] أخرجه الحارث كما في ((بغية الباحث)) للهيثمي (1095) واللفظ له، وأبو يعلى (5679). صحَّح سندَه البوصيري في ((إتحاف الخيرة المهرة)) (7/450). .
12- المُداهَنةُ للشَّريفِ من القومِ بتَركِ إقامةِ الحَدِّ عليه، كما وقع في بعضِ الأممِ السَّالفةِ.
عن عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها: أنَّ أسامةَ كَلَّم النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في امرأةٍ، فقال: ((إنَّما هلَك مَن كان قَبْلَكم أنَّهم كانوا يُقيمون الحَدَّ على الوضيعِ ويَترُكونَ الشَّريفَ، والذي نفسي بيَدِه، لو فاطمةُ فعَلَت ذلك لقطَعْتُ يَدَها)) [6620] أخرجه البخاري (6786) واللفظ له، ومسلم (1688). .
(وهذه مُداهَنةٌ في حُدودِ اللَّهِ وتبعيضٌ فيما أُمِرَ بنَفيِ التَّبعيضِ فيه) [6621] ((فيض القدير)) للمناوي (2/568). .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (حذَّرَنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من مشابهةِ مَن قَبْلَنا في أنَّهم كانوا يُفَرِّقون في الحدودِ بَيْنَ الأشرافِ والضُّعَفاءِ، وأمَر أن يُسَوَّى بَيْنَ النَّاسِ في ذلك، وإن كان كثيرٌ من ذوي الرَّأيِ والسِّياسةِ قد يَظُنُّ أنَّ إعفاءَ الرُّؤساءِ أجوَدُ في السِّياسةِ) [6622] ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/329). .
وقال الشَّوكانيُّ: (فإذا كان تَرْكُ الحُدودِ والمُداهَنةُ فيها وإسقاطُها عن الأكابِرِ من أسبابِ الهلاكِ، كانت إقامتُها على كُلِّ أحَدٍ من غيرِ فَرقٍ بَيْنَ شريفٍ ووضيعٍ من أسبابِ الحياةِ) [6623] ((نيل الأوطار)) (7/128). .
13- ومِن صُوَرِ المُداهَنةِ أيضًا ما ذكَرَه ابنُ عُثَيمين قال: (وأمَّا المُداهَنةُ في الحقيقةِ فأشبَهُ شيءٍ لها في وَقتِنا الحاضِرِ ما يُسَمُّونه بالمجامَلةِ أو بالعَلْمَنةِ؛ فإنَّ العَلمانيِّينَ يقولون: دَعْ كُلَّ إنسانٍ وشأنَه، الدَّولةُ دولةٌ، والدِّينُ دينٌ؛ فالدَّولةُ لا بُدَّ أن تتَّحِدَ، وأمَّا الدِّينُ فلكُلٍّ دينُه، فلا تُنكِرْ على الكافِرِ ولا على الفاسِقِ، دَعْ كُلَّ إنسانٍ يعمَلُ ما شاء!) [6624] ((تفسير العثيمين: سورة فصلت)) (ص: 59). .
وقال أيضًا: (الواجِبُ على المُؤمِنِ أن يَبرُزَ بدينِه ويفتَخِرَ به ويُظهِرَه، خلافَ ما عليه كثيرٌ من النَّاسِ اليومَ مع الأسَفِ، تجِدُ الرَّجُلَ منهم إذا قام ليُصَلِّيَ يستحي أن يُصَلِّيَ، وربَّما ‌يداهِنُ ويؤخِّرُ الصَّلاةَ عن وقتِها موافقةً لهؤلاء الذين لا يُصَلُّون! وهذا غَلَطٌ عظيمٌ، بل الواجِبُ أن يكونَ الإنسانُ صريحًا فلا ‌يداهِنَ في دينِ اللَّهِ عزَّ وجَلَّ) [6625] ((تفسير العثيمين: الحجرات – الحديد)) لابن العثيمين (ص: 349). .

انظر أيضا: