موسوعة الأخلاق والسلوك

ثانيًا: الفَرْقُ بَيْنَ المُداهَنةِ وبَعضِ الصِّفاتِ


الفَرْقُ بَيْنَ المُداهَنةِ والمداراةِ:
الفَرْقُ بَيْنَهما من وجوهٍ:
أنَّ المُداراةَ صِفةُ مَدحٍ، والمُداهَنةَ صِفةُ ذَمٍّ.
أنَّ المُداريَ يتلَطَّفُ بصاحِبِه حتى يستخرِجَ منه الحَقَّ، أو يَرُدَّه عن الباطِلِ، والمداهِنُ يتلطَّفُ به ليُقِرَّه على باطِلِه، ويترُكَه على هواه [6561] ((الروح)) (ص: 231). .
أنَّ المُداراةَ هي الرِّفقُ بالجاهِلِ في التَّعليمِ، وبالفاسقِ في النَّهيِ عن فِعلِه، وتَركِ الإغلاظِ عليه حيثُ لا يُظهِرُ ما هو فيه، والإنكارُ عليه بلُطفِ القَولِ والفِعلِ، ولا سِيَّما إذا احتيجَ إلى تألُّفِه ونحوِ ذلك. والمُداهَنةُ: معاشرةُ الفاسِقِ، وإظهارُ الرِّضا بما هو فيه من غيرِ إنكارٍ عليه [6562] يُنظَر: ((شرح صحيح البخاري)) لابن بطال (9/306)، ((التوضيح لشرح الجامع الصحيح)) لابن الملقن (28/ 514)، ((فتح الباري)) لابن حجر (10/528). .
أنَّ المداراةَ بَذلُ الدُّنيا لصلاحِ الدُّنيا أو الدِّينِ، وهي مباحةٌ ومُستحسَنةٌ في بعض ِالأحوالِ، والمُداهَنةُ المذمومةُ المحَرَّمةُ: هي بَذلُ الدِّينِ لصالحِ الدُّنيا [6563] ((المفهم لما أشكل من تلخيص كتاب مسلم)) (6/ 573). .
والفَرْقُ بَيْنَهما أيضًا من جهةِ الغَرَضِ الباعِثِ عليهما؛ فإنْ أغضَيتَ لسلامةِ دينِك، ولِما ترى من إصلاحِ أخيك بالإغضاءِ، فأنت مُدارٍ، وإن أغضَيتَ لحظِّ نفسِك واجتلابِ شَهَواتِك، وسلامةِ جاهِك، فأنت مداهِنٌ [6564] ((إحياء علوم الدين)) (2/182). .
وهذا مَثَلٌ يُبَيِّنُ الفَرْقَ بَيْنَهما، وهو حالُ رجُلٍ به قُرحةٌ قد آلمَتْه، فجاءه الطَّبيبُ المُداوي الرَّفيقُ فتعَرَّف حالَها ثمَّ أخَذ في تليينِها، حتى إذا نَضِجَت أخَذ في بَطِّها برِفقٍ وسهولةٍ حتى أخرَج ما فيها، ثمَّ وضَع على مكانِها من الدَّواءِ والمَرهَمِ ما يمنَعُ فَسادَه ويقطَعُ مادَّتَه، ثمَّ تابع عليها بالمراهِمِ التي تُنبِتُ اللَّحمَ، ثمَّ يَذُرُّ عليها بعدَ نباتِ اللَّحمِ ما يُنَشِّفُ رُطوبتَها، ثمَّ يَشُدُّ عليها الرِّباطَ، ولم يَزَلْ يتابِعُ ذلك حتَّى صلَحَت، والمداهِنُ قال لصاحِبِها: لا بأسَ عليك منها، وهذه لا شيءَ فاستُرْها عن العيوبِ بخِرقةٍ، ثمَّ الْهُ عنها! فلا تزالُ مِدَّتُها تَقْوى وتَستَحكِمُ حتَّى عَظُمَ فسادُها [6565] ((الروح)) (ص: 231). !
الفَرْقُ بَيْنَ المُداهَنةِ والمداراةِ والتَّقِيَّةِ:
التَّقِيَّةُ هي: إظهارُ المُؤمِنِ عِندَ الخوفِ على نفسِه ما يأمَنُ به من أماراتِ الكُفرِ أو المعصيةِ، مع كراهتِه لذلك في قَلبِه، واطمئنانِه بالإيمانِ.
والفَرْقُ بَيْنَ التَّقيَّةِ والمُداهَنةِ: أنَّ التَّقيَّةَ لا تَحِلُّ إلَّا لدَفعِ الضَّرَرِ، أمَّا المُداهَنةُ فلا تحِلُّ أصلًا؛ لأنَّها اللِّينُ في الدِّينِ، وهو ممنوعٌ شَرعًا [6566] يُنظَر: ((الموسوعة الفقهية الكويتية)) (13/ 186). .
فالتَّقيَّةُ يصاحِبُها العَجزُ وعَدَمُ القدرةِ على دَفعِ المُنكَرِ، مِن ثَمَّ كانت جائزةً، بينما المُداهَنةُ تحصُلُ مع القدرةِ على إنكارِه، ومَن ثَمَّ كانت حرامًا.
الفَرْقُ بَيْنَ المُداهَنةِ والنِّفاقِ:
النِّفاقُ هو إظهارُ ما يُبطَنُ خِلافُه [6567] ((شرح النووي على مسلم)) (2/46، 47). . وهو بذلك يشتَرِكُ مع المُداهَنةِ، إلَّا أنَّ المُداهَنةَ تختَصُّ بأنَّها إظهارُ الرِّضا بالباطِلِ والإقرارُ عليه، والنِّفاقُ أعَمُّ، فلا يلزَمُ منه ذلك؛ فالكَذِبُ وإخلافُ الوَعدِ والخيانةُ من خِصالِ النِّفاقِ، وليس فيها إقرارٌ على الباطِلِ.
وأيضًا فالنِّفاقُ الأكبَرُ يكونُ بإظهارِ مُوافقةِ المُؤمِنين في الظَّاهرِ مع إبطانِ الكُفرِ، أمَّا المُداهَنةُ فتكونُ بموافقةِ أهلِ الباطِلِ وإقرارِهم على باطِلِهم.

انظر أيضا: