موسوعة الأخلاق والسلوك

عاشرًا: الوسائِلُ المعينةُ على تَركِ الكِبْرِ


1- تذكيرُ النَّفسِ بالعواقِبِ والآثارِ المترتِّبةِ على التَّكبُّرِ، سواءٌ كانت عواقِبَ ذاتيَّةً، أو متَّصِلةً بالعَمَلِ الإسلاميِّ، وسواءٌ كانت دُنيويَّةً أو أخرويَّةً؛ فلعلَّ هذا التَّذكيرَ يحرِّكُ النَّفسَ من داخِلِها، ويحمِلُها على أن تتوبَ، وتتدارَكَ أمرَها، قبلَ ضَياعِ العُمُرِ وفواتِ الأوانِ.
2- عيادةُ المرضى، ومشاهدةُ المحتضَرين وأهلِ البلاءِ، وتشييعُ الجنائزِ، وزيارةُ القُبورِ؛ فلعَلَّ ذلك أيضًا يحرِّكُه من داخِلِه، ويجعَلُه يرجِعُ إلى ربِّه بالإخباتِ والتَّواضُعِ.
3- الانسلاخُ من صُحبةِ المُتكَبِّرين، والارتماءُ في أحضانِ المتواضعين المخبِتين؛ فربَّما تعكِسُ هذه الصُّحبةُ بمرورِ الأيَّامِ شُعاعَها عليه، فيعودُ له سَناؤه، وضياؤه الفِطريُّ، كما كان عِندَ ولادتِه.
4- مجالَسةُ ضِعافِ النَّاسِ وفُقَرائِهم، وذوي العاهاتِ منهم، بل ومؤاكلتُهم ومشاربتُهم، كما كان يصنعُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وصَحبُه الكرامُ، وكثيرٌ من السَّلَفِ؛ فإنَّ هذا ممَّا يُهَذِّبُ النَّفسَ، ويجعَلُها تقلِعُ عن غَيِّها، وتعودُ إلى رُشدِها.
5- التَّفكُّرُ في النَّفسِ، وفي الكونِ، بل وفي كُلِّ النِّعَمِ التي تحيطُ به من أعلاه إلى أدناه: مَن مصدَرُ ذلك كلِّه؟ ومن مُمسِكُه؟ وبأيِّ شيءٍ استحقَّه العبادُ؟ وكيف تكونُ حالُه لو سُلِبت منه نعمةٌ واحدةٌ فضلًا عن باقي النِّعَمِ؟ فإنَّ ذلك التَّفكُّرَ لو كانت معه جديَّةٌ يحرِّكُ النَّفسَ ويجعَلُها تشعُرُ بخَطَرِ ما هي فيه، إنْ لم تبادِرْ بالتَّوبةِ والرُّجوعِ إلى رَبِّها.
6- النَّظَرُ في سِيَرِ وأخبارِ المُتكَبِّرين، كيف كانوا؟ وإلى أيِّ شيءٍ صاروا؟ مِن إبليسَ والنُّمرودِ إلى فرعونَ، إلى هامانَ، إلى قارونَ، إلى أبي جهلٍ، إلى أُبَيِّ بنِ خَلَفٍ، إلى سائِرِ الطُّغاةِ والجبَّارين والمجرِمين، في كُلِّ العصورِ والبيئاتِ؛ فإنَّ ذلك ممَّا يخوِّفُ النَّفسَ ويحمِلُها على التَّوبةِ والإقلاعِ خشيةَ أن تصيرَ إلى نفسِ المصيرِ، وكتابُ اللهِ عزَّ وجَلَّ وسُنَّةُ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وكُتُبُ التَّراجِمِ والتَّاريخِ: خيرُ ما يُعينُ على ذلك.
7- حضورُ مجالِسِ العِلمِ التي يقومُ عليها عُلَماءُ ثقاتٌ نابهون، لا سيَّما مجالِسِ التَّذكيرِ والتَّزكيةِ؛ فإنَّ هذه المجالِسَ لا تزالُ بالقلوبِ حتَّى تَرِقَّ وتلينَ، وتعودَ إليها الحياةُ من جديدٍ.
8- حملُ النَّفسِ على ممارسةِ بَعضِ الأعمالِ التي يتأفَّفُ منها كثيرٌ من النَّاسِ ممارسةً ذاتيَّةً، ما دامت مشروعةً، كأن يقومَ هذا المُتكَبِّرُ بشِراءِ طعامِه وشرابِه وسائِرِ ما يلزمُه بنفسِه، ويحرِصَ على حملِه والمشيِ به بَيْنَ النَّاسِ، حتَّى لو كان له خادِمٌ، على نحوِ ما كان يصنعُ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وصحبُه والسَّلفُ؛ فإنَّ هذا يساعدُ كثيرًا في تهذيبِ النَّفسِ وتأديبِها، والرُّجوعِ بها إلى سيرتِها الأولى الفِطريَّةِ، بعيدًا عن أيِّ التِواءٍ أو اعوجاجٍ.
9- الاعتذارُ لمن تعالى وتطاول عليهم بسُخريَّةٍ أو استهزاءٍ.
10- التَّذكيرُ دومًا بمعاييرِ التَّفاضُلِ، والتَّقدُّمِ في الإسلامِ:
قال اللهُ تعالى: إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقَاكُمْ [الحجرات: 13] .
وقال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((كلُّكم بنو آدَمَ، وآدمُ من ترابٍ، لَيَدَعَنَّ رجالٌ فَخْرَهم بأقوامٍ إنَّما هم فَحمٌ من فَحمِ جَهنَّمَ، أو ليكونُنَّ أهوَنَ على اللهِ مِن الجُعلانِ [5972] جُعْلانٌ جَمعُ جُعَلٍ: دابَّةٌ سوداءُ من دوابِّ الأرضِ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (11/112). !)) [5973] رواه أبو داود (5116)، والترمذي (3955)، وأحمد (10781) باختلافٍ يسيرٍ من حديثِ أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه. صحَّحه ابنُ تيمية في ((اقتضاء الصراط المستقيم)) (1/247)، وصحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (5116)، وحسَّنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (5116)، وقال الترمذيُّ: حسنٌ غريبٌ. .
11- المواظبةُ على الطَّاعاتِ: فإنَّها إذا واظب عليها، وكانت متقَنةً لا يرادُ بها إلَّا وجهُ اللَّهِ، طهَّرت النَّفسَ من كُلِّ الرَّذائلِ، بل زكَّتْها [5974] ((آفات على الطريق)) لسيد محمد نوح (ص: 180) (بتصرف). .
قال يحيى بنُ جَعْدةَ: (من وَضَع وَجهَه للهِ عزَّ وجَلَّ ساجدًا فقد بَرِئَ من الكِبْرِ) [5975] رواه ابنُ الجعد في ((المسند)) (1737)، وابن أبي الدنيا في ((التواضع والخمول)) (217). .
12- أن يعلَمَ أنَّ الكِبْرَ من أخلاقِ الكُفَّارِ وأضرابِهم، فيسعى في ألا يتخَلَّقَ بأخلاقهم؛ قال السَّمرقنديُّ: (اعلَمْ أنَّ الكِبْرَ من أخلاقِ الكُفَّارِ والفراعنةِ... لأنَّ اللهَ تعالى وَصَف الكُفَّارَ بالكِبْرِ، فقال: إِنَّهُمْ كَانُوا إِذَا قِيلَ لَهُمْ لَا إِلَهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ [الصافات: 35] ، وقال: وَقَارُونَ وَفِرْعَوْنَ وَهَامَانَ وَلَقَدْ جَاءَهُمْ مُوسَى بِالْبَيِّنَاتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَمَا كَانُوا سَابِقِينَ [العنكبوت: 39] ، وقال: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبَادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ دَاخِرِينَ [غافر: 60] ، وقال: قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوَابَ جَهَنَّمَ خَالِدِينَ فِيهَا فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ [الزمر: 72] ، وقال: إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ [النحل: 23] ) [5976] ((تنبيه الغافلين)) (ص: 186، 187). .
13- أن يجتَهِدَ في ألَّا يرى نفسَه خيرًا من أحدٍ، وأن يعلَمَ أنَّ الأمرَ متوقِّفٌ على الخاتمةِ وهو لا يدري بم يختَمُ له، وينشَغِلُ بنفسِه عن غيرِه.
قال الفُضَيلُ لسُفيانَ بنِ عُيَينةَ: (إن كنتَ ترى أنَّ في هذا المسجِدِ أحدًا هو دونَك، لقد ابتُلِيتَ ببليَّةٍ عظيمةٍ!) [5977] ((الحدائق)) لابن الجوزي (3/272). .
وقال سُفيانُ بنُ عُيَينةَ: (من رأى أنَّه خيرٌ من غيرِه فقد استكبر؛ وذاك أنَّ إبليسَ إنما منعه من السُّجودِ لآدَمَ عليه السَّلامُ استكبارُه) [5978] ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (7/ 271، 272). .
وقال الغزاليُّ: (ينبغي لك أن تَعلَمَ أنَّ الخَيِّرَ مَن هو خيرٌ عِندَ اللهِ في دارِ الآخرةِ، وذلك غيبٌ، وهو موقوفٌ على الخاتمةِ؛ فاعتقادُك في نفسِك أنَّك خيرٌ من غيرِك جهلٌ محضٌ، بل ينبغي ألَّا تنظُرَ إلى أحدٍ إلَّا وترى أنَّه خيرٌ منك، وأنَّ الفضلَ له على نفسِك، فإن رأيت صغيرًا قلتَ: هذا لم يعصِ اللهَ وأنا عصيتُه، فلا شَكَّ أنَّه خيرٌ مني، وإن رأيتَ كبيرًا قُلتَ: هذا قد عبدَ اللهَ قبلي، فلا شَكَّ أنَّه خيرٌ مني، وإن كان عالِمًا قلتَ: هذا قد أُعطِيَ ما لم أُعطَ، وبلغ ما لم أبلُغْ، وعَلِم ما جَهِلتُ؛ فكيف أكونُ مثلَه؟! وإن كان جاهلًا قُلتَ: هذا قد عصى اللهَ بجَهلٍ، وأنا عصيتُه بعِلمٍ؛ فحُجَّةُ اللهِ عليَّ آكَدُ، وما أدري بمَ يُختَمُ لي وبم يختَمُ له؟ ...
فلا يخرجُ الكِبْرُ من قلبِك إلَّا بأن تعرِفَ أنَّ الكبيرَ من هو كبيرٌ عِندَ اللهِ تعالى، وذلك موقوفٌ على الخاتمةِ، وهي مشكوكٌ فيه؛ فيشغَلُك خوفُ الخاتمةِ عن أن تتكبَّرَ مع الشَّكِّ فيها على عبادِ اللهِ تعالى، فيَقينُك وإيمانُك في الحالِ لا يناقِضُ تجويزَك في الاستقبالِ؛ فإنَّ اللهَ مُقَلِّبُ القلوبِ يهدي من يشاءُ، ويُضِلُّ من يشاءُ) [5979] ((بداية الهداية)) (ص: 60). .
14- ملازمةُ الدُّعاءِ وكثرةُ التَّضرُّعِ إلى اللهِ أن يُعيذَه من الكِبْرِ.
15- تذكُّرُ أصلِ خِلقةِ الإنسانِ وما يؤولُ إليه حالُه بعدَ الموتِ.
عن أحمدَ بنِ عُبَيدِ بنِ ناصحٍ، قال: كنتُ أمشي مع أبي العتاهيةِ يَدُه في يدي وهو متَّكِئٌ عليَّ ينظرُ إلى النَّاسِ يذهبون ويجيئون، فقال: أما تراهم هذا يتيهُ فلا يتكَلَّمُ، وهذا يتكَلَّمُ بصَلَفٍ [5980] الصَّلَفُ: الغُلُوُّ في الظَّرْفِ، والزِّيادةُ على المقدارِ مع تكبُّرٍ. يُنظَر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (3/ 47). !
ثمَّ قال لي: مَرَّ بعضُ أولادِ المُهَلَّبِ بمالِكِ بنِ دينارٍ وهو يخطِرُ، فقال: يا بُنَيَّ، لو خفَضْتَ بعضَ هذه الخُيَلاءِ ألم يكُنْ أحسَنَ بك من هذه الشُّهرةِ التي قد شَهَرتَ بها نفسَك؟! فقال له الفتى: أو ما تَعرِفُ من أنا! فقال له: بلى واللَّهِ أعرِفُك معرفةً جيدةً، أوَّلُك نُطفةٌ مَذِرةٌ [5981] مَذِرةٌ: أي: مُتغَيِّرةٌ. يقال: مَذِرَت البيضةُ مَذَرًا، فهي مَذِرةٌ: فسَدَت. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (5/ 164)، ((بريقة محمودية)) للخادمي (2/ 218). ، وآخِرُك جيفةٌ قَذِرةٌ، وأنت بَيْنَ ذَينِك حامِلُ عَذِرةٍ!
قال: فأرخى الفتى أذُنَيه وكَفَّ عمَّا كان يفعَلُ، وطأطأ رأسَه ومشى مسترسِلًا. ثمَّ أنشدني أبو العتاهيةِ:
أيا واهًا [5982] واهًا: كَلِمةُ تعجُّبٍ من طِيبِ كُلِّ شيءٍ، وكَلِمةُ تلهُّفٍ. يُنظَر: ((القاموس المحيط)) للفيروزابادي (ص: 1256). لذِكرِ اللَّهِ
 يا واهًا له واهَا
لقد طيَّب ذِكرُ اللَّهِ
بالتَّسبيحِ أفواهَا
فيا أنتَنَ من حُشٍّ
على حُشٍّ إذا تاها
أرى قومًا يتيهون
حشوشًا رُزِقوا جاهَا) [5983] ((الأغاني)) لأبي الفرج الأصفهاني (4/ 314، 315). .
و(لو ذَكَر انفرادَه في القبرِ عن الأموالِ والأولادِ والحَشَمِ والأحفادِ وقد صار جيفةً قَذِرةً مُنتِنةً، لكان ذلك مانعًا له من الكِبْرِ!) [5984] ((مقاصد الرعاية لحقوق الله عز وجل)) للعز بن عبد السلام (ص: 146). .

انظر أيضا: