موسوعة الأخلاق والسلوك

سابعًا: مَسائِلُ مُتفَرِّقةٌ


الأسبابُ الجالبةُ لشماتةِ الأعداءِ:
من الأسبابِ الجالِبةِ لشَماتةِ الأعداءِ: العَجَلةُ؛ قال وَهبُ بنُ مُنَبِّهٍ: (يتشَعَّبُ من العَجَلةِ: الخُسرانُ، والنَّدامةُ، وقِلَّةُ الفَهمِ، وسُوءُ المنظَرِ، وفراقُ الصَّاحِبِ، وطلاقُ المرأةِ، وتضييعُ المالِ، وشماتةُ العَدُوِّ، واكتسابُ الشَّرِّ، واكتسابُ الملامةِ والنَّدامةِ والمذمَّةِ) [4341] ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (63/ 397). .
ومنها: الجَزَعُ. قال حَكيمٌ لبنيه: (يا بَنيَّ، إيَّاكم والجَزَعَ عِندَ المصائِبِ؛ فإنَّه مَجلبةٌ للهَمِّ، وسوءُ ظنٍّ بالرَّبِّ، وشماتةٌ للعَدُوِّ) [4342] ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (3/ 97). .
ومنها كثرةُ الشَّكوى؛ فكَثرةُ الشَّكوى تدُلُّ على ضَعفِ اليقينِ، وتُشعِرُ بالتَّسخُّطِ للقضاءِ، وتُورِثُ شماتةَ الأعداءِ [4343] ((فتح الباري)) لابن حجر (10/ 124). .
وقد أحسَنَ المُتنَبِّي في قولِه:
ولا تَشْكُ إلى خَلقٍ فتُشمِتَه
شكوى الجريحِ إلى الغِربانِ والرَّخَمِ [4344] ((التذكرة الحمدونية)) (7/ 87). والرَّخَمُ جَمعُ رَخَمةٍ، وهو طائِرٌ يُشبِهُ النَّسرَ في الخِلقةِ. يُنظَر: ((مختار الصحاح)) لزين الدين الرازي (ص: 120).
الشَّماتةُ بما لا ينجو منه أحَدٌ:
- قال تعالى: وَمَا جَعَلْنَا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَفَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخَالِدُونَ [الأنبياء: 34] كأنَّه قيل: أفإن مِتَّ فهم الخالِدون حتَّى يَشمَتوا بموتِك، وفي معنى ذلك قولُ الإمامِ الشَّافعيِّ [4345] قال ابنُ عبدِ البَرِّ: (والبيتانِ اللذانِ تمثَّل بهما الشَّافعيُّ لطَرَفةَ). ((بهجة المجالس)) (1/747). :
تمنَّى رجالٌ أن أموتَ وإن أمُتْ
 فتلك سبيلٌ لستُ فيها بأوحَدِ
فقُلْ للذي يبغي خِلافَ الذي مضى
 تزوَّدْ لأُخرى مِثلِها فكأنْ قَدِ
وقولُ ذي الإصبَعِ العَدْوانيِّ:
إذا ما الدَّهرُ جَرَّ على أناسٍ
 كَلاكِلَه [4346] الكلاكِلُ: جمعُ كَلْكَلٍ، وهو الصَّدرُ، والمعنى: إذا أناخت صروفُ الدَّهرِ على قَومٍ بإزالةِ نِعَمِهم وتكديرِ عَيشِهم، فعادتُها والمعهودُ منها أنَّها تفعَلُ بغَيرِهم مِثلَ ذلك. يُنظَر: ((شرح ديوان الحماسة)) للتبريزي (2/55). أناخَ بآخَرينا
فقُلْ للشَّامتين بنا أفيقوا
سيلقى الشَّامِتون كما لَقِينا [4347] ((روح المعاني)) للألوسي (9/ 43).
وعن سُفيانَ الثَّوريِّ، قال: كان رجلٌ يأتي بابَ أبي هُرَيرةَ فيؤذيهم ويُثقِلُ عليهم، فقيل: إنَّه قد مات، فقال: (ليس في الموتِ شماتةٌ) [4348] ((حلية الأولياء)) لأبي نعيم (7/ 76). . وقال بعضُهم في عَدَمِ الشَّماتةِ بالموتِ:
تشَفَّى [4349] يقال: تشفَّى من عدُوِّه: اشتفى منه، بلَغَ ما يُذهِبُ غَيظَه منه، وانتَقَم منه. يُنظَر: ((معجم اللغة العربية المعاصرة)) لأحمد مختار (2/ 1220). بشيءٍ لا يصيبُك مِثلُه
وإلَّا فشَيءٌ أنت وارِدُه فلا [4350] ((المحاضرات والمحاورات)) للسيوطي (ص: 127).
لكِنْ قد أفتى ابنُ عبدِ السَّلامِ بأنَّه لا ملامَ بالفَرَحِ بموتِ العَدُوِّ من حيثُ انقطاعُ شَرِّه عنه وكفايةُ ضَرَرِه [4351] ((بريقة محمودية)) للخادمي (2/ 265). .
قِصَصٌ في الشَّماتةِ:
- عن بعضِهم أنَّه شاهَد رجُلًا على قبرٍ وهو يُكثِرُ البكاءَ، فقُلتُ: أعلى قريبٍ أو على صديقٍ؟ فقال: أخَصُّ منهما، قد كان لي عَدُوٌّ، فخرج إلى الصَّيدِ فرأى ظَبيًا فتَبِعَه فعَثَر بالسَّهمِ فخَرَّ هو والظَّبيُ ميِّتينِ، فدُفِنَ، فانتَهَيتُ إلى قبرِه شامِتًا به، فإذا عليه مكتوبٌ:
وما نحنُ إلَّا مِثلُهم غيرَ أنَّنا
أقَمْنا قليلًا بَعدَهم وترَحَّلوا
فها أنا واقِفٌ أبكي على نفسي [4352] ((محاضرات الأدباء)) للراغب (2/ 520، 521). .
- ورُوِيَ أنَّه لمَّا أتى عبدَ اللَّهِ بنَ الزُّبَيرِ خبَرُ قَتلِ مُصعَبٍ أخيه احتَجَب أيَّامًا، فخَبَر بمجيءِ قومٍ للتَّعزيةِ، فقال: أكرَهُ وُجوهًا تُعَزِّي ألسِنَتُها، وتَشمَتُ قُلوبُها [4353] ((محاضرات الأدباء)) للراغب (2/ 521). !
- ولمَّا عُزِل أبو الحسَنِ عليُّ بنُ عيسى بنِ داودَ بنِ الجَرَّاحِ البغداديُّ في وزارتِه الثَّانيةِ ووَلِيَ ابنُ الفُراتِ، لم يقنَعِ ابنُ الفُراتِ إلَّا بإخراجِه عن بغدادَ، فخَرج إلى مكَّةَ فأقام بها مُهاجِرًا، وقال في نَكبتِه:
ومَن يكُ عنِّي سائلًا لشماتةٍ
لِما نابني أو شامتًا غيرَ سائِلِ
فقد أبرَزَتْ منِّي الخُطوبُ ابنَ حُرَّةٍ
صبورًا على أحوالِ تلك الزَّلازِلِ
إذا سُرَّ لم يَبطَرْ وليس لنَكبةٍ
إذا نَزَلتْ بالخاشعِ المتضائِلِ [4354] يُنظَر: ((بهجة المجالس)) لابن عبد البر (1/749، 750)، ((معجم الأدباء)) لياقوت الحموي (4/ 1824)، ((سير أعلام النبلاء)) للذهبي (15/ 299، 300).
- ولمَّا توفِّىَ أيُّوبُ بنُ سُلَيمانَ بنِ عبدِ الملِكِ في حياةِ سُلَيمانَ، وكان وليَّ عَهدِه وأكبَرَ ولَدِه؛ رثاه ابنُ عبدِ الأعلى، وكان من خاصَّتِه، فقال فيه:
ولقد أقولُ لذي الشَّماتةِ إذ رأى
جَزَعي ومَن يَذُقِ الحوادِثَ يَجزَعِ
أبشِرْ فقد قَرَع الحوادِثُ مَرْوَتي [4355] أي: ضَرَبت صَخْرتي، وأراد بها نفسَه. والمَرْوُ: حِجارةٌ بيضٌ رِقاقٌ. يُنظَر: ((أساس البلاغة)) للزمخشري (2/208، 209)، ((شرح مقامات الحريري)) للشريشي (3/ 8).
وافرَحْ بمَرْوتِك التي لم تُقرَعِ
إن عِشتَ تُفجَعْ بالأحبَّةِ كُلِّهِم
أو يُفجَعوا بك إن بهم لم تُفجَعِ
أيُّوبُ! مَن يَشمَتْ بموتِك لم يُطِقْ
عن نفسهِ دَفعًا، وهل من مَدفَعِ [4356] ((العقد الفريد)) لابن عبد ربه (3/ 214) و (5/ 173، 174).
- وبلغ عَمرَو بنَ عُتبةَ شماتةُ قَومٍ به في مصائِبَ، فقال: (واللَّهِ لئِنْ عَظُم مُصابُنا بموتِ رجالِنا، لقد عَظُمَت النِّعمةُ علينا بما أبقى اللَّهُ لنا: شُبَّانًا يَشُبُّون الحروبَ، وسادةً يُسْدُون المعروفَ، وما خُلِقْنا ومَن شَمِتَ بنا إلَّا للموتِ) [4357] ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (3/ 130، 131)، ((ربيع الأبرار)) للزمخشري (3/ 380). .
معنى تشميتِ العاطِسِ وعلاقتُه بالشَّماتةِ:
قال ابنُ القَيِّمِ: (ولمَّا كان العاطِسُ قد حصَلت له بالعُطاسِ نِعمةٌ ومنفَعةٌ بخُروجِ الأبخرةِ المحتَقَنةِ في دماغِه، التي لو بَقِيت فيه أحدَثَت له أدواءً عَسِرةً؛ شُرِع له حمدُ اللَّهِ على هذه النِّعمةِ، مع بقاءِ أعضائِه على التِئامِها وهيئتِها بعدَ هذه الزَّلزلةِ التي هي للبَدَنِ كزَلزلةِ الأرضِ لها؛ ولهذا يُقالُ: سَمَّتَه وشَمَّتَه، بالسِّينِ والشِّينِ، فقيل: هما بمعنًى واحدٍ، قاله أبو عُبَيدةَ وغيرُه. قال: وكُلُّ داعٍ بخيرٍ فهو مُشَمِّتٌ ومُسَمِّتٌ. وقيل: بالمُهمَلةِ، دعاءٌ له بحُسنِ السَّمتِ، وبعَودِه إلى حالتِه من السُّكونِ والدَّعةِ؛ فإنَّ العُطاسَ يحدِثُ في الأعضاءِ حَركةً وانزعاجًا. وبالمُعجَمةِ: دعاءٌ له بأن يَصرِفَ اللَّهُ عنه ما يُشمِتُ به أعداءَه، فشَمَّته: إذا أزال عنه الشَّماتةَ، كقَرَّد البعيرَ: إذا أزال قُرادَه عنه، وقيل: هو دعاءٌ له بثباتِه على قوائِمِه في طاعةِ اللَّهِ، مأخوذٌ من الشَّوامِتِ، وهي القوائِمُ. وقيل: هو تشميتٌ له بالشَّيطانِ لإغاظتِه بحَمدِ اللَّهِ على نعمةِ العُطاسِ، وما حصَل له به من محابِّ اللَّهِ؛ فإنَّ اللَّهَ يحِبُّه، فإذا ذَكَر العبدُ اللَّهَ وحَمِدَه، ساء ذلك الشَّيطانَ من وجوهٍ؛ منها: نفسُ العُطاسِ الذي يحبُّه اللَّهُ، وحَمدُ اللَّهِ عليه، ودعاءُ المُسلِمين له بالرَّحمةِ، ودعاؤه لهم بالهدايةِ وإصلاحِ البالِ، وذلك كلُّه غائظٌ للشَّيطانِ، محزِنٌ له؛ فتشميتُ المُؤمِنِ بغيظِ عَدُوِّه وحُزنِه وكآبتِه، فسُمِّيَ الدُّعاءُ له بالرَّحمةِ تشميتًا له؛ لِما في ضمنِه من شماتتِه بعَدوِّه، وهذا معنًى لطيفٌ إذا تنَبَّهَ له العاطِسُ والمُشَمِّتُ انتفعا به، وعَظُمَت عندَهما منفعةُ نعمةِ العُطاسِ في البدَنِ والقَلبِ، وتبيَّن السِّرَّ في محبَّةِ اللَّهِ له؛ فلله الحمدُ الذي هو أهلُه، كما ينبغي لكريمِ وَجهِه، وعِزِّ جلالِه) [4358] ((زاد المعاد)) لابن القيم (2/397). .
إخفاءُ ما يؤدِّي إلى شماتةِ غَيرِه به:
 قال ابنُ الجَوزيِّ: (قد رُكِّب في الطِّباعِ حُبُّ التَّفضيلِ على الجِنسِ، فما أحَدٌ إلَّا وهو يحِبُّ أن يكونَ أعلى درَجةً من غيرِه، فإذا وقَعَت نَكبةٌ أوجَبَت نزولَه عن مرتبةِ سِواه، فينبغي له أن يتجَلَّدَ بسَترِ تلك النَّكبةِ؛ لئلَّا يُرى بعينِ نَقصٍ، ولْيتجمَّلِ المتعَفِّفُ حتَّى لا يُرى بعينِ الرَّحمةِ، ولْيتحامَلِ المريضُ لئلَّا يشمَتَ به ذو العافيةِ. وقد قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لأصحابِه حينَ قدومِه مكَّةَ، وقد أخذَتْهم الحُمَّى، فخاف أن يَشمَتَ بهم الأعداءُ حينَ ضَعفِهم عن السَّعيِ... ، فرَمَلوا -والرَّمَلُ: شِدَّةُ السَّعيِ-، وزال ذلك السَّبَبُ، وبَقِيَ الحُكمُ؛ ليُتذكَّرَ السَّببُ، فيُفهَمَ معناه.
واستأذنوا على معاويةَ وهو في الموتِ، فقال لأهلِه: أجلِسوني! فقَعَد مُتمَكِّنًا يظهِرُ العافيةَ، فلمَّا خرج العُوَّادُ، أنشد:
وتجَلُّدي للشَّامِتين أُريِهمُ
أنِّي لرَيبِ الدَّهرِ [4359] رَيبُ الدَّهرِ: أي: حوادِثُه وصُروفُه. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (1/442)، ((تاج العروس)) للزبيدي (2/547). لا أتضَعْضَعُ [4360] لا أتضعضَعُ: أي: لا أخضَعُ أو أذِلُّ، ولا أتكَسَّرُ للمُصيبةِ، فتَشمَتَ بي الأعداءُ. يُنظَر: ((الصحاح)) للجوهري (3/1250)، ((تاج العروس)) للزبيدي (21/415).
وإذا المنيَّةُ أنشَبَت [4361] نَشَب الشَّيءُ في الشَّيءِ، أي: عَلِق فيه، وأنشَبَ أظفارَه في الشَّيءِ: إذا تعَلَّقَ. يُنظَر: ((شمس العلوم)) لنشوان الحميري (10/ 6606)، ((مختار الصحاح)) لزين الدين الرازي (ص: 310)، ((تاج العروس)) للزبيدي (4/ 266). أظفارَها
أَلفَيتَ كُلَّ تميمةٍ [4362] التَّميمةُ: قِلادةٌ من سُيورٍ، وربَّما جُعِلت فيها العُوذةُ تُعَلَّقُ في أعناقِ الصِّبيانِ. يُنظَر: ((الإبانة في اللغة العربية)) للصحاري (2/ 331). لا تنفَعُ
وما زال العُقَلاءُ يُظهِرون التَّجلُّدَ عِندَ المصائِبِ والفَقرِ والبلاءِ؛ لئلَّا يتحَمَّلوا مع النَّوائبِ شماتةَ الأعداءِ، وإنَّها الأشدُّ من كُلِّ نائبةٍ، وكان فقيرُهم يُظهِرُ الغِنى، ومريضُهم يُظهِرُ العافيةَ) [4363] ((صيد الخاطر)) (ص: 317، 318). .
شتَّانَ بَيْنَ الغَيرةِ على الحُرُماتِ وبَينَ الشَّماتةِ والتَّشَفِّي:
قال محمَّدٌ الغَزاليُّ: (مِن فَضلِ اللَّهِ على العِبادِ: أنَّه استَحَبَّ سَترَ عُيوبِ الخَلقِ، ولو صَدَق اتِّصافُهم بها. وما يجوزُ لمُسلِمٍ أن يتشَفَّى بالتَّشنيعِ على مُسلِمٍ ولو ذَكَره بما فيه؛ فصاحِبُ الصَّدرِ السَّليمِ يأسى لآلامِ العِبادِ، ويشتهي لهم العافيةَ، أمَّا التَّلهِّي بسَردِ الفضائِحِ، وكَشفِ السُّتورِ، وإبداءِ العَوراتِ؛ فليس مَسلَكَ المُسلِمِ الحَقِّ... وكثيرًا ما يكونُ متتَبِّعو العوراتِ لفَضحِها أشَدَّ إجرامًا، وأبعَدَ عن اللَّهِ قُلوبًا من أصحابِ السَّيِّئاتِ المكتشَفةِ؛ فإنَّ التَّربُّصَ بالجريمةِ لنَشرِها أقبَحُ من وُقوعِ الجريمةِ نَفسِها.
وشتَّانَ بَيْنَ شُعورينِ: شُعورِ الغَيرةِ على حُرُماتِ اللَّهِ والرَّغبةِ في حمايتِها، وشُعورِ البغضاءِ لعبادِ اللَّهِ والرَّغبةِ في إذلالِهم!
إنَّ الشُّعورَ الأوَّلَ قد يَصِلُ في صاحِبِه إلى القِمَّةِ، ومع ذلك فهو أبعَدُ ما يكونُ عن التَّشفِّي من الخَلقِ، وانتِظارِ عَثَراتِهم، والشَّماتةِ في آلامِهم) [4364] يُنظَر: ((خلق المسلم)) (ص: 91-93). .

انظر أيضا: