موسوعة الأخلاق والسلوك

ثامنًا: حُكمُ السُّخْريَّةِ والاستِهْزاءِ


حُكمُ الاستِهْزاءِ باللهِ وآياتِه ورَسولِه:
حُكمُ الاستِهْزاءِ باللهِ وآياتِه ورَسولِه كُفرٌ يخرِجُ صاحِبَه من الملَّةِ؛ قال تعالى: يَحْذَرُ الْمُنَافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِمَا فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِئُوا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مَا تَحْذَرُونَ * وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّمَا كُنَّا نَخُوضُ وَنَلْعَبُ قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طَائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طَائِفَةً بِأَنَّهُمْ كَانُوا مُجْرِمِينَ [التوبة: 64-66] ؛ قال ابنُ تَيميَّةَ: (وهذا نصٌّ في أنَّ الاستِهْزاءَ باللهِ وآياتِه ورَسولِه كُفرٌ) [3831] ((الصارم المسلول)) (ص: 31). .
وقال الفَخرُ الرَّازيُّ: (إنَّ الاستِهْزاءَ بالدِّينِ -كيف كان- كُفرٌ باللهِ؛ وذلك لأنَّ الاستِهْزاءَ يدُلُّ على الاستخفافِ، والعُمدةُ الكبرى في الإيمانِ تعظيمُ اللهِ تعالى بأقصى الإمكانِ، والجمعُ بَيْنَهما مُحالٌ) [3832] ((التفسير الكبير)) (16/95). .
وقال النَّوويُّ: (الأفعالُ الموجِبةُ للكُفرِ هي التي تصدُرُ عن تعَمُّدٍ واستهزاءٍ بالدِّينِ صريحٍ) [3833] ((روضة الطالبين وعمدة المفتين)) (10/ 64). .
وقال السَّعديُّ: (إنَّ الاستِهْزاءَ باللهِ ورَسولِه كُفرٌ يُخرِجُ عن الدِّينِ؛ لأنَّ أصلَ الدِّينِ مَبنيٌّ على تعظيمِ اللهِ، وتعظيمِ دينِه ورُسُلِه، والاستِهْزاءُ بشَيءٍ من ذلك مُنافٍ لهذا الأصلِ، ومناقِضٌ له أشَدَّ المناقَضةِ) [3834] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 342). .
حُكمُ الاستِهْزاءِ والسُّخْريَّةِ من المُؤمِنين:
الاستِهْزاءُ بالمُؤمِنين والسُّخْريَّةُ منهم لها حالتانِ:
الحالةُ الأولى: الاستِهْزاءُ والسُّخْريَّةُ بالمُؤمِنين بخَلْقِهم أو خُلُقِهم، وهو محَرَّمٌ بالإجماعِ؛ قال ابن حجر الهيتمي: (وقد قام الإجماعُ على تحريمِ ذلك) [3835] ((الزواجر)) (2/33). .
الحالةُ الثَّانيةُ: الاستِهْزاءُ بالمُؤمِنين بسَبَبِ تمسُّكِهم بالإسلامِ، وهذا يُراعى فيه أمرانِ:
الأمرُ الأوَّلُ: أن يكونَ المُستهزِئُ جاهِلًا بأنَّ ما يَستهزِئُ به من الشَّريعةِ الإسلاميَّةِ.
الأمرُ الثَّاني: ألَّا يقصِدَ المُستهزِئُ باستهزائِه ما يقومُ به المُسلِمُ من الطَّاعاتِ.
فإذا انتفى هذان الأمرانِ، وقَصَد الاستِهْزاءَ بالمُسلِمِ بسَبَبِ تمسُّكِه بالدِّينِ، فهذا حُكمُه الرِّدَّةُ عن الإسلامِ.
وقد جاء في فتوى اللَّجنةِ الدَّائمةِ: (سبُّ الدِّينِ والاستِهْزاءُ بشَيءٍ من القُرآنِ والسُّنَّةِ، والاستِهْزاءُ بالمتمَسِّكِ بهما نظَرًا لِما تمسَّك به، كإعفاءِ اللِّحيةِ وتحَجُّبِ المُسلِمةِ: هذا كُفرٌ إذا صَدَر من مُكَلَّفٍ، وينبغي أن يُبَيَّنُ له أنَّ هذا كُفرٌ، فإن أصَرَّ بعد العِلمِ فهو كافِرٌ؛ قال اللهُ تعالى: قُلْ أَبِاللَّهِ وَآيَاتِهِ وَرَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِئُونَ * لَا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمَانِكُمْ [التوبة:65 - 66] ) [3836] ((فتاوى اللجنة الدائمة)) (1/387). .
وسُئِل ابنُ عُثَيمين عن حُكمِ مَن يَسخَرُ بالملتَزِمين بدينِ اللهِ، ويَستهزِئُ بهم؟
فأجاب بقَولِه: (هؤلاء الذين يَسخَرون بالملتَزِمين بدينِ اللهِ، المنَفِّذين لأوامرِ اللهِ: فيهم نوعُ نفاقٍ؛ لأنَّ اللهَ قال عن المُنافِقين: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة: 79] ، ثمَّ إن كانوا يَستهزِئون بهم من أجْلِ ما هم عليه من الشَّرعِ، فإنَّ استهزاءَهم بهم استهزاءٌ بالشَّريعةِ، والاستِهْزاءُ بالشَّريعةِ كُفرٌ، أمَّا إذا كانوا يَستَهزِئون بهم يعنون أشخاصَهم وزيَّهم بقَطعِ النَّظَرِ عمَّا هم عليه من اتِّباعِ السُّنَّةِ، فإنَّهم لا يَكفُرون بذلك؛ لأنَّ الإنسانَ قد يَستهزئُ بالشَّخصِ نفسِه بقَطعِ النَّظَرِ عن عَمَلِه وفِعلِه، لكِنَّهم على خَطَرٍ عظيمٍ) [3837] ((مجموع فتاوى ورسائل ابن عثيمين)) (2/158). .
أمَّا سُخريَّةُ الإنسانِ ممَّن يَسخَرُ منه فجائزةٌ، وهذا من العَدلِ؛ لأنَّه يقابِلُ السُّخْريَّةَ بمِثلِها، ومع ذلك فتَركُها أَولى؛ قال اللهُ تعالى: وَإِنْ عَاقَبْتُمْ فَعَاقِبُوا بِمِثْلِ مَا عُوقِبْتُمْ بِهِ وَلَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ [النحل: 126] .
وقال تعالى: وَجَزَاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُهَا فَمَنْ عَفَا وَأَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لَا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ [الشورى: 40] .
وذَكَر اللهُ عن نوحٍ وقومِه: وَكُلَّمَا مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قَالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَمَا تَسْخَرُونَ [هود: 38] . فقابَل نوحٌ عليه السَّلامُ والمُؤمِنون معه سُخريَّةَ الكُفَّارِ منهم بسُخريَّةٍ.
وقد أخبَرَنا اللهُ عزَّ وجَلَّ أنَّه يَسخَرُ من المُنافِقين؛ مقابلةً لسُخريَّتِهم ومجازاةً عليها، فقال تعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَلَهُمْ عَذَابٌ أَلِيمٌ [التوبة: 79] .
قال ابنُ تَيميَّةَ: (لَفظُ المَكرِ والاستِهْزاءِ والسُّخْريَّةِ المضافُ إلى اللهِ... زعَموا أنَّه مُسمًّى باسمِ ما يُقابِلُه على طريقِ المَجازِ، وليس كذلك، بل مُسمَّياتُ هذه الأسماءِ إذا فُعِلَتْ بمَن لا يستحِقُّ العقوبةَ كانت ظُلمًا له، وأمَّا إذا فُعِلَتْ بمَن فعَلَها بالمَجنيِّ عليه؛ عقوبةً له بمِثلِ فِعْلِه، كانت عَدْلًا، كما قال تعالى: كَذَلِكَ كِدْنَا لِيُوسُفَ [يوسف: 76] ، فكادَ له كما كادَتْ إخوتُه لَمَّا قال له أبوه: لَا تَقْصُصْ رُؤْيَاكَ عَلَى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْدًا [يوسف: 5] ، وقال تعالى: إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْدًا * وَأَكِيدُ كَيْدًا [الطارق: 15-16] ، وقال تعالى: وَمَكَرُوا مَكْرًا وَمَكَرْنَا مَكْرًا وَهُمْ لَا يَشْعُرُونَ * فَانْظُرْ كَيْفَ كَانَ عَاقِبَةُ مَكْرِهِمْ [النمل: 50-51] ، وقال تعالى: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقَاتِ وَالَّذِينَ لَا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ [التوبة: 79] ) [3838] ((مجموع الفتاوى)) (7/111). .

انظر أيضا: