موسوعة الأخلاق والسلوك

 عاشِرًا: مَسائِلُ مُتفَرِّقةٌ


- قد تؤدِّي المبالغةُ في فِعلٍ محمودٍ إلى الخروجِ إلى ما يُذَمُّ، فالتَّواضُعُ خُلُقٌ محمودٌ، لكِنْ قد يبالِغُ الإنسانُ فيه وينحَرِفُ عن التَّوسُّطِ فيه، فيؤدِّي به ذلك إلى ذُلِّ الهوانِ المذمومِ، وخَيرُ الأمورِ الوَسَطُ. قال الغزاليُّ وهو يتحَدَّثُ عن سبيلِ اكتِسابِ التَّواضُعِ: (سبيلُه في اكتسابِ التَّواضُعِ أن يتواضَعَ للأقرانِ ولمن دونَهم حتى يخفَّ عليه التَّواضُعُ المحمودُ في محاسِنِ العاداتِ؛ ليزولَ به الكِبرُ عنه، فإن خَفَّ عليه ذلك فقد حصل له خُلُقُ التَّواضُعِ، وإن كان يَثقُلُ عليه وهو يفعَلُ ذلك فهو متكَلِّفٌ لا متواضِعٌ، بل الخُلُقُ ما يصدُرُ عنه الفعلُ بسهولةٍ من غيرِ ثِقلٍ ومن غيرِ رَويَّةٍ، فإن خفَّ ذلك وصار بحيثُ يثقُلُ عليه رعايةُ قَدرِه حتَّى أحبَّ التَّملُّقَ والتَّخاسُسَ فقد خرج إلى طَرَفِ النُّقصانِ؛ فليرفَعْ نفسَه إذ ليس للمُؤمِنِ أن يُذِلَّ نفسَه، إلى أن يعودَ إلى الوَسَطِ الذي هو الصِّراطُ المستقيمُ ... والمحمودُ المُطلَقُ هو العَدلُ ووَضعُ الأمورِ مَواضِعَها كما يجِبُ وعلى ما يجِبُ، كما يُعرَفُ ذلك بالشَّرعِ والعادةِ) [3526] ((إحياء علوم الدين)) (3/ 369). .
وقال ابنُ القيم: (كُلُّ خُلُقٍ محمودٍ مُكتَنَفٌ بخُلُقَينِ ذميمَينِ، وهو وَسَطٌ بَينَهما. وطَرَفاه خُلُقانِ ذَميمانِ؛ كالجُودِ الذي يكتَنِفُه خُلُقَا البُخلِ والتَّبذيرِ، والتَّواضُعِ الذي يكتَنِفُه خُلُقَا الذُّلِّ والمهانةِ، والكِبرِ والعُلُوِّ.
فإنَّ النَّفسَ متى انحرَفَت عن التَّوسُّطِ انحرَفَت إلى أحَدِ الخُلُقَينِ الذَّميمَينِ ولا بُدَّ؛ فإذا انحرَفَت عن خُلُقِ التَّواضُعِ انحرَفَت إمَّا إلى كِبرٍ وعُلُوٍّ، وإمَّا إلى ذُلٍّ ومَهانةٍ وحَقارةٍ. وإذا انحرَفَت عن خُلُقِ الحياءِ انحرَفَت إمَّا إلى قِحَةٍ [3527] أي: قِلَّةِ حَياءٍ. يُنظر: ((مختار الصحاح)) لزين الدين الرازي (ص: 343)، ((المصباح المنير)) للفيومي (2/ 667). وجُرأةٍ، وإمَّا إلى عَجزٍ وخَوَرٍ ومهانةٍ، بحيثُ يَطمَعُ في نفسِه عَدُوُّه، ويفوتُه كثيرٌ من مصالحِه، ويزعُمُ أنَّ الحامِلَ له على ذلك الحياءُ، وإنَّما هو المهانةُ والعَجزُ، وموتُ النَّفسِ. وكذلك إذا انحَرَفت عن خُلُقِ الصَّبرِ المحمودِ انحرَفَت إمَّا إلى جَزَعٍ وهَلَعٍ وجَشَعٍ وتسَخُّطٍ، وإمَّا إلى غِلظةِ كَبدٍ، وقَسوةِ قَلبٍ، وتحَجُّرِ طَبعٍ... وصاحِبُ الخُلُقِ الوَسَطِ مَهِيبٌ محبوبٌ، عزيزٌ جانِبُه، حبيبٌ لِقاؤه) [3528] ((مدارج السالكين)) (2/ 295 - 297). .
وقال الشَّاعِرُ:
سأصبِرُ عن رفيقي إن جفاني.
على كُلِّ الأذى إلَّا الهوانَ [3529] ((محاضرات الأدباء)) للراغب (2/ 19).
- وقال محمَّدٌ الغزاليُّ: (إنَّ النَّاسَ يُذِلُّون أنفُسَهم، يَقبَلون الدَّنيَّةَ في دينِهم ودنياهم، لواحدٍ من أمرينِ: إمَّا أن يصابوا في أرزاقِهم أو في آجالِهم. والغريبُ أنَّ اللهَ قَطَع سُلطانَ البَشَرِ على الآجالِ والأرزاقِ جميعًا؛ فليس لأحَدٍ إليهما من سَبيلٍ.
فالنَّاسُ في الحقيقةِ يَستَذِلُّهم وَهمٌ نَشَأ من أنفُسٍ مريضةٍ بالحرصِ على الحياةِ والخَوفِ على القُوتِ، والنَّاسُ من خوفِ الذُّلِّ في ذُلٍّ، ومن خَوفِ الفَقرِ في فَقرٍ، مع أنَّ الإسلامَ بنى حقيقةَ التَّوحيدِ على الصِّلةِ باللَّهِ تبارك وتعالى فيما ينوبُ ويروعُ، واليأسِ من النَّاسِ فيما لا يملِكون فيه على اللهِ بتًّا، ولا يُقَدِّمون نفعًا ولا ضَرًّا أَمَّنْ هَذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمَنِ إِنِ الْكَافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ * أَمَّنْ هَذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَنُفُورٍ [الملك: 20 - 21] .
ويقولُ ابنُ القَيِّمِ في مناجاةِ اللَّهِ:
يا مَن ألوذُ به فيما أؤَمِّلُه
ومَن أعوذُ به ممَّا أحاذِرُهُ
لا يجبُرُ النَّاسُ عَظمًا أنت كاسِرُهُ
ولا يَهيضون عظمًا أنت جابِرُهُ
ذلكم هو التَّوحيدُ الكاملُ، وذلكم ما يجِبُ أن يُستشفى به أولئك الضِّعافُ المساكينُ، الذين يُريقون ماءَ وجوهِهم في التَّسكُّعِ على الأبوابِ، والتَّمسُّحِ بالثِّيابِ، والزُّلفى على الأعتابِ...
أمَّا تهيُّبُ الموتِ وتحمُّلُ العارِ طَلَبًا للبقاءِ في الدُّنيا على أيَّةِ صُورةٍ، فذلك حمقٌ؛ فإنَّ الفرارَ لا يُطيلُ أجَلًا، والإقدامَ لا يَنقُصُ عُمُرًا، كيف؟ وَلِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذَا جَاءَ أَجَلُهُمْ لَا يَسْتَأْخِرُونَ سَاعَةً وَلَا يَسْتَقْدِمُونَ [الأعراف: 34] .
إنَّ القضاءَ يصيبُ العزيزَ وله أجرُه، ويصيبُ الذَّليلَ وعليه وِزرُه؛ فكُنْ عزيزًا ما دام لن يُفلِتَ من محتومِ القضاءِ إنسانٌ) [3530] ((خلق المسلم)) (ص: 206-208). .
- وقال ابنُ الجوزيِّ: (حَضَرْنا بعضَ أغديةِ أربابِ الأموالِ، فرأيتُ العُلَماءَ أذَلَّ النَّاسِ عِندَهم! العُلَماءُ يتواضَعون لهم، ويَذِلُّون لموضِعِ طَمَعِهم فيهم، وهم لا يَحفِلون بهم؛ لِما يعلَمونه من احتياجِهم إليهم. فرأيتُ هذا عيبًا في الفريقينِ؛ أمَّا في أهلِ الدُّنيا فوَجهُ العَيبِ أنَّهم كان ينبغي لهم تعظيمُ العِلمِ، ولكِنْ لجَهلِهم بقَدرِه فاتهم، وآثَروا عليه كَسْبَ الأموالِ؛ فلا ينبغي أن يُطلَبَ منهم تعظيمُ ما لا يَعرِفون ولا يعلَمونَ قَدْرَه.
وإنَّما أعودُ باللَّومِ على العُلَماءِ وأقولُ: ينبغي لكم أن تصونوا أنفُسَكم التي شرُفَت بالعلمِ عن الذُّلِّ للأنذالِ، وإن كُنتُم في غِنًى عنهم كان الذُّلُّ لهم والطَّلَبُ منهم حرامًا عليكم، وإن كنتُم في كَفافٍ فلِمَ لمْ تؤثِروا التَّنزُّهَ عن الذُّلِّ بالعِفَّةِ عن الحُطامِ الفاني الحاصِلِ بالذِّلَّةِ؟!) [3531] ((صيد الخاطر)) (ص: 222). .

انظر أيضا: