موسوعة الأخلاق والسلوك

أ- مِنَ القُرآنِ الكريمِ


أكَّد القرآنُ الكريمُ على ضرورةِ الوَفاءِ بالوَعْدِ، ونهى عن إخلافِه وحَذَّر من ذلك؛ فخُلْفُ الوَعْدِ صِفةٌ مذمومةٌ ليست من شِيَمِ المُؤمِنين ولا مِن أخلاقِهم.
- قال تعالى: يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ مَا لَا تَفْعَلُونَ * كَبُرَ مَقْتًا عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا مَا لَا تَفْعَلُونَ [الصف: 2 - 3] .
قال أبو بكرٍ الجَصَّاصُ: (يُحتَجُّ به في أنَّ كُلَّ من ألزَم نفسَه عبادةً أو قُربةً وأوجب على نفسِه عقدًا، لزِمَه الوفاءُ به؛ إذ تَركُ الوفاءِ به يُوجِبُ أن يكونَ قائِلًا ما لا يفعَلُ، وقد ذمَّ اللَّهُ فاعِلَ ذلك، وهذا فيما لم يكُنْ معصيةً، فأمَّا المعصيةُ فإنَّ إيجابَها في القَولِ لا يلزَمُه الوفاءُ بها... وإنَّما يلزَمُ ذلك فيما عَقَده على نفسِه ممَّا يتقَرَّبُ به إلى اللَّهِ عزَّ وجَلَّ، مِثلُ النُّذورِ، وفي حُقوقِ الآدميِّينَ العقودُ التي يتعاقَدونها، وكذلك الوَعْدُ بفعلٍ يَفعَلُه في المستقبَلِ، وهو مباحٌ؛ فإنَّ الأَولى الوفاءُ به مع الإمكانِ، فأمَّا قولُ القائِلِ: «إنِّي سأفعَلُ كذا» فإنَّ ذلك مباحٌ له على شريطةِ استثناءِ مَشيئةِ اللَّهِ تعالى، وأن يكونَ في عقدِ ضَميرِه الوفاءُ به، ولا جائِزَ له أن يَعِدَ وفي ضميرِه ألَّا يَفيَ به؛ لأنَّ ذلك هو المحظورُ الذي نهى اللَّهُ عنه ومَقَت فاعِلَه عليه، وإن كان في عقدِ ضميرِه الوفاءُ به ولم يَقرُنْه بالاستثناءِ فإنَّ ذلك مكروهٌ؛ لأنَّه لا يدري هل يقَعُ منه الوفاءُ به أم لا. فغيرُ جائزٍ له إطلاقُ القولِ في مِثلِه مع خَوفِ إخلافِ الوَعْدِ فيه، وهو يدُلُّ على أنَّ من قال: «إن فعَلْتَ كذا فأنا أحَجُّ أو أهدي أو أصومُ» فإنَّ ذلك بمنزلةِ الإيجابِ بالنَّذرِ؛ لأنَّ تَرْكَ فِعلِه يؤدِّيه إلى أن يكونَ قائِلًا ما لم يفعَلْ) [3144] ((أحكام القرآن)) (3/ 591). .
وقال الزَّمخشريُّ: (هذا الكلامُ يتناوَلُ الكَذِبَ وإخلافَ الموعِدِ، ورُوِيَ أنَّ المُؤمِنين قالوا قبلَ أن يُؤمَروا بالقتالِ: لو نعلَمُ أحَبَّ الأعمالِ إلى اللَّهِ تعالى لعَمِلْناه ولبذَلْنا فيه أموالَنا وأنفُسَنا؛ فدَلَّهم اللَّهُ تعالى على الجِهادِ في سبيلِه، فوَلَّوا يومَ أحُدٍ، فعَيَّرَهم. وقيل: لَمَّا أخبَرَ اللَّهُ بثوابِ شُهَداءِ بَدرٍ قالوا: لئِنْ لَقِينا قتالًا لنُفرِغَنَّ فيه وُسْعنا، ففَرُّوا يومَ أحُدٍ ولم يَفُوا. وقيل: كان الرَّجُلُ يقولُ: قتَلْتُ ولم يَقتُلْ، وطعَنْتُ ولم يَطعَنْ، وضرَبْتُ ولم يَضرِبْ، وصبَرْتُ ولم يصبِرْ) [3145] ((الكشاف)) (4/522). .
- وقال تعالى: إِنَّمَا يَتَذَكَّرُ أُولُو الْأَلْبَابِ * الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ [الرعد: 19 - 20] .
قال ابنُ كثيرٍ: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَلَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ، وليسوا كالمُنافِقين الذين إذا عاهَد أحَدُهم غَدَر، وإذا خاصَمَ فَجَر، وإذا حدَّث كَذَب، وإذا ائتُمِنَ خانَ) [3146] ((تفسير القرآن العظيم)) (4/450). .
وقال السَّعديُّ: (الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ الذي عَهِده إليهم والذي عاهَدَهم عليه من القيامِ بحُقوقِه كامِلةً مُوفَّرةً؛ فالوفاءُ بها توفيتُها حَقَّها من التَّتميمِ لها، والنُّصحِ فيها، وَ مِن تمامِ الوفاءِ بها أنَّهم لَا يَنْقُضُونَ الْمِيثَاقَ أي: العهدَ الذي عاهدوا عليه اللَّهَ، فدَخَل في ذلك جميعُ المواثيقِ والعهودِ والأيمانِ والنُّذورِ، التي يعقِدُها العِبادُ. فلا يكونُ العبدُ مِن أُولي الألبابِ الذين لهم الثَّوابُ العظيمُ، إلَّا بأدائِها كاملةً، وعَدَمِ نَقضِها وبَخسِها) [3147] ((تيسير الكريم الرحمن)) (ص: 416). .
- وقال تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ وَلَا تَنْقُضُوا الْأَيْمَانَ بَعْدَ تَوْكِيدِهَا وَقَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ مَا تَفْعَلُونَ [النحل: 91] .
قال الخازِنُ: (قيل: المرادُ منه كُلُّ ما يلتَزِمُه الإنسانُ باختيارِه، ويدخُلُ فيه الوَعْدُ أيضًا؛ لأنَّ الوَعْدَ من العَهدِ) [3148] ((لباب التأويل)) (3/95). .
وقال محمَّد الأمين الشِّنقيطيُّ: (قولُه تعالى: وَأَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذَا عَاهَدْتُمْ أمرَ جَلَّ وعلا في هذه الآيةِ الكريمةِ عِبادَه أن يُوفُوا بعهدِ اللَّهِ إذا عاهَدوا. وظاهِرُ الآيةِ أنَّه شامِلٌ لجميعِ العُهودِ فيما بَيْنَ العبدِ ورَبِّه، وفيما بينَه وبَينَ النَّاسِ) [3149] ((أضواء البيان)) (2/ 438). .
- وقال تعالى: وَأَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كَانَ مَسْؤُولًا [الإسراء: 34] .
(والعَهدُ يكونُ بَيْنَ العبدِ ورَبِّه، كما يكونُ بَيْنَ المُؤمِنِ وجماعةِ المُؤمِنين، وبينَ المُسلِمين وسِواهم، والمجتَمَعُ الفاضِلُ المتمَسِّكُ هو الذي يسودُه الوفاءُ بالوَعْدِ والعَهدِ، أمَّا المجتَمَعُ الذي يفشو فيه الغَدرُ والخيانةُ والغِشُّ والخِداعُ، فمآلُه التَّفكُّكُ والانحلالُ) [3150] ((التفسير الوسيط)) لمجموعة من المؤلفين (1/ 270). .
(فالعَهدُ فضيلةٌ وميثاقٌ، والعَقدُ التِزامٌ وارتباطٌ، والإخلالُ بالعهدِ خيانةٌ ونِفاقٌ، والتَّحلُّلُ من العقدِ إهدارٌ للثِّقةِ وتضييعٌ للحُقوقِ، فيجِبُ شَرعًا الوفاءُ بالعهدِ، وتنفيذُ مقتضى العقدِ، فمَن أخلَف بوَعدِه ولم يُوفِ بعَهدِه، ولم يُنَفِّذِ التِزامَ عَقدِه، وقَع في الإثمِ والمعصيةِ) [3151] ((التفسير المنير)) للزحيلي (15/73). .
- وقال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يُبَايِعُونَكَ إِنَّمَا يُبَايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ [الفتح: 10] .
أي: فمَن نَقَض بَيعتَه فإنَّما يَضُرُّ نفسَه بذلك؛ لاستحقاقِه العقابَ، وحِرمانِ نَفسِه من الثَّوابِ [3152] ((التفسير المحرر - الدرر السنية)) (34/ 59). .
وقال ابنُ كثيرٍ: (فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّمَا يَنْكُثُ عَلَى نَفْسِهِ أي: إنَّما يعودُ وَبالُ ذلك على النَّاكِثِ، واللَّهُ غنيٌّ عنه) [3153] ((تفسير القرآن العظيم)) (7/330). .

انظر أيضا: