موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- مِنَ السُّنَّةِ النَّبَويَّةِ


- عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((آيةُ المُنافِقِ ثلاثٌ: إذا حدَّث كَذَب، وإذا وعَد أخلَفَ، وإذا اؤتُمِن خان)) [3154] أخرجه البخاري (33)، ومسلم (59). .
(وإذا وَعَد) أي: بالخيرِ في المستقبَلِ؛ لأنَّ الشَّرَّ يُستحَبُّ إخلافُه، بل قد يَجِبُ، (أخلَفَ) أي: لم يَفِ بوَعدِه، والاسمُ منه الخُلْفُ [3155] يُنظَر: ((مرقاة المفاتيح)) للملا علي القاري (1/ 126)، ((مرعاة المفاتيح)) للمباركفوري (1/128). .
وقال القَسطَلَّانيُّ: (وجهُ الاقتصارِ على الثَّلاثةِ أنَّها مبنيَّةٌ على ما عداها؛ إذ أصلُ الدِّيانةِ ينحَصِرُ في ثلاثةٍ: القَولُ، والفِعلُ، والنِّيَّةُ؛ فنبَّه على فسادِ القَولِ بالكَذِبِ، وعلى فسادِ الفِعلِ بالخيانةِ، وعلى فسادِ النِّيَّةِ بالخُلفِ؛ لأنَّ خُلفَ الوعدِ لا يقدَحُ إلَّا إذا كان العزمُ عليه مقارِنًا للوعدِ، أمَّا لو كان عازمًا ثمَّ عَرَض له مانعٌ أو بدا له رأيٌ، فهذا لم توجَدْ منه صورةُ النِّفاقِ) [3156] ((إرشاد الساري)) (4/ 264). .
- وعن عبدِ اللَّهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللَّهُ عنهما، قال: قال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((أربَعُ خِلالٍ مَن كُنَّ فيه كان مُنافِقًا خالِصًا: مَن إذا حدَّث كَذَب، وإذا وَعَد أخلَفَ، وإذا عاهَدَ غَدَر، وإذا خاصَمَ فَجَر، ومن كانت فيه خصلةٌ منهُنَّ كانت فيه خَصلةٌ من النِّفاقِ حتَّى يَدَعَها)) [3157] أخرجه البخاري (3178) واللفظ له، ومسلم (58). .
قال النَّوويُّ: (هذه الخِصالُ خِصالُ نِفاقٍ، وصاحِبُها شَبيهٌ بالمُنافِقين في هذه الخِصالِ ومتخَلِّقٌ بأخلاقِهم؛ فإنَّ النِّفاقَ هو إظهارُ ما يُبطَنُ خِلافُه، وهذا المعنى موجودٌ في صاحبِ هذه الخِصالِ، ويكونُ نِفاقُه في حَقِّ مَن حَدَّثَه ووَعَده وائتَمَنه وخاصَمَه وعاهَدَه من النَّاسِ، لا أنَّه مُنافِقٌ في الإسلامِ فيُظهِرُه وهو يُبطِنُ الكُفرَ) [3158] ((شرح مسلم)) (2/ 47). .
- وعن عبدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ الصِّدقَ يهدي إلى البِرِّ، وإنَّ البِرَّ يهدي إلى الجنَّةِ، وإنَّ الرَّجُلَ ليَصدُقُ ويتحرَّى الصِّدقَ حتَّى يُكتَبَ عند اللهِ صِدِّيقًا. وإيَّاكم والكَذِبَ؛ فإنَّ الكَذِبَ يهدي إلى الفُجورِ، وإنَّ الفُجورَ يهدي إلى النَّارِ، وما يزالُ الرَّجُلُ يَكذِبُ، ويتحَرَّى الكَذِبَ حتَّى يُكتَبَ عِندَ اللهِ كَذَّابًا)) [3159] أخرجه البخاري (6094) واللفظ له، ومسلم (2607).
قال الخطَّابيُّ: (أصلُ الفُجورِ المَيلُ عن الصِّدقِ، والانحرافُ إلى الكَذِبِ) [3160] ((معالم السنن)) (4/ 133). .
وقال الرَّاغِبُ الأصفَهانيُّ: (الصِّدقُ والكَذِبُ أصلُهما في القولِ، ماضيًا كان أو مستقبَلًا، وعدًا كان أو غيرَه، ولا يكونانِ بالقَصدِ الأوَّلِ إلَّا في القَولِ، ولا يكونانِ في القَولِ إلَّا في الخَبَرِ دونَ غَيرِه من أصنافِ الكَلامِ) [3161] ((المفردات في غريب القرآن)) (ص: 478). .
ففي الحديثِ إشارةٌ إلى ذَمِّ الكَذِبِ في أيِّ أمرٍ كان، ولا شَكَّ أنَّ من يُخلِفُ وَعدَه داخِلٌ في جملةِ الكذَّابين، لا سيَّما إن كان عاقِدًا على خُلْفِ الوَعْدِ عِندَ قَطعِه على نفسِه.
- وعن عُروةَ أنَّ عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها أخبَرَتْه: ((أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان يدعو في الصَّلاةِ ويقولُ: اللَّهُمَّ إنِّي أعوذُ بك من المأثَمِ والمَغرَمِ، فقال له قائِلٌ: ما أكثَرَ ما تستعيذُ يا رسولَ اللَّهِ من المغرَمِ! قال: إنَّ الرَّجُلَ إذا غَرِم حَدَّث فكَذَب، ووَعَد فأخلَفَ)) [3162] أخرجه البخاري (2397) واللفظ له، ومسلم (589). .
قال القَسْطَلَّانيُّ: («ووَعَد فأخلَفَ»: كأن قال لصاحِبِ الدَّينِ: أوفِّيك دينَك في يومِ كذا، ولم يُوفِّ، فيَصيرُ مُخلِفًا لوَعدِه. والكَذِبُ وخُلْفُ الوَعْدِ من صفاتِ المُنافِقين) [3163] ((إرشاد الساري)) (2/ 131). .
- وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((مَن أخَذ أموالَ النَّاسِ يريدُ أداءَها أدَّى اللَّهُ عنه، ومَن أخَذ يريدُ إتلافَها أتلفَه اللَّهُ)) [3164] أخرجه البخاري (2387). .
إنَّ (مِن النَّاسِ مَن يَقتَرِضُ الأموالَ لحاجةٍ مِن حاجتِه، عازِمًا على أدائِها في الموعِدِ المضروبِ، أو حينَ يَقَعُ في يَدِه مالٌ، فهذا يؤدِّي اللَّهُ عنه ديونَه، فيفتَحُ له من أبوابِ الرِّزقِ ما لم يكُنْ يحتَسِبُه؛ مكافأةً على نيَّتِه الصَّالحةِ، وعَزِمه المحمودِ، على أنَّ لتلك الإرادةِ أثَرًا في اكتِسابِ الرِّزقِ؛ فإنَّها لا تزالُ بصاحِبِها تدفَعُه إلى تلمُّسِ أبوابِ المكاسِبِ، والبَحثِ عن طُرُقِ المالِ، حتَّى يهتديَ إليها، ويؤدِّيَ ديونَه، ومِثلُ هذا من يشتري من التُّجَّارِ طعامَه وشرابَه وحاجياتِه الأُخرى، أو بضاعةً يتَّجِرُ فيها إلى أجَلٍ وليس بيَدِه ما يدفَعُه نَقدًا، فإنْ عَزَم على الأداءِ والوفاءِ يَسَّر اللَّهُ له المالَ حتَّى يوفيَ بما عاهَد. أمَّا من استقرَضَ أو اشترى شيئًا دَينًا أو طَلَب إلى النَّاسِ أن يودِعوه أموالَهم، أو استعارَ أو استأجَر عَينًا عازِمًا على الجُحودِ والإنكارِ أو الإتلافِ والإهلاكِ؛ فإنَّ اللَّهَ تعالى يُتلِفُه؛ فيُوقِعُه في خُبثِ نِيَّتِه وسُوءِ طَوِيَّتِه، ويفتَحُ له من أبوابِ النَّفَقاتِ ما يَذهَبُ بمالِه) [3165] ((الأدب النبوي)) (ص: 44). .
فهذه صورةٌ لخُلْفِ الوَعْدِ في أداءِ الدَّينِ، فإنَّ من أخَذ أموالَ النَّاسِ وضَرَب لهم موعِدًا لسَدادِها وفي نيَّتِه ألَّا يَرُدَّ إليهم أموالَهم، أو كان عَجزُه عن رَدِّها مؤكَّدًا، فذلك داخِلٌ في الخُلْفِ بالوَعْدِ؛ ولذلك نهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عنه.

انظر أيضا: