موسوعة الأخلاق والسلوك

أ- من القُرآنِ الكريمِ


ورد في القرآنِ الكريمِ بعضُ الآياتِ تُشيرُ إلى النَّهيِ عن الثَّرثَرةِ أو كثرةِ الكلامِ على سَبيلِ التَّلميحِ؛ منها على سبيلِ المثالِ:
- قوله تعالى: قَدْ بَدَتِ الْبَغْضَاءُ مِنْ أَفْوَاهِهِمْ وَمَا تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ [آل عمران: 118] .
قال القُرطُبيُّ: (يعني: ظهَرَت العداوةُ والتَّكذيبُ لكم من أفواهِهم. والبغضاءُ: البُغضُ، وهو ضِدُّ الحُبِّ. وخَصَّ تعالى الأفواهَ بالذِّكرِ دونَ الألسِنةِ إشارةً إلى تشَدُّقِهم وثَرثَرتِهم في أقوالِهم هذه، فهم فوقَ المتسَتِّرِ الذي تبدو البغضاءُ في عينَيه) [2054] ((الجامع لأحكام القرآن)) (4/ 180). .
- قولُه تعالى: وَإِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ [النساء: 83] .
وهذا جانبٌ من جوانبِ الصُّورةِ التي عرَض اللهُ فيها هؤلاء المُنافِقين، وإنَّهم لأصحابُ ثَرثَرةٍ ولَغوٍ، كلَّما وقعَت لآذانِهم كَلِمةٌ طاروا بها، وألقَوا بها إلى كُلِّ أذُنٍ، دونَ أن يتبَيَّنوا ما يَسمَعون أو يَعرِفوا وَجهَه، إنَّ اللَّغوَ وتقليبَ وُجوهِ الكلامِ هو تجارتُهم الرَّابحةُ، وبضاعتُهم الرَّابحةُ، لا يتكَلَّفون له جُهدًا، ولا يخشَون من ورائِه سُوءًا، فما هو إلَّا أحاديثُ تُروى، وأخبارٌ تُتناقَلُ، لا يدري أحَدٌ مَصدَرَها، ولا يَعرِفُ مَن هو صاحِبُها، وعلى هذا الغِذاءِ الخبيثِ يعيشُ المُنافِقون، ومِن هذا الجَوِّ المغبَرِّ يتنَفَّسون!
فهم يُثرثِرون بكُلِّ ما يَسمَعون من خيرٍ أو شَرٍّ إِذَا جَاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذَاعُوا بِهِ أي: نطقوا به وصَحِبوه معهم إلى كُلِّ مكانٍ؛ فليس يُرضيهم أن يُذيعوا هذه الأحاديثَ في النَّاسِ، وإنَّما هم وراءَ هذه الأحاديثِ المذاعةِ يدفَعونها بَيْنَ أيديهم، ويَشهَدون آثارَها في النَّاسِ، وهذا ما يشيرُ إليه النَّظمُ في قَولِه تعالى أَذَاعُوا بِهِ [2055] يُنظَر: ((التفسير القرآني)) لعبد الكريم يونس (3/ 846). .
- قولُه تعالى: وَمِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَيَاةِ الدُّنْيَا وَيُشْهِدُ اللَّهَ عَلَى مَا فِي قَلْبِهِ وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ [البقرة: 204] .
قولُه تعالى: وَهُوَ أَلَدُّ الْخِصَامِ فيه وَصفٌ دقيقٌ لكُلِّ فَردٍ من أفرادِ هذه الطَّائفةِ، وهو صورةٌ ناطقةٌ بما عليه المُنافِقون جميعًا من قُدرةٍ خاصَّةٍ على الجَدَلِ الفارِغِ، وطُولِ نَفَسٍ في الأخذِ والرَّدِّ؛ فهم ثَرثارون مُتفَيهِقون دائمًا، وعليهم وعلى أمثالِهم يَصدُقُ قَولُه تعالى في سورةِ الأنعامِ: وَإِنَّ الشَّيَاطِينَ لَيُوحُونَ إِلَى أَوْلِيَائِهِمْ لِيُجَادِلُوكُمْ وَإِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ [الأنعام: 121] ، وقولُه تعالى في السُّورةِ نفسِها: وَكَذَلِكَ جَعَلْنَا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَيَاطِينَ الْإِنْسِ وَالْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلَى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُورًا [2056] يُنظَر: ((التيسير في أحاديث التفسير)) لمحمد المكي الناصري (1/ 130). [الأنعام: 112] .
- وقال تعالى آمِرًا نبيَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالإعراضِ عن لَغوِ وثَرثَرةِ أهلِ الضَّلالِ والكُفرِ: وَمَا قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قَالُوا مَا أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَى بَشَرٍ مِنْ شَيْءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتَابَ الَّذِي جَاءَ بِهِ مُوسَى نُورًا وَهُدًى لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَرَاطِيسَ تُبْدُونَهَا وَتُخْفُونَ كَثِيرًا وَعُلِّمْتُمْ مَا لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَلَا آبَاؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ [الأنعام: 91] .
قال ابنُ كثيرٍ: (قَولُه: ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ أي: ثمَّ دَعْهم في جَهلِهم وضَلالِهم يَلعَبونَ، حتَّى يأتيَهم من اللهِ اليقينُ، فسوف يعلمونَ ألهم العاقِبةُ، أم لعبادِ اللهِ المتَّقين؟!) [2057] ((تفسير القرآن العظيم)) (3/301). .
ففي الآيةِ تنديدٌ بالكُفَّارِ على مكابرتِهم وتجاهُلِهم أو عَدَمِ إدراكِهم عِظَمَ شأنِ اللهِ وقَدْرِه، وسابِقَ أحداثِه مع أنبيائِه، وفيها أمرٌ للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بالهُتافِ بأنَّ اللهَ تعالى هو الذي أنزَله، وبأنْ يدَعَهم بعدَ ذلك وشأنَهم غارِقين في خوضِهم وثَرثَرتِهم وغَوايتِهم؛ لأنَّهم يقولون ما يقولون مُكابرةً وعِنادًا [2058] ((التفسير الحديث)) لدروزة محمد عزت (4/121). .

انظر أيضا: