موسوعة الأخلاق والسلوك

سادِسًا: أسبابُ الوُقوعِ في التَّعالُمِ


1- جَهلُ العامَّةِ بحقيقةِ العِلمِ وكُنهِه، وبصفاتِ العُلَماءِ:
قال أبو طالبٍ المكِّيُّ: (فصار كُلُّ مَن نطَق بكلامٍ وصفُه غريبٌ على السَّامعين لا يَعرِفُ حَقَّه من باطِلِه، سُمِّيَ عالِمًا، وكلُّ كلامٍ يُستحسَنُ زُخرُفُه ورَونقُه لا أصلَ له يُسَمَّى عِلمًا، وليس هذا إلَّا:
أ- لجَهلِ العامَّةِ بالعِلمِ أيُّ شيءٍ هو.
ب- لقِلَّةِ مَعرفةِ السَّامعِ بوصفِ من سَلَف من العُلَماءِ كيف كانوا.
فصار كثيرٌ من متكَلِّمي الزَّمانِ فِتنةً لمفتونٍ، وصار كثيرٌ من الكلامِ والرَّأيِ والمعقولِ -الذي حقيقتُه جَهلٌ- كأنَّه عِلمٌ عندَ الجاهلينَ، فلا يُفَرِّقون بَينَ المتكَلِّمين والعُلَماءِ، ولا يميِّزون بَينَ العِلمِ والكلامِ) [1655] ((قوت القلوب في معاملة المحبوب)) (1/ 274). .
2- تأخُّرُ العُلَماءِ عن أداءِ مُهِمَّتِهم:
فـ(الوظيفةُ الرَّئيسةُ لأهلِ العِلمِ والإيمانِ هي تغذيةُ العقولِ بالعِلمِ النَّافِعِ؛ تحصينًا لها من أيِّ مُؤثِّرٍ عليها، وتأخُّرُ العُلَماءِ عن أداءِ مُهمَّةِ البلاغِ من الأسبابِ التي أدَّت إلى التَّجنُّسِ الفِكريِّ من انحرافاتٍ في المفاهيمِ والأخلاقِ، وتموُّجاتٍ في الاعتقادِ) [1656] ((التعالم وأثره على الفكر والكتاب)) (ص: 32). .
قال ابنُ تيميَّةَ: (فالمُرصَدون للعِلمِ عليهم للأمَّةِ حِفظُ عِلمِ الدِّينِ وتبليغُه؛ فإذا لم يبَلِّغوهم عِلمَ الدِّينِ أو ضيَّعوا حِفظَه، كان ذلك من أعظَمِ الظُّلمِ للمُسلِمين؛ ولهذا قال تعالى: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ مَا أَنْزَلْنَا مِنَ الْبَيِّنَاتِ وَالْهُدَى مِنْ بَعْدِ مَا بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتَابِ أُولَئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَيَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ [البقرة: 159] ) [1657] ((مجموع الفتاوى)) (28/ 187). .
3- عدَمُ التَّعلُّمِ على أيدي المشايخِ، وكان الأوزاعيُّ يقولُ: (كان هذا العِلمُ كريمًا يتلاقاه الرِّجالُ بينهم، فلمَّا دخَل في الكتُبِ دخَل فيه غيرُ أهلِه) [1658] ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (35/ 188). .
4- تقديمُ الجُهَّالِ على العُلَماءِ وتوليةُ المناصِبِ الشَّريفةِ لِمن لا يَصلُحُ لها:
قال الشَّاطبيُّ: (إنَّ جَعْلَ الجاهِلِ في موضِعِ العالمِ حتَّى يصيرَ مُفتيًا في الدِّينِ، ومعمولًا بقولِه في الأموالِ والدِّماءِ والأبضاعِ وغيرِها: محرَّمٌ في الدِّينِ، وكونُ ذلك يُتَّخَذُ دَيدنًا حتى يصيَر الابنُ مستَحِقًّا لرُتبةِ الأبِ، وإنْ لم يبلُغْ رُتبةَ الأبِ في ذلك المنصِبِ، بطريقِ الوِراثةِ أو غيرِ ذلك، بحيثُ يَشيعُ هذا العَمَلُ ويطَّرِدُ، ويَعُدُّه النَّاسُ كالشَّرعِ الذي لا يخالَفُ: بدعةً بلا إشكالٍ، زيادةً إلى القولِ بالرَّأيِ غيرِ الجاري على العِلمِ، وهو بدعةٌ، أو سَبَبُ البدعةِ ...، وهو الذي بيَّنه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بقولِه: ((حتَّى إذا لم يَبْقَ عالمٌ، اتَّخذ النَّاسُ رُؤساءَ جُهَّالًا، فسُئِلوا، فأفتَوا بغيرِ عِلمٍ؛ فضَلُّوا وأضَلُّوا)) [1659] أخرجه البخاري (100)، ومسلم (2673) من حديثِ عبدِ اللهِ بنِ عَمرٍو رَضِيَ اللهُ عنهما بلفظ: "رُؤوسًا". ، وإنَّما ضلُّوا وأضلُّوا؛ لأنَّهم أفتَوا بالرَّأيِ؛ إذ ليس عندَهم علمٌ) [1660] ((الاعتصام)) (2/ 432). .
وقال ابنُ تيميَّةَ: (والمَنصِبُ والوِلايةُ لا يجعَلُ من ليس عالِمًا مجتَهِدًا، عالِمًا مجتَهِدًا، ولو كان الكلامُ في العِلمِ والدِّينِ بالوِلايةِ والمنصِبِ لكان الخليفةُ والسُّلطانُ أحَقَّ بالكلامِ في العِلمِ والدِّينِ، وبأن يستفتيَه النَّاسُ ويَرجِعوا إليه فيما أشكَل عليهم في العِلمِ والدِّينِ.
فإذا كان الخليفةُ والسُّلطانُ لا يدَّعي ذلك لنَفسِه، ولا يُلزِمُ الرَّعيَّةَ حُكمَه في ذلك بقولٍ دونَ قولٍ إلَّا بكتابِ اللَّهِ وسُنَّةِ رَسولِه، فمَن هو دون السُّلطانِ في الوِلايةِ أَولى بأن لا يتعدَّى طَورَه، ولا يقيمَ نَفسَه في منصِبٍ لا يَستَحِقُّ القيامَ فيه أبو بكرٍ وعُمَرُ وعثمانُ وعليٌّ، وهم الخُلفاءُ الرَّاشِدون فضلًا عمَّن هو دونَهم؛ فإنَّهم رَضِيَ اللَّهُ عنهم إنَّما كانوا يُلزِمون النَّاسَ باتِّباعِ كِتابِ ربِّهم وسُنَّةِ نبيِّهم) [1661] ((مجموع الفتاوى)) (27/ 296). .
5- التَّفَقُّهُ طَلَبًا للدُّنيا وحُبًّا للرِّئاسةِ؛ قال التُّورِبِشْتيُّ: (حقيقةُ الفِقهِ في الدِّينِ: ما وقع في القَلبِ، ثمَّ ظهر على اللِّسانِ؛ فأفاد العَمَلَ، وأورَث الخشيةَ والتَّقوى. وأمَّا الذي يتدارَسُ أبوابًا منه؛ ليتعزَّزَ به ويتأكَّلَ، فإنَّه بمعزِلٍ عن هذه الرُّتبةِ العُظمي؛ لأنَّ الفِقهَ تعلَّق بلِسانِه دونَ قَلبِه) [1662] ((الميسر في شرح مصابيح السنة)) (1/ 106). .
6- الاغترارُ بالشَّهاداتِ العِلميَّةِ، وظنُّها كافيةً في الكلامِ في كُلِّ فَنٍّ، وإنْ لم يُتقِنْه الإنسانُ، قال أحمد شوقي: (ما بالُ النَّاشئِ وصل اجتهادَه حتى حصل على الشَّهادةِ، فلمَّا كحَّل بأحرُفِها عينيه، وظفِرَت بزُخرُفِها كِلتا يدَيه، هَجَر العِلمَ ورُبوعَه، وبعَث إلى معاهِدِه بأُقطوعةٍ، طوى الدَّفاتِرَ، وترَك المحابِرَ، وذهَب يُخايِلُ ويُفاخِرُ، ويدَّعي علمَ الأوَّلِ والآخِرِ؟!
فمَن يُنْبِيه، بارك اللَّهُ فيه لأبيه، وجزى سَعْيَ مُعَلِّمِه ومُرَبِّيه: أنَّ الشَّهادةَ طَرَفُ السَّببِ، وفاتحةُ الطَّلَبِ، والجوازُ إلى أقطارِ العِلمِ والأدَبِ، وأنَّ العِلمَ لا يُملَكُ بالصُّكوكِ والرِّقاعِ، وأنَّ المعرفةَ عندَ الثِّقاتِ غيرُ وثائِقِ الإقطاعِ؟) [1663] ((أسواق الذهب)) (ص: 66). .
وقال شكيب أَرسلان:
(رأيتُ كثيرًا من الشُّبَّانِ يجعَلون جميعَ وَكْدِهم في تحصيلِ الشَّهادةِ، ويَرَون بها منتهى السَّعادةِ، وإذا حصَل الواحِدُ عليها ظنَّ نفسَه عالِمًا لا يجوزُ أن يقالَ له: أخطَأْتَ! أوَ ليس أنَّه أحرَز الشَّهادةَ؟! ورأيتُ شُبَّانًا آخَرين يكادُ أحَدُهم يذوبُ حَسرةً وتألُّمًا على كونِه لم يُصِبِ الشَّهادةَ، ولم يَفُزْ بما فاز به غيرُه، وهو يتخيَّلُ أنَّ الأرضَ قد ابتلَعَتْه!
فكنتُ أقولُ للفئةِ الأولى: لا يَغُرَّنَّكم نَيلُ الشَّهادةِ فتناموا بعدها قائلين لأنفُسِكم: إنَّكم صِرتُم عُلَماءَ؛ بحُجَّةِ أنَّ الشَّهادةَ هي في أيديكم! بل يجِبُ أن تثابِروا على الدَّرسِ والتَّحقيقِ، كأنَّ شهادتَكم لم تكُنْ؛ فالشَّهادةُ ليست العِلمَ.
وكنتُ أقولُ للفِئةِ الثَّانيةِ: اعلَموا أنَّ الشَّهادةَ ليست هي العِلمَ الحقيقيَّ، بل هي علامةٌ من علاماتِه؛ فمَن عَرَف نفسَه قد أحكَمَ الفَنَّ الذي عكَف عليه، فلا ينبغي أن يحزَنَ على تأخُّرِ الشَّهادةِ، ومَن عَرَف نفسَه لا يزالُ غيرَ ضليعٍ في العِلمِ الذي درَسه، فلا ينبغي أن يَفرَحَ بهذه الوَرَقةِ التَّي أعطاه إيَّاها الأساتيذُ، وكثيرًا ما قدَّموا متأخِّرًا، وأخَّروا متقَدِّمًا! فكم من طالبٍ تأخَّر أيامَ التَّحصيلِ ثمَّ بعدَ خُروجِه من الجامعةِ نَبَغ وتقدَّم وصار من كبارِ العُلَماءِ!) [1664] يُنظَر: ((شوقي أو صداقة أربعين سنة)) (ص: 243). .

انظر أيضا: