موسوعة الأخلاق والسلوك

تاسعًا: نماذِجُ من التَّسَرُّعِ والعَجَلةِ


1- من ذلك تسَرُّعُ الرَّماةِ المُسلِمين في تَركِ أماكنِهم في غزوةِ أحُدٍ، ومخالفتُهم أمرَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كان سَبَبًا في هزيمةِ المُسلِمين: وفي هذا يروي البراءُ بنُ عازبٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما: ((جَعَل النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على الرَّجَّالةِ يومَ أحُدٍ -وكانوا خمسينَ رَجُلًا- عبدَ اللهِ بنَ جُبَيرٍ، فقال: إنْ رأيتُمونا تخطَفُنا الطَّيرُ فلا تَبْرَحوا مكانَكم هذا حتَّى أُرسِلَ إليكم، وإن رأيتُمونا هزَمْنا القومَ وأوطَأْناهم فلا تَبْرَحوا حتَّى أرسِلَ إليكم، فهزموهم، قال: فأنا -واللهِ- رأيتُ النِّساءَ يشتَدِدْنَ، قد بَدَت خلاخِلُهنَّ وأَسْوُقُهنَّ، رافِعاتٍ ثيابَهنَّ، فقال أصحابُ عبدِ اللهِ بنِ جُبَيرٍ: الغنيمةَ أيْ قَومِ الغنيمةَ! ظهر أصحابُكم فما تنتَظِرون؟ فقال عبدُ اللهِ بنُ جُبَيرٍ: أنسِيتُم ما قال لكم رَسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قالوا: واللهِ لنأتِيَنَّ النَّاسَ، فلَنُصيبَنَّ من الغنيمةِ، فلمَّا أتَوهم صُرِفَت وجوهُهم، فأقبَلوا مُنهَزِمين)) [1563] أخرجه البخاري (3039) مطوَّلًا. . وهكذا لمَّا تعجَّل هؤلاء الرُّماةُ الحُصولَ على الغنائمِ وتَسَرَّعوا وتَركوا أماكِنَهم، انكشف ظهرُ المُسلِمين، فالتَفَّ خالِدُ بنُ الوليدِ بمن معه من المُشرِكين وأخذوا مواضِعَ رُماةِ المُسلِمين وأثخَنوا القَتلَ فيهم، وعاقَب اللَّهُ المُسلِمين فقُتِل حَمزةُ بنُ عبدِ المطَّلِبِ، وقُتِل معه من المُسلِمين سبعون وجُرِح مثلُهم، وجُرِح النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بعدَ تفَرُّقِ المُسلِمين عنه إلَّا القليلَ، ولَمَّا أبى الرُّماةُ الثَّباتَ في أماكِنِهم وتسَرَّعوا وانطلَقوا يبحثون عن الغنائِمِ، صَرَف اللَّهُ وجوهَهم، أي: تحَيَّروا فلم يدروا أين يذهَبون، وحصلت الهزيمةُ؛ فدَلَّ هذا الحديثُ على أنَّه يجِبُ على الجُندِ طاعةُ القائِدِ فيما يأمُرُهم به؛ لأنَّ مخالفةَ أوامِرِه من أعظَمِ أسبابِ الهزيمةِ، فإنَّ المُسلِمين لم ينهَزِموا في أُحُدٍ إلَّا بسَبَبِ مخالفتِهم كما أشار إلى ذلك القرآنُ الكريمُ في قولِه تعالى: وَلَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذَا فَشِلْتُمْ وَتَنَازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَعَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ مَا أَرَاكُمْ مَا تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيَا وَمِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَلَقَدْ عَفَا عَنْكُمْ وَاللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ * إِذْ تُصْعِدُونَ وَلَا تَلْوُونَ عَلَى أَحَدٍ وَالرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْرَاكُمْ فَأَثَابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلَا تَحْزَنُوا عَلَى مَا فَاتَكُمْ وَلَا مَا أَصَابَكُمْ وَاللَّهُ خَبِيرٌ بِمَا تَعْمَلُونَ * ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعَاسًا يَغْشَى طَائِفَةً مِنْكُمْ وَطَائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجَاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ مَا لَا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كَانَ لَنَا مِنَ الْأَمْرِ شَيْءٌ مَا قُتِلْنَا هَاهُنَا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلَى مَضَاجِعِهِمْ وَلِيَبْتَلِيَ اللَّهُ مَا فِي صُدُورِكُمْ وَلِيُمَحِّصَ مَا فِي قُلُوبِكُمْ وَاللَّهُ عَلِيمٌ بِذَاتِ الصُّدُورِ * إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعَانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطَانُ بِبَعْضِ مَا كَسَبُوا وَلَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ [آل عمران: 152-155] ، هذا كلُّه يُبَيِّنُ شُؤمَ التَّسَرُّعِ والتَّهَوُّرِ في ارتكابِ المنهيِّ عنه، وأنَّه يَعُمُّ ضَرَرُه من لم يقَعْ منه هذا الخَطَأُ [1564] يُنظَر: ((عمدة القاري)) للعيني (17/ 143)، ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (6/ 293)، ((منار القاري)) لحمزة محمد قاسم (4/ 339). .
2- ومنه تسَرُّعُ أسامةَ بنِ زيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما في قَتلِ مَن نَطَق بالشَّهادتينِ ظَنًّا منه أنَّه كان يقولُها حمايةً لنفسِه من القَتلِ؛ فعن أُسامةَ بنِ زيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما، قال: ((بعَثَنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إلى الحُرَقةِ، فصَبَّحْنا القومَ فهَزْمناهم، ولحِقتُ أنا ورجُلٌ من الأنصارِ رجُلًا منهم، فلمَّا غَشِيناه قال: لا إلهَ إلَّا اللهُ، فكَفَّ الأنصاريُّ فطعَنْتُه برُمحي حتَّى قتَلْتُه، فلمَّا قَدِمْنا بلغ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا أُسامةُ، أقتَلْتَه بعدَ ما قال لا إلهَ إلَّا اللهُ؟! قُلتُ: كان مُتعَوِّذًا، فما زال يُكَرِّرُها، حتى تمنَّيتُ أنِّي لم أكُنْ أسلَمْتُ قَبلَ ذلك اليومِ)) [1565] أخرجه البخاري (6872) واللفظ له، ومسلم (96). ، فالنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم كرَّر إنكارَه على أسامةَ لتسَرُّعِه وتعجُّلِه في قَتلِ الرَّجُلِ بعدَ أن نطَق الشَّهادةَ، ولأنَّه ترَك الاحتياطَ؛ فإنَّ الأحوطَ عدَمُ قتلِه، وأخبرَ أسامةُ رَضِيَ اللَّهُ عنه أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ما زال يُكَرِّرُها عليه حتَّى تمنَّى أنَّه لم يكُنْ أسلَم قبلَ ذلك اليومِ؛ لأنَّ الإسلامَ يجُبُّ ما قبلَه، واستصغر أسامةُ ما سبَق له قبلَ ذلك مِن عَمَلٍ صالحٍ في مقابلةِ هذه الفَعلةِ؛ لِمَا سَمِع من النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من الإنكارِ الشَّديدِ، وإنَّما أورد ذلك على سبيلِ المبالغةِ، وفي روايةٍ أُخرى قال أسامةُ رَضِيَ اللَّهُ عنه للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يا رسولَ اللَّهِ، استَغفِرْ لي، قال: وكيف تصنعُ بلا إلهَ إلَّا اللَّهُ إذا جاءت يومَ القيامةِ؟! قال: فجَعَل لا يزيدُه على أن يقولَ: كيف تصنَعُ بلا إلهَ إلَّا اللَّهُ إذا جاءت يومَ القيامةِ؟!)) [1566] أخرجه مسلم (97) من حديثِ جُندَبِ بنِ عبدِ اللهِ رَضِيَ اللهُ عنه. ، وعدَمُ استغفارِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم له نوعٌ من التَّأنيبِ له، وتخويفٌ لغيرِه من المُسلِمين، وإن كان أسامةُ هو حبيبَ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، إلَّا أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أبى أن يستغفِرَ له [1567] يُنظَر: ((الكواكب الدراري في شرح صحيح البخاري)) لشمس الدين الكرماني (16/ 125)، ((عمدة القاري)) للعيني (24/ 36)، ((فتح المنعم)) لموسى شاهين لاشين (1/ 324). .
3- وعندما تولَّى عُمَرُ بنُ عبدِ العزيزِ الخلافةَ جاءه ابنُه عبدُ المَلِكِ، وكان قويًّا ومتَحَمِّسًا من الأتقياءِ، فتخيَّل أنَّ أباه الخليفةَ متباطئٌ في التَّغييرِ، وحَملِ النَّاسِ على الحَقِّ، فقال: (يا أبتِ، ما لك لا تُنفِذُ الأمورَ؟! فواللَّهِ، ما أبالي لو أنَّ القدورَ قد غلت بي وبك في الحَقِّ، فأجابه الخليفةُ الرَّاشِدُ: لا تَعجَلْ يا بُنَيَّ؛ فإنَّ اللَّهَ قد ذمَّ الخَمرَ في القرآنِ مرَّتينِ، وحَرَّمها في الثَّالثةِ، وإنِّي أخافُ أن أحمِلَ الحقَّ على النَّاسِ جُملةً، فيَدفَعوه جُملةً، ويكونَ من هذا فِتنةٌ) [1568] يُنظَر: ((الموافقات للشاطبي)) (2/ 94). . فهذه قِصَّةٌ تجمَعُ بَيْنَ التَّعَجُّلِ والتَّسَرُّعِ في حملِ النَّاسِ على تطبيقِ الشَّريعةِ، وفيها أيضًا الحِكمةُ في علاجِ الأمورِ.
4- ومِن ذلك تهوُّرُ خوارِزم شاه الذي كان سبَبًا في اجتياحِ التَّتارِ للعالمِ الإسلاميِّ. قال ابنُ كثيرٍ: (قَتَل جَنْكِزخان من الخلائِقِ ما لا يعلَمُ عَدَدَهم إلَّا الذي خلَقَهم، ولكِنْ كان البداءةُ من خوارِزم شاه؛ فإنَّه لمَّا أرسل جَنْكِزخان تجَّارًا من جِهتِه معهم بضائعُ كثيرةٌ من بلادِه، فانتَهَوا إلى إيرانَ، فقَتَلهم نائبُها من جهةِ خوارِزم شاه، وهو والِدُ زوجتِه كشلي خان، وأخَذ جميعَ ما كان معهم.
فأرسَلَ جَنْكِزْخان إلى خوارِزم شاه يستعلِمُه: هل وقع هذا الأمرُ عن رضًا منه أو أنَّه لم يعلَمْ به فأنكَره؟ وقال له فيما أرسَلَ إليه: من المعهودِ من الملوكِ أنَّ التُّجَّارَ لا يُقتَلون؛ لأنَّهم عِمارةُ الأقاليمِ، وهم الذين يحمِلون إلى الملوكِ التُّحَفَ والأشياءَ النَّفيسةَ، ثمَّ إنَّ هؤلاء التُّجَّارَ كانوا على دينِك، فقتَلَهم نائبُك، فإن كان أمرًا أنكَرْتَه، وإلَّا طلَبْنا بدمائِهم. فلمَّا سَمِع خوارِزم شاه ذلك من رسولِ جَنْكِزخان لم يكُنْ له جوابٌ سِوى أنَّه أمَرَ بضَربِ عُنُقِه! فأساء التَّدبيرَ. وقد كان خَرِفَ وكَبِرَت سِنُّه... فلمَّا بلغ ذلك جَنْكِزخان تجهَّز لقتالِه وأخَذ بلادَه، فكان بقَدَرِ اللَّهِ تعالى ما كان من الأمورِ التي لم يُسمَعْ بأغرَبَ منها ولا أبشَعَ!) [1569] ((البداية والنهاية)) (17/ 163، 164(. .

انظر أيضا: