موسوعة الأخلاق والسلوك

سابعًا: مظاهِرُ وصُوَرُ الإفراطِ


1- الإفراطُ في تعظيمِ الصَّالحين ومحبَّتُهم والغُلُوُّ فيهم، وبناءُ الأضرِحةِ على قبورِهم، واتِّخاذُها مساجِدَ، والصَّلاةُ عندَها.
 عن أبي هُرَيرةَ، أنَّ رسولَ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((لعَن اللَّهُ اليهودَ والنَّصارى؛ اتَّخَذوا قبورَ أنبيائِهم مساجِدَ)) [717] أخرجه مسلم (530). .
 قال ابنُ القَيِّمِ: (والمقصودُ أنَّ هؤلاء المعَظِّمين للقُبورِ، والمتَّخِذينَها أعيادًا، الموقِدين عليها السُّرُجَ، الذين يَبنون عليها المساجِدَ والقِبابَ: مُناقِضون لِما أمَر به رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، محادُّون لِما جاء به، وأعظَمُ ذلك اتِّخاذُها مساجِدَ، وإيقادُ السُّرُجِ عليها، وهو مِن الكبائِرِ) [718] ((إغاثة اللهفان)) (3/946). .
2- الإفراطُ والغُلُوُّ في تعظيمِ رَسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بما لم يأذَنْ به الشَّرعُ، وقد حذَّر النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من ذلك؛ فعن ابنِ عبَّاسٍ، سَمِع عُمَرَ رَضِيَ اللَّهُ عنه يقولُ على المِنبَرِ: ((سَمِعتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يقولُ: لا تُطْرُوني كما أَطْرَتِ النَّصارى ابنَ مريمَ، فإنَّما أنا عبُده، فقولوا عبدُ اللَّهِ ورَسولُه)) [719] أخرجه البخاري (3445). .
قال الكرمانيُّ: (قَولُه: «لا تُطْروني» الإطراءُ: المدحُ بالباطِلِ، وذلك لأنَّهم اتَّخَذوه أي: عيسى عليه السَّلام إلهًا؛ حيث قالوا: ثالِثُ ثلاثةٍ، ودَعَوه ولدًا له حيثُ قالوا: المسيحُ ابنُ اللَّهِ! تعالى اللَّهُ عمَّا يُشرِكون، وذلك من إفراطِهم في مَدحِه) [720] ((الكواكب الدراري)) (14/86). ويُنظَر: ((أعلام الحديث)) (3/ 1561). .
وقال ابنُ الملَقِّنِ: («لا تُطْروني»: أي: لا تَصِفوني بما ليس بي من الصِّفاتِ، تَلتَمِسون بذلك مدحي، كما وصَفَت النَّصارى عيسى بما لم يكُنْ فيه، فنَسَبوه إلى البُنُوَّةِ، فكَفَروا بذلك وضَلُّوا، فأمَّا وصفُه بما فضَّله اللَّهُ به وشَرَّفه فحَقٌّ واجِبٌ على كُلِّ مَن بعثه اللَّهُ إليه مِن خَلقِه) [721] ((التوضيح)) (28/401). .
3- الإفراطُ في المدحِ، وقد نهى النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن ذلك وحذَّر منه؛ فعن عبدِ الرَّحمنِ بنِ أبي بَكرةَ، عن أبيه، قال: ((أثنى رجلٌ على رجُلٍ عِندَ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: وَيلَك! قطَعْتَ عُنُقَ صاحِبِك، قطَعْتَ عُنُقَ صاحِبِك! مرارًا، ثمَّ قال: مَن كان منكم مادِحًا أخاه لا محالةَ، فلْيَقُلْ: أحسَبُ فلانًا، واللَّهُ حسيبُه، ولا أزكِّي على اللَّهِ أحَدًا، أحسَبُه كذا وكذا، إن كان يعلَمُ ذلك منه)) [722] أخرجه البخاري (2662) واللفظ له، ومسلم (3000). .
 قال العَينيُّ: (الحديثُ يدُلُّ على أنَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم اعتبَرَ تزكيةَ الرَّجُلِ إذا اقتَصَد ولا يتغالى، ولم يَعِبْ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عليه إلَّا الإغراقَ والغُلُوَّ في المدحِ) [723] ((عمدة القاري)) (13/ 237). .
4- الإفراطُ في العبادةِ والتَّشديدُ على النَّفسِ بتَركِ ما أحلَّه اللَّهُ.
عن أنَس بن مالكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه قال: ((جاء ثلاثةُ رَهطٍ إلى بُيوتِ أزواجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يسألونَ عن عبادةِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فلمَّا أُخبروا كأنَّهم تَقالُّوها، فقالوا: وأين نحن من النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم؟ قد غُفِر له ما تَقَدَّمَ مِن ذَنبِه وما تأخَّر، قال أحدُهم: أمَّا أنا فإنِّي أصَلِّي اللَّيلَ أبدًا، وقال آخَرُ: أنا أصومُ الدَّهرَ ولا أُفطِرُ، وقال آخَرُ: أنا أعتَزِلُ النِّساءِ فلا أتزوَّجُ أبدًا، فجاء رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم إليهم، فقال: أنتم الذين قُلتُم كذا وكذا؟! أمَا واللَّهِ إنِّي لأخشاكم للهِ وأتقاكم له، لكنِّي أصومُ وأُفطِرُ، وأُصَلِّي وأرقُدُ، وأتزَوَّجُ النِّساءَ، فمَن رَغِبَ عن سُنَّتي فليس مني)) [724] أخرجه البخاري (5063) واللفظ له، ومسلم (1401). .
قال ابنُ عُثَيمين: (ففي هذا دليلٌ على أنَّه ينبغي للإنسانِ أن يقتَصِدَ في العبادةِ، بل ينبغي له أن يقتَصِدَ في جميعِ أمورِه؛ لأنَّه إن قَصَّر فاته خيرٌ كثيرٌ، وإن شَدَّد فإنَّه سوف يَكِلُّ ويَعجِزُ ويَرجِعُ؛ ولهذا ينبغي للإنسانِ أن يكونَ في أعمالِه كُلِّها مقتَصِدًا) [725] ((شرح رياض الصالحين)) (2/217، 218). .
6- إفراطُ أهلِ البِدَعِ والضَّلالِ ممَّن غَلَوا في فَهمِ النُّصوصِ، وجانبوا فَهمَ العُلَماءِ؛ فقَيَّض اللَّهُ سُبحانَه لهم من يَرُدُّ عليهم ويكشِفُ زَيفَ أفهامِهم.
فعن إبراهيمَ بنِ عبدِ الرَّحمنِ العُذريِّ قال: ((قال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: يحمِلُ هذا العِلمَ مِن كُلِّ خَلَفٍ عُدولُه، يَنفون عنه تحريفَ الغالين، وانتحالَ المُبطِلين، وتأويلَ الجاهِلين)) [726] أخرجه البيهقي (21439) باختلافٍ يسيرٍ، وأبو نعيم في ((معرفة الصحابة)) (732)، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (7/38) واللفظ لهما. صحَّحه الإمام أحمد كما في ((تاريخ دمشق)) لابن عساكر (7/39). .
قال المُلَّا علي القاري: («تحريفُ الغالين»، أي: المبتَدِعةِ الذين يتجاوَزون في كتابِ اللَّهِ وسُنَّةِ رَسولِه عن المعنى المرادِ، فينحَرِفون عن جهتِه، كأقوالِ القَدَريَّةِ والجَبريَّةِ والمُشَبِّهةِ) [727] ((مرقاة المفاتيح)) (1/322). .
7- الإفراطُ في الحُكمِ على الآخَرين دونَ سَنَدٍ، كما وقَع بَيْنَ اليهودِ والنَّصارى، فأخبَرَ سُبحانَه أنَّ كُلَّ واحدٍ من الفريقينِ يُكفِّرُ الآخَرَ، ويُنكِرُ ما معه من الحَقِّ.
قال تعالى: وَقَالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصَارَى عَلَى شَيْءٍ وَقَالَتِ النَّصَارَى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلَى شَيْءٍ وَهُمْ يَتْلُونَ الْكِتَابَ كَذَلِكَ قَالَ الَّذِينَ لَا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيَامَةِ فِيمَا كَانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ [البقرة: 113] .
وهذا من الإفراطِ الذي شابَههم فيه أصحابُ الفِرَقِ المبتَدِعةِ من المُسلِمين؛ حيثُ يتبرَّأُ كُلُّ فريقٍ من مخالفيه، وإن كانوا من أهلِ المِلَّةِ يشارِكونهم في أصولِ الدِّينِ وقواعِدِه! وهذا من الظُّلمِ الواضِحِ البَيِّنِ، ويتدَرَّجُ ذلك إلى الغُلُوِّ في التَّكفيرِ كما هو حالُ الخوارجِ وغيرِهم من جماعاتِ التَّكفيرِ الذين يُكَفِّرون عُصاةَ المُسلِمين ويُخرِجونهم من دائرةِ الإسلامِ إلى الكُفرِ.
8- الإفراطُ والشَّطَطُ في العداوةِ والكراهيةِ النَّاتجةِ عن الجَهلِ بأحكامِ الشَّرعِ، المُفضيةِ إلى استحلالِ الدِّماءِ المعصومةِ، كما هو حالُ المبتَدِعةِ من الخوارجِ الذين حذَّر منهم ومن غُلُوِّهم رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، حتَّى قال فيهم: ((يَقتُلون أهلَ الإسلامِ ويَدَعون أهلَ الأوثانِ)) [728] أخرجه البخاري (3344)، ومسلم (1064) مطوَّلًا من حديثِ أبي سعيدٍ الخُدريِّ رَضِيَ اللهُ عنه. .
قال ابنُ الجَوزيِّ: (قولُه: ((يَقتُلون أهلَ الإسلامِ ويَدَعون أهلَ الأوثانِ)) هذا من تسويلِ الشَّيطانِ للقومِ وتزيينِه لهم؛ فإنَّه لمَّا أحسَّ بقِلَّةِ عُقولِهم مَلَكها) [729] ((كشف المشكل)) (3/ 120). .
9- الإفراطُ على النَّفسِ في العِصيانِ بالتَّمادي فيه، والإصرارِ عليه، وارتِكابِ الكبائِرِ من الذُّنوبِ، مع تَركِ محاسبةِ النَّفسِ أو الشُّعورِ بالنَّدَمِ.
قال تعالى: قُلْ يَا عِبَادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلَى أَنْفُسِهِمْ لَا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعًا إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ [الزمر: 53] .
قال الشَّوكانيُّ: (المرادُ بالإسرافِ الإفراطُ في المعاصي والاستِكثارُ منها) [730] ((فتح القدير)) (4/667). .
10- الإفراطُ الواقِعُ من القائِمِ على أموالِ اليتامى، المنوطِ بحِفظِها لهم من الضَّياعِ، وهو إفراطٌ مذمومٌ؛ لأنَّه من خيانةِ الأمانةِ التي أذِنَ اللَّهُ له في الأكلِ والأخذِ منها، وقد نهى اللَّهُ سُبحانَه عن ذلك وحَذَّر منه.
قال تعالى: وَابْتَلُوا الْيَتَامَى حَتَّى إِذَا بَلَغُوا النِّكَاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْدًا فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ وَلَا تَأْكُلُوهَا إِسْرَافًا وَبِدَارًا أَنْ يَكْبَرُوا وَمَنْ كَانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَمَنْ كَانَ فَقِيرًا فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذَا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوَالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَكَفَى بِاللَّهِ حَسِيبًا [النساء: 6] .
قال الزَّمخشريُّ: (إِسْرَافًا وَبِدَارًا: مُسرِفين ومبادِرينَ كِبَرَهم، أو لإسرافِكم ومبادرتِكم كِبَرَهم، تُفْرِطون في إنفاقِها، وتقولون: نُنفِقُ كما نشتهي قبلَ أن يَكبَرَ اليتامى فينتَزِعوها من أيدينا!) [731] ((الكشاف)) (1/474). .
فالمُفرِطون في أموالِ اليتامى هم الذين يأكُلون أموالَ اليتامى متجاوِزين الحدَّ الذي أحَلَّه اللَّهُ لهم.
11- الإفراطُ في النَّومِ والطَّعامِ والمخالطةِ والسَّهرِ وغيرِ ذلك.
قال ابنُ القَيِّمِ: (قَسوةُ القَلبِ من أربعةِ أشياءَ إذا جاوَزَت قَدْرَ الحاجةِ: الأكلُ، والنَّومُ، والكلامُ، والمخالطةُ) [732] ((الفوائد)) (ص: 97). .
وقال أيضًا: (العَدلُ هو الأخذُ بالوَسَطِ الموضوعِ بَيْنَ طرَفَيِ الإفراطِ والتَّفريطِ، وعليه بناءُ مصالحِ الدُّنيا والآخِرةِ، بل لا تقومُ مَصلَحةُ البدنِ إلَّا به، وكذلك الأفعالُ الطَّبيعيَّةُ، كالنَّومِ والسَّهَرِ والأكلِ والشُّربِ والِجماعِ والحَركةِ والرِّياضةِ والخَلوةِ والمخالطةِ وغيرِ ذلك، إذا كانت وسَطًا بَيْنَ الطَّرفينِ المذمومينِ كانت عَدلًا، وإن انحرَفَت إلى أحَدِهما كانت نقصًا وأثمَرَت نقصًا) [733] ((الفوائد)) (ص: 141) بتصَرُّفٍ. .
12- الإفراطُ في الحَلِفِ.
قال ابنُ قُدامةَ: (يُكرَهُ الإفراطُ في الحَلِفِ باللَّهِ تعالى؛ لقَولِ اللَّهِ تعالى: وَلَا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ [القلم: 10] ، وهذا ذمٌّ له يقتضي كراهةَ فِعلِه، فإن لم يخرُجْ إلى حَدِّ الإفراطِ فليس بمكروهٍ، إلَّا أن يقتَرِنَ به ما يوجِبُ كراهتَه) [734] ((المغني)) (9/ 489). .

انظر أيضا: