موسوعة الأخلاق والسلوك

سادسًا: مظاهِرُ وصُوَرُ الوَقارِ والرَّزانةِ


1- في المَشيِ إلى الصَّلاةِ بلا تَسَرُّعٍ ولا عَجَلةٍ، بل يمشي إليها ساكِنًا رزينًا، غاضًّا لبَصَرِه، تارِكًا الالتِفاتَ.
 عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عنه، عن النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إذا سمِعتُم الإقامةَ فامشوا إلى الصَّلاةِ، وعليكم بالسَّكينةِ والوَقارِ، ولا تُسرِعوا، فما أدرَكْتُم فصَلُّوا، وما فاتكم فأتِمُّوا)) [9748] أخرجه البخاري (636) واللفظ له، ومسلم (602). .
قال النَّوويُّ: (السَّكينةُ والوَقارُ قيل: هما بمعنًى، وجُمع بَيْنَهما تأكيدًا، والظَّاهِرُ أنَّ بَيْنَهما فرقًا، وأنَّ السَّكينةَ: التَّأنِّي في الحَرَكاتِ، واجتنابُ العَبَثِ، ونحوُ ذلك، والوَقارُ في الهيئةِ وغَضِّ البَصَرِ، وخَفضِ الصَّوتِ، والإقبالِ على طريقِه بغيرِ التِفاتٍ، ونحوِ ذلك) [9749] ((شرح النووي على مسلم)) (5/100). .
2- في الصَّلاةِ، وذلك بألَّا يتلفَّتَ فيها ولا يعبَثَ ولا يتحَرَّكَ، بل يستجمِعُ قَلبَه وعَقلَه، فهذا هو اللَّائِقُ بهذه العبادةِ العظيمةِ.
عن الحارِثِ الأشعَريِّ رَضِيَ اللهُ عنه، أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قال: ((إنَّ اللهَ أمَر يحيى بنَ زكريَّا بخَمسِ كَلِماتٍ: أن يعمَلَ بها ويأمُرَ بني إسرائيلَ أن يعمَلوا بها... وإنَّ اللهَ أمَركم بالصَّلاةِ، فإذا صلَّيتُم فلا تلتَفِتوا؛ فإنَّ اللهَ ينصِبُ وَجهَه لوَجهِ عَبدِه في صلاتِه ما لم يلتفِتْ)) [9750] أخرجه الترمذي (2863) واللفظ له، وأحمد (17800). صحَّحه ابنُ خزيمة (483)، وابنُ حبان في ((صحيحه)) (6233)، والحاكم في ((المستدرك)) (863)، وقال الترمذي: حسَنٌ صحيحٌ غريبٌ. .
3- في نَقلِ الأخبارِ؛ فالرَّزينُ لا ينقُلُ الخبَرَ قبلَ أن يتأكَّدَ من صِحَّتِه، ولا يسارِعُ بتصديقِ أمرٍ قبلَ أن يجِدَ دليلًا على صِحَّتِه؛ فإنَّ نَقْلَه للأخبارِ قبلَ تأكُّدِه من صِحَّتِها داخِلٌ في آفةِ الكَذِبِ.
عن عُمَرَ بنِ الخطَّابِ رَضِيَ اللهُ تعالى عنه، قال: ((بحَسْبِ المرءِ من الكَذِبِ أن يحَدِّثَ بكُلِّ ما سَمِع)) [9751] أخرجه مِن طُرُقٍ: البخاري في ((الأدب المفرد)) (884)، ومسلم في ((مقدمة الصحيح)) (5) واللفظ له. صحَّحه الألباني في ((صحيح الأدب المفرد)) (679)، وصحَّح إسنادَه ابنُ كثير في ((مسند الفاروق)) (2/626). .
قال النَّوويُّ: (معناه: يكفيه ذلك من الكَذِبِ؛ فإنَّه قد استكثَر منه، وأمَّا معنى الحديثِ والآثارِ التي في البابِ، ففيها الزَّجرُ عن التَّحديثِ بكُلِّ ما سمع الإنسانُ؛ فإنَّه يسمَعُ في العادةِ الصِّدقَ والكَذِبَ، فإذا حدَّث بكُلِّ ما سمع فقد كذَب لإخبارِه بما لم يكُنْ، وقد تقدَّم أنَّ مذهَبَ أهلِ الحَقِّ أنَّ الكَذِبَ الإخبارُ عن الشَّيءِ بخلافِ ما هو، ولا يُشتَرَطُ فيه التَّعمُّدُ) [9752] ((شرح النووي على مسلم)) (1/75). .
4- في الهيئةِ؛ فسَمتُ الإنسانِ الرَّزينِ تعلوه الهَيبةُ والوَقارُ، فهو هادِئُ الطَّبعِ، إذا ضَحِك كان ضَحِكُه تبسُّمًا، لا قَهقَهةً أو اهتزازًا في جِلستِه، أو خروجًا عن الحَدِّ.
عن عائِشةَ رَضِيَ الله عنها قالت: ((ما رأيتُ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم مُستجمِعًا قَطُّ ضاحكًا، حتَّى أرى منه لهَواتِه، إنَّما كان يتبَسَّمُ)) [9753] أخرجه البخاري (6092) واللفظ له، ومسلم (899) مطوَّلًا. .
 قال ابنُ بطَّالٍ: (كان عليه السَّلامُ في أكثَرِ أحوالِه يبتَسِمُ، وكان أيضًا يضحَكُ في أحوالٍ أُخَرَ ضَحِكًا أعلى من التَّبسُّمِ، وأقلَّ من الاستغراقِ الذي تبدو فيه اللَّهَواتُ، هذا كان شأنَه، وكان في النَّادِرِ عِندَ إفراطِ تعَجُّبِه رُبَّما ضَحِك) [9754] ((شرح صحيح البخاري)) (9/278). .
5- في المجلِسِ، وقد قيل لابنِ هُبَيرةَ: ما المروءةُ؟ قال: (إصلاحُ المالِ، والرَّزانةُ في المجلِسِ) [9755] ((عيون الأخبار)) لابن قتيبة (1/412). .
وقال عبدُ العزيزِ السَّلمانُ: (اتَّخِذ لنَفسِك السُّكونَ وقِلَّةَ الحرَكةِ؛ ليتحقَّقَ عِندَ النَّاسِ ثباتُك، ولأنَّه يدُلُّ على رزانةِ العَقلِ) [9756] ((موارد الظمآن لدروس الزمان)) (4/637). .
6- في المِشْيةِ، وذلك بالتَّوسُّطِ فيها، فلا يمشي مِشيةَ المتماوِتِ، ولا يمشى قَفزًا فيبدوَ عليه السَّفَهُ، وإنَّما مِشيتُه بالسَّكينةِ والوَقارِ.
وهذه هي المِشْيةُ التي أوصى لقمانُ ابنَه بها، كما في قَولِه تعالى: وَاقْصِدْ فِي مَشْيِكَ [لقمان: 19] .
أي: وتوسَّطْ واعتَدِلْ في مِشيتِك، بلا تكبُّرٍ ولا استعجالٍ، بل امْشِ بسَكينةٍ ووَقارٍ ورَزانةٍ وتواضُعٍ، بلا سُرعةٍ ولا تباطُؤٍ [9757] ((البحر المديد)) لابن عجيبة (4/ 373)، ((التفسير المحرر - الدرر السنية)) (24/335). .
7- الرَّزانةُ في تصَرُّفاتِه، وصيانتُه لعُمُرِه وأوقاتِه، بحِرصِه على البُعدِ عن مواطِنِ السُّوءِ، فلا يشهَدُ المواطِنَ التي يكونُ فيها الأقوالُ الكاذِبةُ والأفعالُ القبيحةُ، ولا يُضَيِّعُ وقتَه فيما لا نَفعَ ولا ثمَرةَ تُرجى منه، فذلك فِعلُ العاطِلين اللَّاهين.
قال تعالى: وَالَّذِينَ لَا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَإِذَا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِرَامًا [الفرقان: 72] .
قال ابنُ عُثَيمين: (ذلك أنَّ الأشياءَ إمَّا خيرٌ وإمَّا شَرٌّ وإمَّا لَغوٌ؛ فالشَّرُّ لا يَشهَدونه، واللَّغوُ يَسلَمون منه ويمُرُّون به كِرامًا، والخَيرُ يَرتَعون فيه) [9758] ((شرح رياض الصالحين)) (4/92). .
8- في اتِّخاذِ القَرارِ؛ فالرَّزينُ لا يتَّخِذُ قرارًا إلَّا بعدَ تفكيرٍ وتعقُّلٍ ونَظَرٍ في العواقِبِ، ولا يحمِلُه غضَبُه على التَّسرُّعِ في قَرارٍ يُورِثُه النَّدَمَ، كحالِ مَن طَلَّق امرأتَه، وأقسَم أن تخرُجَ من بيتِه وألَّا تبيتَ فيه، فهذا الفِعلُ مخالِفٌ لأمرِ اللهِ سُبحانَه ببقاءِ المُطَلَّقةِ في بيتِها ما دامت في عِدَّتِها.
قال تعالى: لَا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَلَا يَخْرُجْنَ إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفَاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ [الطلاق: 1] . بالإضافةِ إلى أنَّ ذلك يوسِّعُ هُوَّةَ الخلافِ بَيْنَ الزَّوجينِ، ويُقلِّلُ مِن فُرَصِ المراجَعةِ.
وقد قال ابنُ حِبَّان: (الخائِبُ مَن خاب عن الأناةِ، والعَجِلُ مُخطِئٌ أبدًا، كما أنَّ المتثَبِّتَ مصيبٌ أبدًا) [9759] ((روضة العقلاء)) (ص: 218). .
وقال ابنُ الجَوزيِّ: (ما اعتَمَد أحدٌ أمرًا إذا هَمَّ بشيءٍ مِثلَ التَّثبُّتِ؛ فإنَّه متى عَمِل بواقعةٍ من غيرِ تأمُّلٍ للعواقِبِ، كان الغالِبُ عليه النَّدَمَ، ولهذا أمَر بالمشاوَرةِ؛ لأنَّ الإنسانَ بالتَّثبُّتِ يفتَكِرُ، فتَعرِضُ على نفسِه الأحوالُ، وكأنَّه شاوَر، وقد قيل: خميرُ الرَّأيِ خَيرٌ من فَطيرِه، وأشدُّ النَّاسِ تفريطًا من عَمِل مبادرةً في واقعةٍ من غيرِ تثبُّتٍ ولا استشارةٍ، خُصوصًا فيما يوجِبُه الغَضَبُ، فإنَّه طَلَبُ الهلاكِ أو النَّدمُ العظيمُ) [9760] ((صيد الخاطر)) (ص: 385). .
9- الرَّزانةُ في النَّفَقاتِ، وذلك بالتَّدبيرِ في التَّصريفِ والإنفاقِ، فلا يُنفِقُ في طُرُقٍ محَرَّمةٍ، أو طرُقٍ غيرِ نافعةٍ، أو يُسرِفُ في النَّفَقاتِ المباحةِ، أو يُقَتِّرُ.
قال تعالى: وَالَّذِينَ إِذَا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَلَمْ يَقْتُرُوا وَكَانَ بَيْنَ ذَلِكَ قَوَامًا [الفرقان: 67] .
(فحُسنُ التَّدبيرِ في كَسْبِ الأرزاقِ، وحُسنُ التَّدبيرِ في الإنفاقِ والتَّصريفِ، والحِفظِ، وتوابعِ ذلك: دليلٌ على كَمالِ عَقلِ الإنسانِ ورزانتِه ورُشدِه، وضِدُّ ذلك: دليلٌ على نُقصانِ عَقلِه، وفسادِ لُبِّه) [9761] ((بهجة قلوب الأبرار)) للسعدي (ص: 161). .
10- الرَّزانةُ في مسالَمةِ النَّاسِ، باستِعمالِ الحِلمِ والصَّبرِ، والعَفوِ والصَّفحِ معهم.
عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ الله عنهما: (أنَّ هذه الآيةَ التي في القُرآنِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الأحزاب: 45] ، قال في التَّوراةِ: يا أيُّها النَّبيُّ إنَّا أرسَلْناك شاهِدًا ومُبَشِّرًا وحِرزًا للأُمِّيِّين [9762] أي: حِصنًا للأمِّيِّينَ، وهم العَرَبُ، أي: يحوطهم. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 104)، ((عمدة القاري شرح صحيح البخاري)) للعيني (19/ 178). ، أنت عبدي ورسولي، سمَّيتُك المتوَكِّلَ، ليس بفَظٍّ ولا غليظٍ، ولا سَخَّابٍ [9763] السَّخَّابُ: الكثيرُ الصِّياحِ والجَلَبةِ. يُنظَر: ((التوضيح لشرح الجامع الصحيح)) لابن الملقن (14/ 295). بالأسواقِ، ولا يدفعُ السَّيِّئةَ بالسَّيِّئةِ، ولكِنْ يعفو ويَصفَحُ، ولن يقبِضَه اللهُ حتَّى يُقيمَ به المِلَّةَ العَوجاءَ، بأن يقولوا: لا إلهَ إلَّا اللهُ، فيفتَحَ بها أعيُنًا عُميًا، وآذانًا صُمًّا، وقُلوبًا غُلفًا) [9764] أخرجه البخاري (4838). .
و(كان صَلَواتُ اللهِ عليه يَغرِسُ في نُفوسِ المُسلِمين دومًا خُلُقَ العَفوِ والتَّسامُحِ، وإن قوبِلوا بالصَّدِّ والإعراضِ والقطيعةِ؛ إذ كان يدرِكُ بثاقِبِ نظرتِه التَّربويَّةِ التي زوَّده اللهُ بها أنَّ النَّاسَ يستجيبون بالخُلُقِ العالي السَّمْحِ أكثَرَ ممَّا يَستجيبون بالشِّدَّةِ والقطيعةِ والعُنفِ) [9765] ((شخصية المسلم)) لمحمد علي الهاشمي (ص: 189). .
11- الرَّزانةُ بالرُّقِيِّ في التَّعامُلِ، ومراعاةِ مَشاعِرِ الآخَرين؛ فكَلِمةٌ واحِدةٌ تخرُجُ بغيرِ حِسابٍ قد تجرَحُ بها مشاعِرَ غَيرِك وتؤذيه ولو في أمرٍ يسيرٍ، كأن تعيبَ طَعامًا تَعِبَ غيرُك في إعدادِه لك، فمِنَ الرَّزانةِ -إن لم تكُنْ شاكِرًا لِمن أعَدَّه لك- أن تَسكُتَ ولا تعيبَه، وهكذا كان خُلُقِ نبيِّنا صلَّى اللهُ عليه وسلَّم.
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ الله عنه قال: ((ما عاب النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم طعامًا قَطُّ، إن اشتهاه أكَلَه، وإلَّا تَرَكه)) [9766] أخرجه البخاري (3563) واللفظ له، ومسلم (2064). .
 و(في تعييبِ الطَّعامِ كَسْرٌ لقَلبِ صاحِبِه، وفي مَدْحِه الثَّناءُ على اللهِ سُبحانَه وتعالى وجَبرٌ لقَلبِ صاحِبِه) [9767] ((تطريز رياض الصالحين)) لفيصل المبارك (ص: 470). .

انظر أيضا: