موسوعة الأخلاق والسلوك

هـ- القناعةُ عندَ العُلَماءِ المُعاصِرينَ


محمَّد الأمين بنُ محمَّد المُختار الشِّنْقيطيُّ:
كان الشِّنقيطيُّ قَنوعًا بما رزقَه اللهُ، زاهدًا في الدُّنيا، عفيفًا عمَّا في أيدي النَّاسِ، كريمًا بما يملِكُ. وقد ذكَر عنه بعضُ أقارِبِه وطُلَّابِه شيئًا من قناعتِه وزُهدِه، نَذكُرُ طَرَفًا منها:
قال عنه ابنُه عبدُ اللهِ: (كان رحمه اللهُ لا يريدُ الدُّنيا، ولا يهتَمُّ بها، ويحرِصُ على الاقتصادِ. ويقولُ: الذي يُفرِحُنا أنَّ الدُّنيا لو كانت مَيتةً لأباح اللهُ منها سَدَّ الخَلَّةِ! وكان يقولُ: لم أقتَرِضْ قَطُّ لأحدٍ، ولم أبِعْ، ولم أشتَرِ، وتَرَك لي والدي ثروةً، فكُنتُ أعيشُ منها، وكان عندي كنزٌ عظيمٌ أرجو اللهَ ألَّا يضيعَ منِّي، هو القناعةُ!
وقال عنه أيضًا: إنَّه كان في المدينةِ وكان لا يوجَدُ عِندَه أيُّ مالٍ، وقد وعده أحدُ جيرانِه أن يقتَرِضَ له مالًا. ولمَّا أراد الشَّيخُ رحمه اللهُ أن يأتيَه وَجَده يشتَغِلُ، وعليه ملابِسُ مُتبَذِّلةٌ، فرجع عنه وكأنَّه وجد في نفسِه قليلًا أنَّه في عازةٍ. قال: ولم أشعُرْ حتَّى خرَرْتُ ساجدًا في الطَّريقِ في الغُبارِ، ورفعتُ رأسي وعندي فرَحٌ ونشوةٌ لا يعلَمُها إلَّا اللهُ إكرامًا لِما أعطاني من العِلمِ، فكيف أريدُ دنيا، وربي أكرمني بالعِلمِ، وبفَهمِ كتابِ اللهِ، فذهَبْتُ إلى البيتِ وكأنَّ الدُّنيا كمَلَت لي؛ لاستشعاري نعمةَ اللهِ علَيَّ بما أعطاني من فَهمِ القرآنِ. وقد سَدَّ اللهُ لي تلك الحاجةَ من غيرِ أن أسألَ أحدًا، ونذهَبَ لأحدٍ، إكرامًا منه وفضلًا) [7731] ((جهود الشيخ محمد الأمين الشنقيطي في تقرير عقيدة السلف)) لعبد العزيز الطويان (1/38). .
وقال عنه عطيَّة سالم: (والواقِعُ أنَّ الدُّنيا لم تكُنْ تساوي عنده شيئًا، فلم يكُنْ يهتَمُّ لها. ومنذُ وُجودِه في المملَكةِ وصِلتِه بالحُكومةِ حتَّى فارَق الدُّنيا لم يطلُبْ عطاءً ولا مُرتَّبًا ولا تَرفيعًا لمُرتَّبِه، ولا حُصولًا على مُكافأةٍ أو عِلاوةٍ، ولكن ما جاءه مِن غَيرِ سُؤالٍ أخَذه، وما حصَل عليه لم يكنْ يستبقيه، بل يُوزَّعُ في حينِه على المُعوِزينَ مِن أرامِلَ ومُنقطِعينَ، ومات ولم يُخلِّفْ دِرهمًا ولا دينارًا، وكان مُستغنيًا بعفَّتِه وقَناعتِه، بل إنَّ حقَّه الخاصَّ لَيترُكُه تعفُّفًا عنه، كما فعَل في مُؤلَّفاتِه وهي فريدةٌ في نَوعِها، لم يقبَلِ التَّكسُّبَ بها، وتَركها لطَلبةِ العِلمِ.
وقال مرَّةً: لقد جئْتُ معي مِن البلادِ بكَنزٍ عظيمٍ يكفيني مدى الحياةِ، وأخشى عليه الضَّياعَ، فقلْتُ له: وما هو؟ قال: القَناعةُ، وكان شِعارُه في ذلك قولَ الشَّاعِرِ:
الجوعُ يُطرَدُ بالرَّغيفِ اليابِسِ
فعلامَ تكثُرُ حَسرتي ووَساوِسي) [7732] ((مع صاحب الفضيلة والدنا الشيخ محمد الأمين الشنقيطي رحمه الله)) (ص: 54). .
عبدُ الرَّحمنِ بنُ ناصِرٍ السَّعديُّ:
وممَّا جاء في ذِكرِ قناعتِه: (لمَّا كان النَّاسُ منذُ ستِّين سنةً في شِدَّةٍ وضَعفٍ وقِلَّةِ ذاتِ اليدِ، حتَّى إنَّ الأسرةَ التي تمتَلِكُ بَقَرةً تعتَبَرُ عائلةً غنيَّةً أو ميسورةَ الحالِ من وجهةِ نَظَرِهم! ومع ذلك فقد كان رحمه اللهُ يتورَّعُ عن أخذِ الأَعْطياتِ والأوقافِ والرَّواتِبِ المخصَّصةِ لإمامةِ الجامِعِ الكبيرِ بعُنَيزةَ، وكانت تُقَدَّرُ بأكثَرَ من 500 وزنةٍ من التَّمرِ! فأشار عليه أصدقاؤه ومُستشاروه -ومنهم عبدُ العزيزِ المحمَّد العوهليُّ رحمه اللهُ- بأخذِ المخَصَّصِ لإمامةِ الجامِعِ وعَدَمِ تَركِه، وأن يكونَ التَّصرُّفُ به عن طريقِهم لأعمالِ البِرِّ والخيرِ، فتردَّد قليلًا رحمه الله، ثمَّ استأنس برأيِهم، ووافقهم على ذلك، فكانوا يأخُذونَه ويُنفِقونه في أعمالِ البِرِّ بمشورتِه وإشرافِه!) [7733] ((مواقف اجتماعية من حياة الشيخ العلامة عبد الرحمن بن ناصر السعدي)) لولده وحفيده (ص: 94). .
ابنُ بازٍ:
يقولُ عنه أحَدُ تلامذتِه: (لا يكادُ يُعرَفُ في زمانِنا هذا أزهَدُ من سماحةِ الشَّيخِ عبدِ العزيزِ بنِ بازٍ، مع أنَّ الدُّنيا تُقبِلُ عليه، وتتزَيَّنُ له، إلَّا أنَّه زاهدٌ بها، مُشيحٌ بوجهِه عنها، فلا أذكُرُ في يومٍ من الأيَّامِ أنَّه سأل عن راتِبِه ولا عن مقدارِه، ولا عن زيادتِه، ولا عن وقتِ مجيئِه، ولا أذكُرُ أنَّه سأل عن انتدابِه، أو عن رصيدِه أو حسابِه، لا يسألُ عن ذلك ولا يعبأُ به، ولا أذكُرُ أنَّه تكلَّم ببيعٍ أو شراءٍ، أو أمرٍ من أمورِ الدُّنيا إلَّا على سبيلِ السُّؤالِ عن حاجةِ أحَدٍ، أو الشَّفاعةِ له، بل كان كثيرَ الوصيَّةِ بالتَّحذيرِ من الاغترارِ بالدُّنيا، وسماحةُ الشَّيخِ كان يعيشُ عيشةَ القناعةِ والزُّهدِ والكَفافِ؛ فلم يكُنْ يمسِكُ شيئًا من حُطامِ الدُّنيا، ولم يكُنْ يتطَلَّعُ إلى مالٍ أو جاهٍ أو منصِبٍ، بل كان يُنفِقُ إنفاقَ من لا يخشى الفَقرَ، وكان زاهِدًا بالجاهِ والمراتِبِ، والمديحِ وحُبِّ الذِّكرِ، ولم أسمَعْ منه أو عنه أنَّه مال في يومٍ من الأيَّامِ إلى الدُّنيا، أو طَلَب شيئًا من مُتَعِها، وكان يكرَهُ الحديثَ في تغييرِ أثاثِ مَنزِلِه، أو سَيَّارتِه، أو أن يقالَ له: عندك كذا وكذا، وكان يكرَهُ الخوضَ في الأحاديثِ الدُّنيويَّةِ البحتةِ التي ليس من ورائِها مصلحةٌ للمُسلِمين، أو للدَّعوةِ) [7734]  ((جوانب من سيرة الإمام عبد العزيز بن باز رحمه الله)) لمحمد بن إبراهيم الحمد (ص: 154). .

انظر أيضا: