موسوعة الأخلاق والسلوك

ب- القناعةُ عندَ الصَّحابةِ رَضِيَ اللهُ عنهم


لقد سار صحابةُ رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم على ما كان عليه، واتَّبَعوا آثارَه، وتخلَّقوا بأخلاقِه، وعاشُوا التَّقشُّفَ [7703] القَشْفُ: شِدَّةُ العيشِ، والمتقَشِّفُ: الذي يتبلَّغُ بالقوتِ وبالمُرَقَّعِ. يُنظَر: ((مختار الصحاح)) لزين الدين الرازي (ص: 254)، ((طلبة الطلبة)) للنسفي (88). والزُّهدَ في أوَّلِ أمرِهم؛ نظرًا لقِلَّةِ ذاتِ اليدِ، ثمَّ انتشر الإسلامُ وجاءَتهم الغنائمُ وفتح اللهُ عليهم، فلم تؤثِّرْ هذه الأموالُ التي اكتسبوها من الغنائمِ على زُهْدِهم، ولم يتعَلَّقوا بالدُّنيا، إنما كان تعلُّقُهم بالآخرةِ، ونذكُرُ بعضَ النَّماذجِ من قناعةِ الصَّحابةِ:
- عن ثوبانَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: قال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((من تكفَّل لي ألَّا يسألَ أحدًا شيئًا، وأتكَفَّلُ له بالجنَّةِ؟ فقال ثوبانُ: أنا. فكان لا يَسأَلُ أحدًا شيئًا)) [7704] رواه أبو داود (1643) واللفظ له، وأحمد (22374). صحَّحه الحاكم في ((المستدرك)) (1500) وقال: (على شرط مسلم)، وابن عبد البر في ((التمهيد)) (4/108)، والألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (1643)، والوادعي على شرط الشيخين في ((الصحيح المسند)) (195). والحديثُ رُوِيَ من طريقٍ آخَرَ بلَفظ: (ومن يتقبَّلُ لي بواحدةٍ أتقبَّلُ له بالجنَّةِ؟ قلتُ: أنا. قال: لا تسألِ النَّاسَ شيئًا.  قال: فكان ثوبانُ يقَعُ سَوطُه وهو راكِبٌ، فلا يقولُ لأحدٍ: ناوِلْنيه، حتى ينزِلَ فيأخُذَه). رواه ابن ماجه (1837) واللفظ له، وأحمد (22423). صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن ابن ماجه)) (1837)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (37/ 102). والحديثُ رُوِي بلفظِ: (من يَضمَنُ لي واحدةً وأضمَنُ له الجنَّةَ؟ قال: قُلتُ: أنا يا رسولَ اللهِ. قال: لا تسألِ النَّاسَ شيئًا. قال: فكان سَوطُ ثوبانَ يَسقُطُ وهو على بعيرِه، فيُنيخُ حتَّى يأخُذَه، وما يقولُ لأحَدٍ: ناوِلْنيه). رواه أحمد (22405) واللفظ له، والنسائي (2590) مختصَرًا. صحَّحه الألباني في ((صحيح سنن النسائي)) (2590)، وشعيب الأرناؤوط في تخريج ((مسند أحمد)) (37/ 90)، وصحَّح إسنادَه الطبري في ((مسند عمر)) (1/30). .
- وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (لقد رأيتُ سبعين من أصحابِ الصُّفَّةِ ما منهم رجلٌ عليه رداءٌ، إمَّا إزارٌ وإمَّا كساءٌ قد ربطوا في أعناقِهم؛ فمنها ما يبلُغُ نِصفَ السَّاقَينِ، ومنها ما يبلُغُ الكعبَينِ، فيَجمَعُه بيَدِه، كراهيةَ أن ترى عَورتَه) [7705] رواه البخاري (442). .
قال ابنُ حَجَرٍ: (قولُه: لقد رأيتُ سبعين من أصحابِ الصُّفَّةِ. يُشعِرُ بأنَّهم كانوا أكثَرَ من سبعين، وهؤلاء الذين رآهم أبو هُريرةَ غَيرُ السَّبعين الذين بعثَهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في غزوةِ بئرِ مَعونةَ، وكانوا من أهلِ الصُّفَّةِ أيضًا، لكِنَّهم استُشهِدوا قبلَ إسلامِ أبي هُرَيرةَ) [7706] ((فتح الباري)) (1/536). .
- وعن الحَسَنِ قال: (كان عطاءُ سَلمانَ خمسةَ آلافٍ، وكان أميرًا على زُهاءِ ثلاثين ألفًا من المُسلِمين، وكان يخطُبُ النَّاسَ في عباءةٍ يَفتَرِشُ نِصفَها، ويَلبَسُ بَعضَها، فإذا خرَج عطاؤه أمضاه، ويأكُلُ من سفيفِ [7707] يقال: أَسْفَفْتُ الخُوصَ إسفافًا: إِذا نَسَجْتَ بعضَه فِي بعضٍ. وكلُّ شَيْء يُنسَجُ بالأصابعِ فهو الإسْفافُ. والسَّفِيفُ والسُّفَّةُ: مَا سُفَّ. يُنظَر: ((تهذيب اللغة)) للأزهري (12/ 217). وفي تاريخ دمشق لابن عساكر (21/ 434) أنَّه كان يعمَلُ الخوصَ. يَدِه!) [7708] رواه أحمد في ((الزهد)) (815)، ومن طريقه: أبو نعيم في ((حلية الأولياء)) (1/197) واللفظ لهما، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (21/434) باختلافٍ يسيرٍ. .
- وعن سعدِ بنِ أبي وقَّاصٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: (واللهِ إنِّي لأوَّلُ رجُلٍ من العَرَبِ رمى بسهمٍ في سبيلِ اللهِ، ولقد كنَّا نغزو مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ما لنا طعامٌ نأكلُه إلَّا ورَقُ الحُبْلةِ، وهذا السَّمُرُ، حتَّى إنَّ أحَدَنا ليَضَعُ كما تضَعُ الشَّاةُ!) [7709] أخرجه البخاري (6453)، ومسلم (2966) واللفظ له. .
(«إلَّا وَرَقُ الحُبلةِ» بضَمِّ الحاءِ المهمَلةِ وسُكونِ الموحَّدةِ «أو الحَبَلةِ» بفتحِ الحاءِ والموحَّدةِ: ثَمَرُ العِضاهِ وثَمَرُ السَّمُرِ، وهو يُشبِهُ اللُّوبيا، أو المرادُ عُروقُ الشَّجَرِ، وقال في المطالِعِ: الحُبلةُ: الكَرْمُ، قاله ثعلَبٌ، وفي الحديثِ: ((لا تُسَمُّوا العِنَبَ الكَرْمَ، ولكِنْ قولوا الحُبْلةَ)) [7710] أخرجه مسلم (2248) من حديثِ وائِلِ بنِ حُجْرٍ رَضِيَ اللهُ عنه. «حتى يَضَع أحدُنا ما تضَعُ الشَّاةُ» يريدُ أنَّ أحدَهم كان إذا قضى حاجتَه ألقى شيئًا كالبَعرِ الذي تُلقيه الشَّاةُ!) [7711] ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (22/219). .
- وعن مجاهدٍ أنَّ أبا هُرَيرةَ كان يقولُ: ((أللهِ الذي لا إلهَ إلَّا هو إنْ كُنْتُ لأعتَمِدُ بكَبِدي على الأرضِ مِنَ الجُوعِ، وإِنْ كنتُ لأَشُدُّ الحَجَرَ على بطني من الجُوعِ، ولقد قعَدْتُ يومًا على طريقِهم الذي يخرُجون منه، فمرَّ أبو بكرٍ فسألتُه عن آيةٍ من كِتابِ اللهِ ما سألتُه إلَّا ليُشبِعَني، فمرَّ ولم يفعَلْ، ثُمَّ مرَّ بي عُمَرُ فسألتُه عن آيةٍ مِن كِتابِ اللهِ ما سألتُه إلَّا ليُشبِعَني، فمرَّ ولم يفعَلْ، ثُمَّ مرَّ أبو القاسمِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم فتبسَّم حينَ رآني، وعرَف ما في نفسي وما في وجهي، ثُمَّ قال: يا أبا هِرٍّ، قُلتُ: لبَّيك يا رسولَ اللهِ. قال: الحَقْ، ومضى فتبِعْتُه، فدخل فاستأذن فأَذِنَ لي، فدخل فوجد لبنًا في قَدَحٍ، فقال: مِنْ أين هذا اللَّبنُ؟ قالوا: أهداه لك فلانٌ أو فلانةُ، قال: أبا هِرٍّ، قُلتُ: لبَّيك يا رسولَ اللهِ، قال: الحَقْ إلى أهلِ الصُّفَّةِ فادْعُهم لي، قال: وأهلُ الصُّفَّةِ أضيافُ الإسلامِ لا يأوُون إلى أهلٍ ولا مالٍ ولا على أحدٍ، إذا أتته صَدَقةٌ بعث بها إليهم ولم يتناوَلْ منها شيئًا، وإذا أتته هَدِيَّةٌ أرسَلَ إليهم وأصاب منها وأَشركَهم فيها، فساءني ذلك، فقلتُ: وما هذا اللَّبَنُ في أهلِ الصُّفَّةِ؟! كُنتُ أَحقَّ أن أُصيبَ من هذا اللَّبَنِ شَربةً أتقوَّى بها! فإذا جاء أمرَني فكنتُ أنا أعطيهم، وما عسى أن يبلُغَني من هذا اللَّبَنِ؟! ولم يَكُنْ من طاعةِ اللهِ وطاعةِ رَسولِه بُدٌّ، فأتيتُهم فدعوتُهم، فأقبلوا فاستأذنوا فأذِنَ لهم، وأخذوا مجالِسَهم من البيتِ، قال: أبا هِرٍّ، قلتُ: لبَّيك يا رسولَ اللهِ، قال: خُذْ فأعطِهم، قال: فأخذتُ القَدَحَ فجعَلْتُ أُعطيه الرَّجُلَ فيَشرَبُ حتى يَروَى، ثُمَّ يرُدُّ عَلَيَّ القَدَحَ، فأُعطي الرَّجُلَ فيَشرَبُ حتى يَرْوَى، ثُمَّ يرُدُّ عليَّ القَدَحَ، حتى انتهيتُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وقد رَوِيَ القومُ كُلُّهم، فأخذ القَدَحَ فوضَعه على يَدِه، فنظر إليَّ فتبسَّم! فقال: يا أبا هِرٍّ! قُلتُ: لبَّيك يا رسولَ اللهِ، قال: بَقِيتُ أنا وأنت، قلتُ: صَدَقْتَ يا رسولَ اللهِ، قال: اقعُدْ فاشرَبْ، فقعَدْتُ فشَرِبتُ، فما زال يقولُ: اشرَبْ، حتى قُلتُ: لا والذي بعثَك بالحقِّ ما أجِدُ له مَسلَكًا! قال: فأَرِني، فأعطيتُه القَدَحَ، فحَمِد اللهَ وسَمَّى وشَرِبَ الفَضْلةَ)) [7712] أخرجه البخاري (6452). .
- وعن جابرٍ رَضِيَ اللهُ عنه، قال: (بعَثَنا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأمَّر علينا أبا عُبَيدةَ، نتلقَّى عِيرًا [7713] العِيرُ: الإبِلُ تحمِلُ الطَّعامَ أو التِّجارةَ، لا تُسَمَّى عِيرًا إلَّا بذلك. يُنظَر: ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) للقاضي عياض (3/ 262). لقُرَيشٍ، وزوَّدنا جِرابًا من تمرٍ لم يجِدْ لنا غيرَه، فكان أبو عُبَيدةَ يُعطينا تمرةً تمرةً، قال: فقُلتُ: كيف كنتُم تصنَعون بها؟! قال: نَمَصُّها كما يَمَصُّ الصَّبيُّ، ثمَّ نشرَبُ عليها من الماءِ، فتكفينا يومَنا إلى اللَّيلِ! وكنَّا نضرِبُ بعِصِيِّنا الخَبَطَ، ثمَّ نَبُلُّه بالماءِ فنأكُلُه!) [7714] أخرجه مسلم (1935). .
(قَولُه: «كنَّا نضرِبُ بعِصِيِّنا الخَبَطَ»: وهو أن نضرِبَ الشَّجَرَ بعصًا لتتحاتَّ وَرَقُه، واسمُ الوَرَقِ المخبوطِ خَبَطٌ، وهو من عَلَفِ الإبِلِ) [7715] ((إكمال المعلم)) للقاضي عياض (6/375). .

انظر أيضا: