موسوعة الأخلاق والسلوك

سادسًا: مظاهِرُ وصُوَرُ الفِطنةِ والذَّكاءِ


1- الفِطنةُ في مقامِ الدَّعوةِ إلى اللهِ سُبحانَه؛ فإنَّ من يتصدَّى لدعوةِ النَّاسِ عليه أن يعرِفَ اختلافَ عقولِهم، ودَرَجاتِ استيعابِهم، ومسيسَ حاجاتِهم، وأن يعرِفَ الأهَمَّ لهم فيبدأَ به، فلا يؤخِّرُ ما حقُّه التَّقديمُ، والعَكسُ؛ فبدونِ ذلك ربَّما أفسَدَ من حيثُ أراد أن يُصلِحَ.
عن ابنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما: أنَّ رسولَ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم لمَّا بعَث معاذًا رَضِيَ اللهُ عنه على اليَمَنِ، قال: ((إنَّك تَقدَمُ على قومٍ أهلِ كتابٍ، فليَكُنْ أوَّلَ ما تدعوهم إليه عبادةُ اللهِ، فإذا عرَفوا اللهَ فأخبِرْهم أنَّ اللهَ قد فرَض عليهم خمسَ صَلَواتٍ في يومِهم وليلتِهم، فإذا فعَلوا فأخبِرْهم أنَّ اللهَ فَرَض عليهم زكاةً من أموالِهم وتُرَدُّ على فُقَرائِهم، فإذا أطاعوا بها فخُذْ منهم وتوَقَّ كرائِمَ أموالِ النَّاسِ)) [7506] أخرجه البخاري (1458) واللفظ له، ومسلم (19). .
فلا شكَّ أنَّ استعمالَ الدَّاعيةِ للتدرُّجِ من ذكائِه وفِطنتِه وإلَّا واجَه من النَّاسِ الصَّدودَ والكراهيةَ؛ ولذلك كان الذَّكاءُ والفِطنةُ من المقوِّماتِ الدَّعَويَّةِ الهامَّةِ.
قال ابنُ عجيبةَ: (ينبغي للمُذَكِّرِ أن يُذكِّرَ كُلًّا بما يليقُ به؛ فأهلُ العصيانِ ينبغي له أن يشدِّدَ في الإنذارِ، ولا يُداريَهم ولا يُداهِنَهم. وأهلُ الطَّاعةِ ينبغي له أن يُبَشِّرَهم ويُسَهِّلَ الأمرَ عليهم، وقد قال صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((يَسِّروا ولا تُعَسِّروا، وبَشِّروا ولا تُنَفِّروا)) [7507] أخرجه البخاري (69) واللفظ له، ومسلم (1734) من حديثِ أنسِ بنِ مالكٍ رَضِيَ اللهُ عنه. ، فيحتاجُ المذَكِّرُ إلى فِطنةٍ وفِراسةٍ؛ حتى يعطيَ كُلَّ واحدٍ ما يليقُ به، ويخاطِبَ كُلَّ واحدٍ بما يُطيقُه) [7508] ((البحر المديد)) (4/108). .
2- الفِطنةُ في مقامِ الإفتاءِ؛ فإنَّ المفتيَ يحتاجُ إلى فِطنةٍ وإلمامٍ بالواقِعِ، وكذا إلى درايةٍ بحالِ السَّائِلِ وما ينفَعُه، إلى غيرِ ذلك، وهذا يتطلَّبُ من المفتي أن يكونَ ذا ذكاءٍ وفِطنةٍ.
عن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللهُ عنه قال: ((سأل رجلٌ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: يا رسولَ اللهِ إنَّا نركَبُ البحرَ، ونحمِلُ معنا القليلَ من الماءِ، فإن توضَّأْنا به عَطِشْنا، أفنتوَضَّأُ بماءِ البحرِ؟ فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: هو الطَّهورُ ماؤُه، الحِلُّ مَيتتُه)) [7509] أخرجه أبو داود (83) واللفظ له، والترمذي (69)، والنسائي (59). صحَّحه البخاري كما في ((عارضة الأحوذي)) لابن العربي (1/91)، والترمذي، وابن خزيمة في ((الصحيح)) (1/228)، وابن حبان في ((صحيحه)) (1243). .
قال ابنُ عُثَيمين: (من فوائِدِ هذا الحديثِ: جوازُ زيادةِ الجوابِ على السَّؤالِ إذا دعت الحاجةُ إلى ذلك، وجهُه: أنَّ الرَّسولَ عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ زاد على سؤالِ السَّائلين ببيانِ حُكمِ مَيتةِ البَحرِ، فقال: ((الحِلُّ ميتَتُه)) لماذا؟ لأنَّ هؤلاء إذا كان أشكَلَ عليهم الوضوءُ في ماءِ البحرِ، فالظَّاهِرُ أنَّه سيُشكِلُ عليهم مَيتةُ البَحرِ، إذا وجَدوا سمكًا طافيًا على الماءِ مَيِّتًا فسوف يُشكِلُ عليهم من بابِ أَولى؛ فلهذا أعلمَهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بحُكمِ مَيتةِ البحرِ مع أنَّهم لم يسألوا عنها) [7510] ((فتح ذي الجلال والإكرام بشرح بلوغ المرام)) (1/60). .
3- الفِطنةُ في مقامِ التَّعليمِ والتَّدريسِ، فحتى يؤتيَ العِلمُ ثَمَرتَه لا بدَّ للعالِمِ وللمُعلِّمِ أن يأخُذَ بأيدي طلَبةِ العِلمِ إلى ما ينفَعُهم، ويتدرَّجَ معهم في التَّعليمِ، ويوجِّهَ كُلَّ واحدٍ إلى ما يَصلُحُ له.
4- الفِطنةُ والذَّكاءُ بَيْنَ الزَّوجينِ لتدومَ الحياةُ الزَّوجيَّةُ.
5- الفِطنةُ في التَّعامُلِ مع النَّاسِ ومعرفةِ أقدارِهم، وإنزالِ كُلِّ واحدٍ منزلتَه، ومراعاةِ ذوي الهيئاتِ منهم، فذلك من دلائِلِ فِطنةِ الإنسانِ وحِكمتِه وذكائِه، والنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في يومِ الفتحِ قال له العبَّاسُ رَضِيَ اللهُ عنه: ((يا رسولَ اللهِ، إنَّ أبا سُفيانَ رجُلٌ يحِبُّ هذا الفَخرَ، فاجعَلْ له شيئًا، قال: نعَمْ، مَن دَخَل دارَ أبي سُفيانَ فهو آمِنٌ، ومن أغلَقَ عليه دارَه فهو آمِنٌ، ومن دَخَل المسجِدَ فهو آمِنٌ. فتفرَّق النَّاسُ إلى دورِهم وإلى المسجِدِ)) [7511] أخرجه أبو داود (3022)، والبيهقي (18741) واللفظ لهما، والطحاوي في ((شرح معاني الآثار)) (5450) من حديثِ عبد اللهِ بنِ عبَّاسٍ رَضِيَ اللهُ عنهما. صحَّحه الطحاوي، وابن حجر في ((المطالب العالية)) (4/418)، وصحَّحه لغيره شعيب الأرناؤوط في تخريج ((سنن أبي داود)) (3022)، وحسنه الألباني في ((صحيح سنن أبي داود)) (3022). .
وعن إسحاقَ بنِ إبراهيمَ الحَنظَليِّ قال: (جاء فتًى إلى سُفيانَ بنِ عُيَينةَ مِن خَلفِه فحيَّاه، وقال: يا سُفيانُ، حَدِّثني! فالتَفتَ سفيانُ فقال: يا فتى، إنَّه من جَهِل أقدارَ الرِّجالِ فهو بقَدْرِ نَفسِه أجهَلُ!) [7512] ((آداب الصحبة)) لأبي عبد الرحمن السلمي (ص: 115). .

انظر أيضا: