موسوعة الأخلاق والسلوك

أ- نماذِجُ من الإعراضِ عن الجاهِلينَ عند الأنبياءِ والمُرسَلينَ


أنبياءُ اللهِ ورُسُلُه أكثَرُ النَّاسِ مُراعاةً لأحوالِ النَّاسِ وصَبرًا عليهم، واحتِمالًا لأذاهم، وإعراضًا عن سَفيهِهم وجاهِلِهم؛ لا يُقابِلون الإساءةَ بمِثلِها، بل يُعرِضون تارةً ويَصفَحون ويَغفِرون أخرى، وهمُّهم الأكبَرُ هِدايةُ النَّاسِ ودَلالتُهم على ما يُصلِحُ دُنياهم وآخِرَتَهم.
إبراهيمُ عليه السَّلامُ:
دعا نبيُّ اللهِ إبراهيمُ عليه السَّلامُ أباه إلى التَّوحيدِ ونبذِ الشِّركِ برِفقٍ وحِكمةٍ وتلَطُّفٍ ولِينٍ، فما كان من أبيه إلَّا أنْ قابَلَه بالإساءةِ والتَّهديدِ والزَّجرِ، فلم يقابِلْ إبراهيمُ عليه السَّلامُ تلك الإساءةَ إلَّا بالحِلمِ والصَّبرِ.
قال تعالى: وَاذْكُرْ فِي الْكِتَابِ إِبْرَاهِيمَ إِنَّهُ كَانَ صِدِّيقًا نَبِيًّا * إِذْ قَالَ لِأَبِيهِ يَا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ مَا لَا يَسْمَعُ وَلَا يُبْصِرُ وَلَا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئًا * يَا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جَاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ مَا لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِرَاطًا سَوِيًّا * يَا أَبَتِ لَا تَعْبُدِ الشَّيْطَانَ إِنَّ الشَّيْطَانَ كَانَ لِلرَّحْمَنِ عَصِيًّا * يَا أَبَتِ إِنِّي أَخَافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذَابٌ مِنَ الرَّحْمَنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطَانِ وَلِيًّا * قَالَ أَرَاغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يَا إِبْرَاهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَاهْجُرْنِي مَلِيًّا * قَالَ سَلَامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كَانَ بِي حَفِيًّا [مريم: 41 - 47] .
وقال تعالى: أَلَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْرَاهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتَاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قَالَ إِبْرَاهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَيُمِيتُ قَالَ أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ قَالَ إِبْرَاهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِهَا مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَاللَّهُ لَا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ [البقرة: 258] .
فقَولُه: أَنَا أُحْيِي وَأُمِيتُ ومحاولةُ تفسيرِ الإحياءِ والإماتةِ هذا التَّفسيرَ، يؤكِّدُ جهالتَه الواضِحةَ.
(وإعراضُ الخليلِ عليه السَّلامُ ليس معناه تسليمَ الخليلِ لهذا التَّفسيرِ الجاهِلِ، أو انهزامَه أمامَه، إنَّما معناه إعراضُ الخليلِ عن الجاهِلينَ، وعَدَمُ رغبتِه في الجَدَلِ معهم، وقد انتَقَل إلى حُجَّةٍ بَهَتَت الطَّاغيةَ) [577] ((سلم أخلاق النبوة)) لمحمود محمد غريب (ص: 113) .
نوحٌ عليه السَّلامُ:
لَبِث نوحٌ عليه السَّلامُ في قومِه قُرونًا يدعوهم لعبادةِ اللهِ سُبحانَه، وكان يحتَمِلُ جِدالَهم راجيًا لهم السَّلامةَ والنَّجاةَ من الشِّركِ، ولم يلتَفِتْ في جدالِهم إلى جهالتِهم وسفاهتِهم وإساءتِهم، بل أعرَضَ عن ذلك وتحمَّله في سبيلِ وَعظِهم ونُصحِهم.
قال اللهُ تعالى: وَلَقَدْ أَرْسَلْنَا نُوحًا إِلَى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ * أَنْ لَا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ إِنِّي أَخَافُ عَلَيْكُمْ عَذَابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ * فَقَالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ مَا نَرَاكَ إِلَّا بَشَرًا مِثْلَنَا وَمَا نَرَاكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَرَاذِلُنَا بَادِيَ الرَّأْيِ وَمَا نَرَى لَكُمْ عَلَيْنَا مِنْ فَضْلٍ بَلْ نَظُنُّكُمْ كَاذِبِينَ * قَالَ يَا قَوْمِ أَرَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلَى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَآتَانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَنُلْزِمُكُمُوهَا وَأَنْتُمْ لَهَا كَارِهُونَ * وَيَا قَوْمِ لَا أَسْأَلُكُمْ عَلَيْهِ مَالًا إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَمَا أَنَا بِطَارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلَاقُو رَبِّهِمْ وَلَكِنِّي أَرَاكُمْ قَوْمًا تَجْهَلُونَ * وَيَا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَفَلَا تَذَكَّرُونَ * وَلَا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزَائِنُ اللَّهِ وَلَا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَلَا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَلَا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْرًا اللَّهُ أَعْلَمُ بِمَا فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذًا لَمِنَ الظَّالِمِينَ * قَالُوا يَا نُوحُ قَدْ جَادَلْتَنَا فَأَكْثَرْتَ جِدَالَنَا فَأْتِنَا بِمَا تَعِدُنَا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ * قَالَ إِنَّمَا يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شَاءَ وَمَا أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ * وَلَا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كَانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَإِلَيْهِ تُرْجَعُونَ [هود: 25 - 33] .
نبيٌّ من الأنبياءِ المُتقَدِّمين:
عن عبدِ اللهِ بنِ مَسعودٍ رَضِيَ اللهُ عنه قال: كأنِّي أنظُرُ إلى النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يحكي نبيًّا من الأنبياءِ ضَرَبه قومُه فأدْمَوه، فهو يمسَحُ الدَّمَ عن وَجهِه، ويقولُ: ((رَبِّ اغفِرْ لقَومي؛ فإنَّهم لا يَعلَمون)) [578] أخرجه البخاري (6929) واللَّفظُ له، ومسلم (1792). .
قال النَّوويُّ: (فيه ما كانوا عليه -صَلَواتُ اللهِ وسَلامُه عليهم- من الحِلمِ والتَّصبُّرِ، والعَفوِ والشَّفَقةِ على قَومِهم، ودُعائِهم لهم بالهِدايةِ والغُفرانِ، وعُذرِهم في جنايتِهم على أنفُسِهم بأنَّهم لا يَعلَمون، وهذا النَّبيُّ المشارُ إليه من المتقَدِّمين) [579] ((شرح النووي على مسلم)) (12/ 150). .

انظر أيضا: