موسوعة الأخلاق والسلوك

نماذِجُ مِن عَفوِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم


كان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قد بلَغ القِمَّةَ والدَّرَجةَ العاليةَ في العَفْوِ والصَّفحِ، كما هو شأنُه في كُلِّ خُلُقٍ من الأخلاقِ الكريمةِ، فكان عَفوُه يَشمَلُ الأعداءَ فضلًا عن الأصدقاءِ.
(وكان صلَّى اللهُ عليه وسلَّم أجمَلَ النَّاسِ صَفحًا، يتلقَّى من قومِه الأذى المؤلِمَ فيُعرِضُ عن تلويمِهم أو تعنيفِهم، أو مُقابلتِهم بمِثلِ عَمَلِهم، ثمَّ يعودُ إلى دعوتِهم ونُصحِهم كأنَّما لم يَلْقَ منهم شيئًا!
وفي تأديبِ اللَّهِ لرَسولِه بهذا الأدَبِ أنزل اللَّهُ عليه في المرحلةِ المَكِّيَّةِ قَولَه: فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ * إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ [الحجر: 85-86] ، ثمَّ أنزل عليه قولَه: فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَقُلْ سَلَامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ [الزخرف: 89] ، فكان يقابِلُ أذى أهلِ الشِّركِ بالصَّفحِ الجميلِ، وهو الصَّفحُ الذي لا يكونُ مَقرونًا بغَضَبٍ أو كِبرٍ أو تذَمُّرٍ من المواقِفِ المؤلِمةِ، وكان كما أدَّبه اللَّهُ تعالى. ثمَّ كان يقابِلُ أذاهم بالصَّفحِ الجميلِ، ويُعرِضُ قائِلًا: سلامٌ!
وفي العَهدِ المَدَنيِّ لَقِيَ الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من يهودِ المدينةِ أنواعًا من الخيانةِ، فأنزل اللَّهُ عليه قولَه: وَلَا تَزَالُ تَطَّلِعُ عَلَى خَائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ [المائدة: 13] ، فصَبَر الرَّسولُ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عليهم وعفا وصفَح، حتَّى جاء الإذنُ الرَّبَّانيُّ بإجلائِهم، ومُعاقبةِ ناقضي العَهدِ منهم) [6976] ((الأخلاق الإسلامية)) لعبد الرحمن الميداني (1/432). .
- فعن أسامةَ بنِ زَيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما قال: ((وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابُه يَعْفون عن المُشرِكين وأهلِ الكِتابِ، كما أمرهم اللَّهُ، ويصبِرون على الأذى.
قال اللَّهُ تعالى: وَلَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتَابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَمِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذًى كَثِيرًا [آل عمران: 186] ، وقال اللَّهُ: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتَابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمَانِكُمْ كُفَّارًا حَسَدًا مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ الآية [البقرة: 109] ، وكان النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يتأوَّلُ العَفْوَ [6977] يتأوَّلُ العَفوَ: أي: يأخذُه من قَولِ اللهِ تعالى: فَاعْفُ عَنْهُمْ وَاصْفَحْ. يُنظَر: ((نخب الأفكار في تنقيح مباني الأخبار في شرح معاني الآثار)) للعيني (14/ 260). ما أمَرَه اللَّهُ به...))
[6978] رواه البخاري (4566). .
- عن عبدِ اللهِ بنِ عَمرِو بنِ العاصِ رَضِيَ الله عنهما: (أنَّ هذه الآيةَ التي في القُرآنِ: يَا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْنَاكَ شَاهِدًا وَمُبَشِّرًا وَنَذِيرًا [الأحزاب: 45] ، قال في التَّوراةِ: يا أيُّها النَّبيُّ إنَّا أرسَلْناك شاهِدًا ومُبَشِّرًا وحِرزًا للأُمِّيِّين، أنت عبدي ورسولي، سمَّيتُك المتوَكِّلَ، ليس بفَظٍّ ولا غليظٍ، ولا سَخَّابٍ [6979] السَّخَّابُ: كثيرُ السَّخَبِ، وهو الصِّياحُ، والسَّخَبُ والصَّخَبُ بمعنًى. يُنظَر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (6/ 147). بالأسواقِ، ولا يدفعُ السَّيِّئةَ بالسَّيِّئةِ، ولكِنْ يعفو ويَصفَحُ... ) [6980] رواه البخاري (4838) مطوَّلًا. .
- وقد (عفا رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عن أولئك النَّفَرِ الثَّمانين الذين قَصَدوه عامَ الحُدَيبيَةِ، ونَزَلوا من جَبَلِ التَّنعيمِ، فلمَّا قَدَر عليهم مَنَّ عليهم مع قُدرتِه على الانتِقامِ) [6981] ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (7/ 211). .
فعن أنسٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه ((أنَّ ثمانينَ رَجُلًا من أهلِ مكَّةَ هَبَطوا على رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم من جَبَلِ التَّنعيمِ مُتسَلِّحين يُريدون غِرَّةَ [6982] أي: تَنزِلوا على غفلةٍ منه. يُنظَر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (4/ 415). النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم وأصحابِه، فأخَذَهم سِلمًا [6983] أي: أسَرَهم. يُنظَر: ((مرقاة المفاتيح شرح مشكاة المصابيح)) للقاري (6/ 2552). فاستحياهم [6984] فاستحياهم: أي: أبقاهم أحياءً ولم يقتُلْهم. يُنظَر: ((المفاتيح في شرح المصابيح)) للمظهري (4/ 415). ، فأنزل اللَّهُ عزَّ وجَلَّ: وَهُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَأَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ [الفتح: 24] )) [6985] أخرجه مسلم (1808). .
- وعن أسامةَ بنِ زَيدٍ رَضِيَ اللَّهُ عنهما ((أنَّ النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ركِبَ حمارًا عليه إكافٌ [6986] الإكافُ: يكونُ للبعيرِ والحِمارِ والبَغلِ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (9/364). ، تحته قَطيفةٌ فَدَكيَّةٌ. وأردف وراءَه أسامةَ، وهو يعودُ سَعدَ بنَ عُبادةَ في بني الحارِثِ بنِ الخَزرَجِ. وذاك قبلَ وَقعةِ بَدرٍ، حتَّى مَّر بمجلِسٍ فيه أخلاطٌ من المسلِمين والمُشرِكين عَبَدةِ الأوثانِ، واليهودِ، فيهم عبدُ اللَّهِ بنُ أُبَيٍّ، وفي المجلِسِ عبدُ اللَّهِ بنُ رَواحةَ، فلمَّا غَشِيَت المجلِسَ عَجاجةُ [6987] العَجَاجُ: الغُبارُ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (2/319). الدَّابَّةِ، خَمَّر عبدُ اللَّهِ بنُ أُبَيٍّ أنفَه بردائِه، ثمَّ قال: لا تُغَبِّروا علينا، فسَلَّم عليهم النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم ثمَّ وَقَف فنَزَل؛ فدعاهم إلى اللَّهِ، وقرَأَ عليهم القُرآنَ، فقال عبدُ اللَّهِ بنُ أُبَيٍّ: أيُّها المرءُ، لا أحسَنُ مِن هذا إن كان ما تقولُ حَقًّا! فلا تُؤذِنا في مجالِسِنا، وارجِعْ إلى رَحْلِك، فمَن جاءك منَّا فاقصُصْ عليه. فقال عبدُ اللَّهِ بنُ رَواحةَ: اغْشَنا في مجالِسِنا؛ فإنَّا نحِبُّ ذلك، قال: فاستَبَّ المسلمون والمُشرِكون واليهودُ حتَّى همُّوا أن يتواثَبوا، فلم يَزَلِ النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُخَفِّضُهم [6988] يُخَفِّضُهم: أي: يُسَكِّنُهم ويُهَوِّنُ عليهم الأمرَ. يُنظَر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (2/54). ، ثمَّ رَكِبَ دابَّتَه حتَّى دَخَل على سعدِ بنِ عُبادةَ. فقال: أيْ سَعدُ، ألم تسمَعْ إلى ما قال أبو حُبابٍ؟! يُريدُ عبدَ اللَّهِ بنَ أُبَيٍّ، قال كذا وكذا، قال: اعْفُ عنه يا رسولَ اللَّهِ واصفَحْ، فواللَّهِ لقد أعطاك اللَّهُ الذي أعطاك، ولقد اصطَلَح أهلُ هذه البُحَيرةِ [6989] البُحَيرةُ: مدينةُ الرَّسولِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وهي تصغيرُ البَحرةِ، والعَرَبُ تُسَمِّي المدُنَ والقُرى البِحارَ. يُنظَر: ((النهاية في غريب الحديث والأثر)) لابن الأثير (1/ 100). أن يُتَوِّجوه فيُعَصِّبوه بالعِصابةِ [6990] فيُعَصِّبوه بالعِصابةِ، يعني: يُرَئِّسوه عليهم ويُسَوِّدوه، وسُمِّي الرَّئيسُ مُعَصَّبًا؛ لِما يُعصَبُ برأسِه من الأمورِ. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (8/232). ، فلمَّا ردَّ اللَّهُ ذلك بالحَقِّ الذي أعطاكه شَرِقَ [6991] الشَّرقُ: الشَّجا والغُصَّةُ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (10/177). بذلك، فذلك فَعَل به ما رأيتَ! فعفا عنه النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم)) [6992] رواه البخاري (4566)، ومسلم (1798) واللفظ له. .
- وعن عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها قالت: ((ما ضرَب رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم شيئًا قطُّ بيَدِه ولا امرأةً ولا خادِمًا، إلَّا أن يجاهِدَ في سبيلِ اللهِ، وما نِيلَ منه شيءٌ قطُّ فينتَقِمَ من صاحِبِه، إلَّا أن يُنتَهَكَ شيءٌ من محارمِ اللهِ فينتَقِمَ للهِ عزَّ وجَلَّ)) [6993] رواه مسلم (2328). .
- وعن جابِرِ بنِ عبدِ اللَّهِ رَضِيَ اللَّهُ عنهما ((أنَّه غزا مع رسولِ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قِبَلَ نَجدٍ، فلمَّا قَفَل [6994] القُفولُ: الرُّجوعُ من السَّفَرِ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (11/560). رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قفل معه، فأدركَتْهم القائلةُ [6995] القائِلةُ: الظَّهيرةُ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (11/577). في وادٍ كثيرِ العِضاهِ [6996] العِضاهُ: كُلُّ شَجَرٍ عَظيمٍ له شَوكٌ. يُنظَر: ((إرشاد الساري)) للقسطلاني (6/337). ، فنزل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، وتفَرَّق النَّاسُ يَستَظِلُّون بالشَّجَرِ، فنزل رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم تحتَ سَمُرةٍ [6997] السَّمُرة: شجرة الطَّلْحِ. يُنظر: ((الإفصاح)) لابن هُبَيْرة (4/162)، ((النهاية)) لابن الأثير (2/ 399). ، فعَلَّق بها سيفَه، ونِمنا نومةً، فإذا رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يدعونا، وإذا عندَه أعرابيٌّ، فقال: إنَّ هذا اختَرَط [6998] اختَرَط السَّيفَ: استَلَّه مِن غِمْدِه. يُنظَر: ((تاج العروس)) للزبيدي (19/241). عَلَيَّ سيفي وأنا نائِمٌ، فاستيقَظْتُ وهو في يَدِه صَلْتًا [6999] الصَّلْتُ: البارِزُ المستوي. وسَيفٌ صَلتٌ: مُنجَرِدٌ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (2/53). ، فقال: من يمنَعُك منِّي؟ قلتُ: اللهُ، ثلاثًا، ولم يعاقِبْه، وجلس)) [7000] رواه البخاري (2910) واللفظ له، ومسلم (843). .
- عن عائِشةَ رضِي اللهُ عنها زوجِ النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، أنَّها قالت للنَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((هل أتى عليك يومٌ كان أشَدَّ مِن يومِ أحُدٍ؟ قال: لقد لَقِيتُ مِن قومِك ما لقيتُ، وكان أشَدُّ ما لقيتُ منهم يومَ العَقَبةِ؛ إذ عرضْتُ نَفسي على ابنِ عبدِ يالِيلَ بنِ عَبدِ كُلالٍ، فلم يُجِبْني إلى ما أردْتُ، فانطلقْتُ وأنا مهمومٌ على وَجهي، فلم أستفِقْ إلَّا وأنا بقَرنِ الثَّعالِبِ، فرفعْتُ رأسي فإذا أنا بسَحابةٍ قد أظلَّتني، فنظرْتُ فإذا فيها جِبريلُ، فناداني، فقال: إنَّ اللهَ قد سمِع قولَ قومِك لك، وما ردُّوا عليك، وقد بعَث اللهُ إليك ملَكَ الجِبالِ لتأمُرَه بما شئْتَ فيهم، فناداني ملَكُ الجِبالِ، فسلَّم عليَّ، ثُمَّ قال: يا مُحمَّدُ، فقال: ذلك فيما شئْتَ، إن شئْتَ أن أُطبِقَ عليهم الأخشَبَينِ [7001] هما جبلا مكَّةَ قُعَيقِعانُ وأبو قُبَيسٍ سُمِّيا بذلك لعِظَمِهما وخُشونتِهما. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 76). ، فقال له رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: بل أرجو أن يُخرِجَ اللهُ من أصلابِهم من يعبُدُ اللهَ وَحدَه لا يُشرِكُ به شيئًا)) [7002] رواه البخاري (3231)، ومسلم (1795) واللفظ له. .
- وعن عُروةَ بنِ الزُّبَيرِ قال: ((قال عِكرِمةُ بنُ أبي جَهلٍ: لمَّا انتهَيتُ إلى رسولِ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم قُلتُ: يا محمَّدُ، إنَّ هذه أخبَرَتني أنَّك أمَّنْتَني، فقال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أنت آمِنٌ. فقُلتُ: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللَّهُ وَحْدَه لا شريكَ له، وأنت عبدُ اللَّهِ ورسولُه، وأنت أبَرُّ النَّاسِ، وأصدَقُ النَّاسِ، وأوفى النَّاسِ! قال عِكرِمةُ: أقولُ ذلك وإنِّي لمُطأطِئٌ رأسي استحياءً منه، ثمَّ قُلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، استَغفِرْ لي كُلَّ عداوةٍ عادَيتُكها، أو مَوكِبٍ أوضَعْتُ [7003] الإيضاعُ: السَّيرُ بَيْنَ القومِ. يُنظَر: ((لسان العرب)) لابن منظور (8/398). فيه أريدُ فيه إظهارَ الشِّركِ، فقال رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: اللَّهُمَّ اغفِرْ لعِكرِمةَ كُلَّ عداوةٍ عادانيها، أو مَوكِبٍ أوضَعَ فيه يريدُ أن يَصُدَّ عن سبيلِك. قُلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، مُرْني بخيرِ ما تَعلَمُ فأعلَمَه، قال: قُلْ: أشهَدُ أنْ لا إلهَ إلَّا اللَّهُ، وأنَّ محمَّدًا عَبدُه ورسولُه، وتجاهِدُ في سَبيلِه، ثمَّ قال عِكرِمةُ: أمَا واللَّهِ يا رسولَ اللَّهِ، لا أدَعُ نَفَقةً كُنتُ أنفَقْتُها في الصَّدِّ عن سبيلِ اللَّهِ إلَّا أنفَقْتُ ضِعْفَها في سبيلِ اللَّهِ، ولا قاتَلْتُ قِتالًا في الصَّدِّ عن سبيلِ اللَّهِ إلَّا أبلَيتُ ضِعفَه في سبيلِ اللَّهِ. ثمَّ اجتَهَد في القتالِ حتَّى قُتِلَ يومَ أَجنادينَ شَهيدًا في خلافةِ أبي بَكرٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه)) [7004] رواه ابنُ سعد في ((الطبقات الكبرى)) (133)، والحاكم (5057) واللفظ له، وابن عساكر في ((تاريخ دمشق)) (41/64). .
- وعن أبي هُرَيرةَ رَضِيَ اللَّهُ عنه، قال: ((بعَث رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم خيلًا قِبَلَ نَجدٍ، فجاءت برَجُلٍ من بني حَنيفةَ يُقالُ له: ثُمامةُ بنُ أُثالٍ، سَيِّدُ أهلِ اليمامةِ، فربَطوه بساريةٍ من سواري المسجِدِ، فخرج إليه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقال: ماذا عندَك يا ثُمامةُ؟ فقال: عندي يا محمَّدُ خيرٌ؛ إنْ تقتُلْ تقتُلْ ذا دَمٍ [7005] أي: إن تقتُلْ تقتُلْ صاحِبَ دَمٍ لدَمِه موقِعٌ يَشتَفي بقَتلِه قاتِلُه ويُدرِكُ قاتِلُه به ثأرَه، أي: لرياستِه وفضيلتِه. يُنظَر: ((شرح النووي على مسلم)) (12/ 88). ، وإن تُنعِمْ تُنعِمْ على شاكِرٍ، وإن كنْتَ تُريدُ المالَ فسَلْ تُعطَ منه ما شِئْتَ، فترَكه رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم حتَّى إذا كان الغدُ، ثُمَّ قال له: ما عِندك يا ثُمامةُ؟ فأعاد مِثلَ هذا الكلامِ، فترَكه حتَّى كان بَعدَ الغدِ فذكَر مِثلَ هذا، فقال رسولُ اللهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: أطلِقوا ثُمامةَ...)) [7006] أخرجه البخاري (4372)، ومسلم (1764). .
- وعن سَلَمةَ بنِ الأكوَعِ رَضِيَ اللَّهُ عنه، قال: ((خرَجْتُ من المدينةِ ذاهِبًا نحوَ الغابةِ، حتَّى إذا كنتُ بثَنيَّةِ الغابةِ، لَقِيني غلامٌ لعبدِ الرَّحمنِ بنِ عَوفٍ، قلتُ: وَيحَك ما بك؟! قال: أُخِذَت لِقاحُ [7007] اللِّقاحُ هي النَّاقةُ ذاتُ اللَّبَنِ. يُنظَر: ((إرشاد الساري لشرح صحيح البخاري)) للقسطلاني (6/ 358). النَّبيِّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، قُلتُ: من أخَذَها؟ قال: غَطَفانُ وفَزارةُ، فصَرَخْتُ ثلاثَ صَرَخاتٍ أسمَعْتُ ما بَيْنَ لابَتَيها [7008] اللَّابةُ: الحَرَّةُ، وهي أرضٌ ذاتُ حِجارةٍ سُودٍ بَيْنَ جبَلَينِ، أراد جانِبَي المدينةِ. يُنظَر: ((إكمال المعلم بفوائد مسلم)) (4/ 56). : يا صَباحَاه [7009] يا صباحاه: كَلِمةٌ تقالُ عِندَ هُجومِ العَدُوِّ، وخُصَّ هذا الوقتُ؛ لأنَّه كان الأغلَبَ لوَقتِ الغارةِ، فكأنَّ المعنى: جاء وقُت القتالِ فتأهَّبوا. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 142). يا صَباحاه! ثم اندَفَعْتُ حتَّى ألقاهم، وقد أخذَوها، فجعَلْتُ أرميهم، وأقولُ:
أنا ابنُ الأكوَعِ
واليَومُ يومُ الرُّضَّعِ [7010] الرُّضَعُ: المرادُ بهم اللِّئامُ، أي: اليومُ يومُ هَلاكِ اللِّئامِ. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (6/ 164).
فاستَنْقَذتُها منهم قبلَ أن يَشرَبوا، فأقبَلْتُ بها أسوقُها، فلَقِيَني النَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، فقُلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، إنَّ القومَ عِطاشٌ، وإنِّي أعجَلْتُهم أن يَشرَبوا سِقْيَهم، فابعَثْ في إثرِهم، فقال: يا ابنَ الأكوَعِ: مَلَكْتَ، فأسجِحْ؛ إنَّ القومَ يُقْرَون في قَومِهم))
[7011] أخرجه البخاري (3041)، ومسلم (1806). .
قولُه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم: ((فأسجِحْ)) أي: ارفُقْ وسَهِّل واعفُ واسمَحْ. والإسجاحُ: حُسنُ العَفْوِ [7012] ((مطالع الأنوار على صحاح الآثار)) لابن قرقول (5/ 456). ويُنظَر: ((العين)) للخليل (3/ 70)، ((فتح الباري)) لابن حجر (1/ 130). .
- وعن أنَسِ بنِ مالِكٍ رَضِيَ اللَّهُ عنه: ((أنَّ يهوديَّةً أتت النَّبيَّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم بشاةٍ مسمومةٍ، فأكَل منها، فجيءَ بها، فقيل: ألا نقتُلُها؟ قال: لا)) [7013] أخرجه البخاري (2617) واللفظ له، ومسلم (2190). .
فالنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عفا عن هذه المرأةِ اليهوديَّةِ -وهي زينبُ أختُ مَرحَبٍ اليهوديِّ الخَيبَريِّ الذي قتَله محمودُ بنُ مَسلَمةَ- التي سمَّت الذِّراعَ يومَ خَيبَرَ، فدعاها فاعتَرَفت، فأطلَقَها عليه الصَّلاةُ والسَّلامُ، ولكِنْ لمَّا مات منه بِشرُ بنُ البراءِ قتَلَها به [7014] ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (7/ 211). .
- وعن عائشةَ رَضِيَ اللَّهُ عنها قالت: ((سَحَر رسولَ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يهوديٌّ من يهودِ بني زُرَيقٍ، يُقالُ له: لَبِيدُ بنُ الأعصَمِ، قالت: حتَّى كان رسولُ اللَّهِ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم يُخَيَّلُ إليه أنَّه يفعَلُ الشَّيءَ وما يفعَلُه! حتَّى إذا كان ذاتَ يومٍ أو ذاتَ ليلةٍ دعا رسولُ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم، ثمَّ دعا، ثمَّ دعا، ثمَّ قال: يا عائشةُ، أشعَرْتِ أنَّ اللَّهَ أفتاني فيما استفتَيتُه فيه؟ جاءني رجلانِ فقَعَد أحَدُهما عِندَ رأسي والآخَرُ عِندَ رِجْلي، فقال الذي عِندَ رأسي للذي عِندَ رجلي، أو الذي عِندَ رِجلي للذي عِندَ رأسي: ما وَجَعُ الرَّجُلِ؟ قال: مطبوبٌ [7015] مطبوبٌ: أي: مسحورٌ، يقالُ: طُبَّ الرَّجُلُ بالضَّمِّ: إذا سُحِرَ، يقالُ: كَنَّوا عن السِّحرِ بالطِّبِّ تفاؤُلًا، كما قالوا للَّديغِ سَليمٌ. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (10/228). ، قال: مَن طَبَّه؟ قال: لَبيدُ بنُ الأعصَمِ، قال: في أيِّ شيءٍ؟ قال: في مُشطٍ [7016] المُشطُ: هو الآلةُ المعروفةُ التي يُسَرَّحُ بها شَعرُ الرَّأسِ واللِّحيةِ. يُنظَر: ((فتح الباري)) لابن حجر (10/229). ومُشاطةٍ [7017] المشاطةُ: الشَّعرُ الذي يَسقُطُ من الرَّأسِ واللِّحيةِ عِندَ التَّسريحِ بالمُشطِ. يُنظَر: ((المعلم بفوائد مسلم)) للمازري (3/162). ، قال: وجُفِّ [7018] الجُفُّ: وِعاءُ الطَّلعِ، وهو الغِشاءُ الذي عليه. يُنظَر: ((المعلم بفوائد مسلم)) للمازري (3/162). طَلعةِ ذَكَرٍ، قال: فأين هو؟ قال: في بِئرِ ذي أروانَ. قالت: فأتاها رسولُ اللَّه صلَّى اللهُ عليه وسلَّم في أناسٍ من أصحابِه، ثمَّ قال: يا عائشةُ، واللَّهِ لكأنَّ ماءَها نُقاعةُ الحِنَّاءِ، ولكأنَّ نَخلَها رؤوسُ الشَّياطينِ! قالت: فقلتُ: يا رسولَ اللَّهِ، أفلا أحرَقْتَه؟ قال: لا، أمَّا أنا فقد عافاني اللَّهُ، وكَرِهتُ أن أثيرَ على النَّاسِ شَرًّا، فأمَرْتُ بها فدُفِنَت)) [7019] أخرجه البخاري (5763)، ومسلم (2189) واللفظ له. .
فالنَّبيُّ صلَّى اللهُ عليه وسلَّم عفا عن لَبيدِ بنِ الأعصَمِ، الذي سَحَره، عليه الصلاةُ والسَّلامُ، ومع هذا لم يَعرِضْ له، ولا عاتَبَه، مع قُدرتِه عليه [7020] ((تفسير القرآن العظيم)) لابن كثير (7/ 211). .

انظر أيضا: